لكن عودة الحريري إلى الصفّ المدرسي لم تكن بهذا السوء. عبر هاشتاغ "دقّ الجرس" الذي انتشر سريعاً، قابل انتقاد الرئيس حفاوةٌ ظاهرة بالسياسي الشاب العفويّ الذي يشبه أيّ أب قد يزور مدرسة أطفاله ويتحدث إلى رفاقهم، بثيابه "الكاجوال" وإجاباته العفويّة التي تنوّعت بين السياسة والصداقة والعائلة.
ولكن ما الذي يجعل جدول رئيس الوزراء المزدحم في بلد كلبنان، يستعدّ لاستحقاقه البرلماني خلال شهرين ويواجه استحقاقات أخرى سياسية وأمنيّة ونفطيّة، أن يجد مساحة من الوقت كافية لجلسة دردشة في صفّ مدرسيّ؟
استخدام الإعلام لربح الانتخابات
سؤال شبيه كان قد طرحه الإعلامي المخضرم غلين هاربروكس في نصّه "كيف يستخدم السياسيون وسائل الإعلام ليربحوا الانتخابات؟"، لمناسبة ظهور الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مع الكوميدي والممثل السابق ديفيد ليترمان في برنامجه على منصة "نتفليكس" الرقميّة.
لم يكن تواجد أوباما إلى جانب ليترمان محض صدفة. لم يكتشف مساعدوه فجأة أن في جدوله الزمني فراغاً يسمح له بهذا النوع من المقابلات، بل وجدوا أن هذا النوع من البرامج تتيح للسياسي الظهور كما يرغب دون أن يضطر للإجابة عن أسئلة مزعجة بشأن سياساته.
حسب هاربروكس، يمكن للشخص أن يتحدث من هذا الموقع عن أسرته وآماله في عالم أفضل لنا جميعاً، ويجيب عن أسئلة حول الرياضة مثلاً، فيبدو مسترخياً و"بشرياً" (طبيعياً كعامة الشعب).
لفت هاربروكس كذلك إلى أن معاوني المسؤول يعرفون جيداً أن إيجاد البرنامج الإذاعي السياسي المناسب (أو المنصة الإعلامية المناسبة) عامل أساسي في مساعدته على الفوز بالانتخابات.
بلغة تناسب أعمارهم، أخبر الحريري الأولاد عن تعلّقه بأطفاله وحرصه على بقائهم في السعودية ليعيشوا حياة طبيعيّة خالية من الإجراءات الأمنيّة المشددة. تحدث عن حبّه لأم أولاده وعن حزنه على وفاة شقيقه.
عرفوا كذلك أنه يشجّع البرازيل وفريق ريال مدريد، وكاشفهم بأنه لم يعد صديقاً لأشرف ريفي لأن أساس الصداقة الوفاء.
لم تكن صورته تلك بالجديدة على من يشاهدها، منذ قرّر خلع سترته بتلك الطريقة الفنيّة قبل أعوام، أو مؤخراً حين أعاد الحياة إلى وسط بيروت وبدا فرحاً خلال مشاركته في الحفل الموسيقيّ ليلة رأس السنة، كما حين نزل إلى السوبرماركت للتبضّع بنفسه.
لم يعد يُنظر إلى السياسيين على أنهم شخصيات مرموقة، على العكس، وربما أكثر من أي وقت مضى، بات ملحاً أن يثبت السياسي أنه مجرّد إنسان عاديّ
يظهر الملك الأردني عبد الله في إحدى الصور ينظّف عين زوجته، وحاكم دبي محمد بن راشد ونجله حمدان يتنقلان داخل لندن بواسطة المترو، أما رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، فرأيناه يتبضع في السوبرماركت… هل تنجح محتولاتهم في أن يظهروا أناساً عاديين؟
بين الحريري وتاتشر... صورة
أخطأ الحريري بسعر ربطة الخبز، وبدا ذلك فاضحاً بالنسبة للرئيس، لكن هل المشكلة في أنه لا يعرف ثمنها حقاً أم في أن جهله بثمنها انكشف على العلن؟
كانت رئيسة الوزراء البريطانيّة مارغريت تاتشر تعرف أسعار جميع السلع الغذائية، وتحرص على متابعتها بشكل دوري. فهل كانت بذلك قريبة من عامة الشعب؟ إن كان الأمر كذلك، فلماذا حاربت النقابات وخصخصت القطاعات المنتجة ولاحقتها الانتقادات بشأن سياساتها الاقتصاديّة؟
تكمن كلّ المسألة في الصورة التي بدأ ينتبه إليها سياسيون كثر منذ العام 1960 الذي شهد أول مناظرة مصوّرة بين مرشحَيْن للرئاسة الأميركية، غلبت فيها حظوظ كينيدي، الذي آثر استخدام الماكياج والاستعداد الجسدي الجيّد للمناظرة، على نيكسون الخارج من وعكة صحيّة.
مع تكريس التلفاز، ولاحقاً وسائل التواصل الاجتماعي، لأهميّة الصورة، أصبح الماكياج ضرورياً ليس فقط للوجه بل للأداء أيضاً.
وفي عالم يفتقر لقياديين كاريزماتيين عرفهم العالم في السابق، لم يعد الجمهور قادراً على احتمال السياسيين الحاليين الفاقدين للخبرة والنوعيّة والقدرة على اتخاذ القرار، على ما يقوله الصحافي آلكس براود.
هكذا أصبح اللجوء إلى المؤثرات البصريّة والحيل النفسيّة ضرورياً، إذ لم يعد يُنظر إلى السياسيين على أنهم شخصيات مرموقة، على العكس، وربما أكثر من أي وقت مضى، بات ملحاً أن يثبت السياسي أنه مجرّد إنسان عاديّ.
رأينا أوباما ممدّداً على سجادة البيت الأبيض وهو يقوم بحركات طفولية، وتابعنا رئيس وزراء كندا جاستين ترودو، بجواربه المزخرفة، يعود مراهقاً ليرقص ويلعب على الدراجة الهوائية فرحاً، والمستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل تلتهم السمك بيدها كأي مواطن عادي أو تتبضع برفقة زوجها، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمارس الرياضة على شرفة منزله، وغيرهم كثر.
لم يكن العالم العربي بعيداً عن ذلك النهج وإن بدأ باتباعه متأخراً، وبشكل أقل جرأة وطبيعيّة.
يظهر الملك الأردني عبد الله في إحدى الصور ينظّف عين زوجته الملكة رانيا، أو يشبك يده بيدها، بأريحيّة بادية، وحاكم دبي محمد بن راشد ونجله حمدان يتنقلان داخل العاصمة البريطانية لندن بواسطة المترو، في ما وصفته صحيفة "تليغراف" بـ"حدث استثنائي".
ورصدت مؤخراً الكاميرات في مركز تجاري في أبوظبي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وهو يتجوّل بصحبة وليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، كما انتشرت صور للرئيسين وهما يجلسان على طاولة صغيرة فارغة كما لو أنهما صديقين التقيا عرضاً لتبادل الأحاديث.
وسائل التواصل والقدرة على الإقناع
لفترة طويلة بدا حكام ومسؤولون كثر في العالم العربي مرتاحين على أوضاعهم، على قاعدة العلاقة التي تربط المواطن بالحاكم، حيث يطغى إعجاب الأول بالثاني واستسلامه له على تلك العلاقة، ويرى فيه نوعاً من الإنسان الفائق الذي له حق شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات.
أتت وسائل التواصل الاجتماعي لتخلق واقعاً جديداً، أو ربما لتظهر إمكانيّة وجوده فحسب، فقد أعطت لكل شخص منصة للتعبير وقدرة على التأثير، لمس عبرهما إمكانيته الحقيقية على التغيير. وعبر تلك الوسائل، اكتشف الناس قدرتهم على المحاسبة والملاحقة، وكذلك فعل المسؤولون.
التحق منهم من التحق بتلك الوسائل، بشكل شخصي أو عبر مساعديه، وباتت فكرة مشاركة المسؤول يومياته أو صور عائلته أو كلامه الوجدانيّ أكثر حضوراً.
يُذكر أن التحضير للانتخابات البرلمانيّة اللبنانية، التي تأخرت لتسع سنوات، يجري اليوم في وقت تفرض فيه وسائل التواصل تأثيرها على ديناميكية الحملات الانتخابية والخطاب السياسي، مقارنة بالدورة السابقة التي كانت فيها تلك الوسائل غائبة بشكل شبه كامل.
لكن المسألة تبقى في قدرة أولئك السياسيين على إقناع الجمهور بـ"عاديّتهم". قد تبدو أخبار البعض طبيعية نظراً لانسجامها مع الثقافة السائدة في تلك البلدان، كوصول رئيس الوزراء الهولندي على الدراجة الهوائية للقاء الملك من أجل إعلامه آخر تطورات تشكيل الحكومة الجديدة. وفي هولندا، تُعتبر الدراجات الهوائية أكثر وسائل النقل انتشاراً بين السكان.
لكن حين يستخدمها رئيس في دولة عربية كلبنان تفتقد لشبكة نقل عام وتغيب فيها أبسط مقومات الحفاظ على البيئة، قد يبدو الأمر مثيراً للسخرية.
في المقلب الآخر، تثير تصرفات المسؤولين، على اختلاف الأنظمة السياسية والمجتمعات، السخرية أحياناً.
يشير تحقيق لـ"بي بي سي"، يسخر من سياسيين غربيّين يحاولون أن يبدوا عاديين، إلى أن "المشكلة في هؤلاء أنهم لا يبدون مرتاحين أثناء قيامهم بذلك الدور، لا بل مثيرين للسخرية أحياناً".
هؤلاء يبالغون في إظهار مدى سعادتهم وهم يمارسون دور "شخص عادي"، فيجلس مثلاً زعيم حزب العمال إد ميليباند مكان سائق باص راسماً ضحكة عريضة على وجه، لم يرها أي ممن يركبون الباص يومياً على وجه سائقه من قبل.
"لكن لا يجب أن نكون قساة على السياسيين. إنها لمهمة صعبة أن ينشغل أحدهم بإدارة البلاد ويكون شخصاً عادياً"، يختم معدّ تقرير "بي بي سي" ساخراً. لكن مهلاً، ربما يكون التصرّف المثير للسخرية هو أول الطريق نحو الوضوح الذي انتظره الجمهور طويلاً من السياسي المنشغل بتلميع صورته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه