كان طارق سعيد الخمسيني يجلس كل يوم ليتناول قهوة الصباح في أحد المقاهي الشهيرة بميدان الجيزة قبل أن يذهب إلى عمله. لكنه اكتشف منذ أكثر من ثلاثة أعوام أن جودة القهوة لم تعد كسابق عهدها وتحولت مجرد محلول بني اللون أقرب إلى مياه الفول. لمجرد أن يأخذ الرشفة الأولى من الفنجان، يتلاشى الوجه وتسقط المكونات في القعر وتتحول القهوة مشروباً مرّاً منفّراً لا مذاق ولا رائحة له. أحياناً يشعر بأن فمه مليء بالتراب. يقسم سعيد أنه نسي طعم البن الجيد وفقد الأمل في إيجاده. أما مصطفى العسال (55 سنة)، والذي اعتاد أن يبدأ يومه في مقهى بحي الدقي قبل الذهاب إلى عمله في وزارة الزراعة، فبات يشعر بأنه يشرب مخلفات بن، سائلاً لا له علاقة بالقهوة. يقول لرصيف22: "بقيت بمشي بكيس البن معايا في الشنطة وبديه للقهوجي يعملي منه”. عندما تقررون تناول فنجان قهوة تركي في بعض المقاهي البلدية بمصر ستكتشفون أنكم تشربون سائلاً أسمر اللون لا يقترب إلى طعم البن التقليدي المتعارف عليه أو رائحته. سترشفون منه رشفة أو اثنتين ثم تتركونه متسائلين: ما هذا السائل المعكر اللون الذي لا طعم له ولا رائحة، وقد تصابون باضطراب في المعدة. فما حكاية البن المغشوش في بعض مقاهي القاهرة؟
من الذي يغش البن؟
"أنا بشرب على الأقل 3 كوبيات قهوة في اليوم يعني بدفع حوالي 20 جنيه، وكل كوباية أردأ من اللي قبلها غيرت قعدتي وروحت أماكن تانية وشربت من أم 15 جنيه في القهاوي الفخمة برضه نفس الطعم”، يقول يوسف هاشم لرصيف22، واصفاً رحلته في البحث عن قهوة نقية في مقاهي القاهرة. ويكاد يجزم أنه لم يجد في منطقة الجيزة وسط القاهرة أي مقهى يقدم قهوة ببنّ غير مغشوش. وخلال جولة قام بها كاتب المقال على عشرات المقاهي في القاهرة، بداية من حي الجيزة مروراً بمنطقة بولاق الدكرور وصفط اللبن وبين السرايات ومنطقة فيصل والهرم والدقي والعجوزة، إضافة إلى أحياء القاهرة القديمة، وجد أن القهوة في غالبية الأوقات مغشوشة. يتلاشى وجه القهوة، أو الطبقة العليا منها، تلقائياً بعد أن يضعها أمامكم النادل ببضع ثوان. تمر دقيقة بعد الرشفة الأولى، لتلاحظوا أن جميع المكونات رقدت أسفل الكوب الزجاجي، مكونة ما يشبه مادة ترابية ممزوجة بالطين، وأن لون القهوة أصبح شفافاً. أما بالنسبة إلى الطعم، فهو سيئ جدّاً، تشعرون طيلة الوقت بأن هناك خلطة أعشاب غُليت جيداً وقدّمت لكم، ومن الصعب تبين حتى نوع الإضافات. وفي النهاية تشعرون بمرارة تبقى في الفم. ويظهر الغش في أوجهه عض المناطق الشعبية مثل منطقة الكوبري الخشب، المؤدية إلى حي بولاق الدكرور، والتي يباع فيها كوب القهوة بسعر منخفض. البن المغشوش موجود في بعض مقاهي كورنيش مدينة الإسكندرية أيضاً. يقول خميس الطيب (منتصف الثلاثينيات)، وهو أحد عمال مقهى كبير في حي الجمرك بالإسكندرية، أن صاحب المقهى الذي يعمل به يعرف أن البن رديء جداً. يضيف لرصيف22: "منذ سنوات، كان يطلب مني أن أذهب إلى محطة الرمل لتأمين مخزون المقهى الأسبوعي من محمصة شهيرة هناك، ولكن بعد زيادة ثمن البن في المحامص، أصبح يعتمد على الباعة المتجولين الذين يبيعون بناً لا نعرف مصدره”. يقول سعيد محمود (63 سنة)، والذي ورث محمصة عن والده ويستورد البن من الخارج منذ أكثر من ثلاثين سنة أن فنجان القهوة التقليدي، الغير مغشوش، والذي يتناوله المصريون، يعتمد بنسبة كبيرة على البن البرازيلي أو الإندونيسي. ولا يزيد ثمن كيلو البن البرازيلي عن 90 جنيهاً (حوالى 5 دولارات) بحسب محمود، أما الأنواع الأخرى الموجودة فيقل الطلب عليها مثل البن اليمني الذي يصل سعر الكيلو منه إلى 450 جنيهاً (حوالى 25.5 دولار) يليه البن الكولومبي بسعر 140 جنيهاً (حوالى 8 دولارات). كان سعر البن الجيد في مصر منذ أقل من عامين يتراوح بين 45 و55 جنيهاً (2.5 – 3 دولارات)، وكان من الممكن الحصول على ربع كيلو بن بكل سهولة الحصول من محمصة العروبة في حي الدقي بالجيزة بـ13 جنيهاً (0.7 دولار). أما الآن فالمبلغ نفسه في بعض المقاهي لا يكفي ثمن فنجان قهوة". أكد حسن فوزي، رئيس شعبة البن في غرفة القاهرة التجارية بتصريح صحافي لأكثر من موقع وصحيفة بعد شهرين من تعويم الجنيه، أن أسعار البن ارتفعت بعد تعويم الجنيه بنسبة 50%، مع وصول سعر طن البن الأخضر إلى 500 دولار، وبالتبعية وصل سعر الدولار الجمركي إلى 19 جنيهاً، ما جعل التجار يضيفون الزيادة إلى السعر النهائي للبن. إذا كان الغش في البن منتشراً منذ سنوات بعيدة، وهو بلا شك تفاقم كثيراً بعد تعويم الجنيه المصري – تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية – في 3 نوفمبر 2016. فما بالنا بحال الغش الذي وصل إليه من يعمل في البن المغشوش هذه الأيام؟ فبعد تعويم الجنيه بأسابيع قليلة، رفعت مقاهي القاهرة والجيزة كلّها ثمن جميع المشروبات ومعسل الشيشة جنيهاً واحداً (0.05 دولار). وعلى الرغم من رفع سعر فنجان القهوة بسبب التعويم، إلا أن رداءتها زادت أكثر بدعوى أن البن أصبح غالي الثمن، فأصبح المستهلك يقع بين مطرقة التعويم وسندان بعض تجار البن المغشوش وأصحاب المقاهي. يقف عادل خلف بوفيه أكبر مقاهي ميدان العباسية بمحافظة القاهرة، وهو المهتمّ بإعداد جميع أنواع المشروبات للزبن، ويعلم أن ما يقدمه لهم ليس قهوة. يقول لرصيف22: "هوا اللي الناس بتشربه ده بن؟ صاحب القهوة بيجيب نوع بن رديء بأربعين جنيه ومنبه علينا إن كل كوباية نحطلها تلقيمة (ملعقة صغيرة) بن واحدة علشان الكيلو يعمل حوالي سبعين كوباية في 6، مش مهم الزبون يتبسط بالطعم المهم يدفع”.كيف يُغشّ البن ويُخلط؟
الغش، بحسب محمود إسماعيل صاحب محمصة المعز في منطقة الغورية بالقاهرة، لا يبدأ في المحمصة نفسها، بل يقوم به صاحب المقهى أو إدارته. ترجع جودة البن إلى درجة تحميصه، فالبن الجيد يُحمّص قليلاً، ليكون لونه فاتحاً، ويصعب غشه بأي طريقة. خارج البن مثل الفول السوداني أو الحمص. أما البن الأقل جودة، والذي يعتبر مرتعاً للإضافات، فيُحمّص كثيراً ليصبخ لونه غامقاً ويمكن صانعه أن يزوده بسكر محروق أو نواة بلح. "ليست هناك محمصة تجرؤ على المجازفة بسمعتها لإعداد قهوة ببن مغشوش، ولكن ما يحدث أن أصحابها يشترون البن من تجار غير مختصّين يغشون البن، حيث يضيفون إلى كل كيلو بن حوالى 400 غرام من الفول السوداني المحمص والمطحون، ويعبئونه في أغلفة تحت أسماء مزيفة”، يقول إسماعيل لرصيف22. يرى خالد سلامة، صاحب محمصة في حي عابدين بالقاهرة، أن هناك إضافات كثيرة إلى البن لغشه وتحقيق مكاسب كبيرة، أبرزها الحمص والقمح والفول السوداني والترمس والسكر البني ونواة البلح والأرز وغالبيتها مليئة بدهون تشبه دهون البن المطحون، ولا تمكن ملاحظتها إلا بتحليل البن. "للأسف الغش في البن سهلٌ للغاية فهو لا يحتاج إلى معدات أو إلى إمكانات أو تكنولوجيا”، يقول لرصيف22.آلية الغش...
تعتمد المقاهي الصغيرة على الباعة الجائلين الذين يغشون في البن ويعبئونه ويبيعونها على إياه بسعر بخس وأقل بكثير من أسعار السوق. أما المقاهي الكبيرة، فلديها معداتها التي تغش وتخلط بها. الآلية سهلة، بحسب سلامة. فصاحب القهوة يأتي بـ300 غرام من البن المتوسط الجودة ويضيف إليه ربع آخر أقل جودة ويخلطه بحوالى 10 نوًى للبلح جيدة التحميص ويضيف إليه حب هال مطحوناً لتغلب رائحته رائحة البن، ويُكمل بقية الكمية بفول سوداني محمص حتى يصبح لونه قريباً من البن ويطحنه. هناك من يقوم كذلك بإضافة سكر محروق بلا طعم ولا رائحة ليوازن به درجة اللون النهائي ويعبئه في أغلفة تحمل أسماء وهمية ويبيعه للمقاهي بأسعار منخفضة جداً. يبيعه للمقاهي تحديداً لأنه متأكد من أنه ستنتهي منه في أسرع وقت، لأن معدل الاستخدام اليومي للقهوة كبير جداً، ولا يجازف بعرضه على أصحاب محال البقالة حتى لا ينكشف أمر الغلاف الوهمي أو يبقى وقتاً طويلاً على أرفف البضاعة ويضطر التاجر لإرجاع البن واسترداد ماله. لذلك، ينصح أحد منتجي البن محبي القهوة التركية بشراء محمصة صغيرة وعمل القهوة في البيت وذلك بشراء بن أخضر، حيث لا يتعدى ثمنه 30 جنيهاً، وتحميصه وإضافة الهال أو جوزة الطيب كما يشاء.من الذي يراقب المقاهي في مصر؟
تخضع المقاهي فى مصر لجهات رقابة كثيرة أبرزها شرطة المرافق وجهاز البيئة ووزراة الصحة، تحديداً هيئة السلامة والصحة المهنية. يقول أحد موظفي مديرية الصحة المصرية منذ عام 1995 (رفض ذكر اسمه) عمل عشر سنوات مفتش صحة، أن جزءاً من مراقبة المقاهي يرجع الى مديرية الصحة، وذلك من طريق مفتشي صحة يمرون على المقاهي والمحال التجارية. "للأسف! يقتصر دور المفتشين بمعظمهم على التأكد من وجود شهادة صحة مختومة للشخص الذي يعد المشاريب بيده فقط، وإذا لم يجدوها يتقاضون إكرامية بـ200 جنيه، ويأخذ خمس صور شخصية للعامل لإصدار شهادة”، يقول الموظف لرصيف22. ما يحدث عموماً، بحسب قوله، هو أن المفتشين يذهبون إلى متاجر تبيع المواد الغذائية لتلقّي شهريّة من كل محل تتراوح بين 50 – 250 جنيهاً (بين حوالى 3 و14 دولاراً) حسب حجم المتجر، وذلك مقابل عدم تحرير محضر ببضاعة منتهية الصلاحية أو عدم نظافة أحد العاملين أو وجود حشرات في مكان إعداد المشاريب بالمقاهي. يقول محامي النقض محمد أيمن، والذي يعمل في شركة تهتم ببورصة الحبوب الزراعية، أن المواد الخاصة بتنظيم عمل المقاهي لا تسمح بأخذ أي عقوبة رادعة، حتى وإن ثبت غش أصحاب المقهى في البن، لأن قانون تنظيم العمل في المقاهي والمحال العامة الرقم 453 لعام 1934 يقول أي مخالفة تحصل سواء كانت الفتح أو ممارسة نشاط من دون ترخيص أو إشغالات أو عمل في المواعيد غير المحددة أو فض الشمع الأحمر بعد الغلق، تعتبر جنحة. وغالباً ما يحكم بالجنحة بغرامة مئة جنيه (حوالى ست دولارات) "لك أن تتخيل اهتمام المقاهي بالاعتماد على بن رخيص ومغشوش لتحقيق مكاسب كبيرة”، يقول لرصيف22. يقول عمرو السني، المحامي في المحكمة الإدارية العليا ومجلس الدولة، أن إغلاق المقاهي بالشمع الأحمر يحصل "على الورق فقط". فبحسب قوله، بات معلوماً لمجرد ذهاب أفراد الشرطة، سيقوم صاحب المقهى بفض الشمع وعلى هذا الأساس يأخذ مسؤول التشميع إكرامية تصل إلى خمسين جنيهاً (حوالى 2.8 دولار) من صاحب المقهى ويحرّرون محضر فض الشمع في الوقت نفسه. "يخبرهم صاحب المقهى باسم أي شخص وهمي ليضعوه في خانة المتهم عن كتابة محضر فض الشمع، ثم يأتي تنفيذ الأحكام للبحث عن هذا الشخص المتهم فلا يجدونه"، يقول لرصيف22. بذلك، تظل القضية معلقة لمدة ثلاثة أعوام حتى تسقط تلقائياً بانقضاء مدتها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع