تواجه طائفة "القرّائين" اليهودية في إسرائيل اتهامات تصل حدّ التكفير. وتمارس مؤسسات إسرائيلية ضدّها أنواعاً مختلفة التمييز والتهميش والعنصرية، لمجرد أن طقوسها وقناعاتها الدينية تغاير طقوس الأكثرية اليهودية الأرثوذكسية.
لا يحتفل "القرّاؤون" بعيد "حانوكا"، ولا يضيئون الشموع أيام السبت، ويحددون أعيادهم وفق رؤية الهلال. كما يصلّون بطرق مختلفة وفي كُنُس مغايرة لكُنُس اليهود الربّانيين. وتحصل المرأة القرّائية على حقوق أفضل بكثير من تلك التي تحصل عليها نظيرتها الربّانية.
وفيما دافعت المحكمة العليا في إسرائيل أكثر من مرة عن حقوق هذه الطائفة، أوصى تقرير لجنة "بيتون"، الصادر في فبراير 2016، تحت عنوان "تأصيل هوية يهود إسبانيا والشرق في منظومة التعليم الإسرائيلية" بتعديل الصورة الشيطانية للقرّائين في المناهج الدراسية، لكن أحداً في إسرائيل لم يكترث بتلك التوصيات.
يهود من الدرجة الثانية
"القرّاؤون" البالغ عددهم 40 ألف نسمة في إسرائيل، يعانون من التمييز كما يذكر المحامي ناريا هاروئي، سكرتير محكمة الطائفة لصحيفة "ماكوريشون" العبرية، ويؤكد: "إن إسرائيل لا تساوي بيننا وبين الربّانيين (الأرثوذكس)، ونشعر بأننا يهود من الدرجة الثانية إذ لا نجد حتى الآن مَن يمثلنا في مؤسسة الأحبار الإسرائيلية العليا، علماً أننا كقرّائين لا نعترف بصلاحية أي شخص، لا سيما الأحبار، في تفسير التوراة عبر رؤى ملزمة للجميع". وأشارت معطيات لجنة "بيتون" إلى أن "القرّائين" لا يحظون بذكر مؤثّر حتى في مناهج التعليم. وتطرّق رئيس اللجنة الشاعر إيريز بيتون إلى تلك القضية بقوله: "أرى أن الحديث عن "القرّائين" في مناهج التعليم ضئيل للغاية. ينبغي التأكيد على وجود مثل تلك الطائفة في إسرائيل، وأن يلحظ الطالب القرّائي ذلك في الكتب". [caption id="attachment_138336" align="alignnone" width="1000"] كنيس القرائين في مدينة القدس القديمة[/caption] وأبدى بيتون فزعه من العبارة الواردة في الصفحة رقم 140 من كتاب الحبر سعديا بن جاؤون ومفادها: "قاتل القرّائين الذين هددوا بتفريق وحدة الشعب اليهودي". ورأى بيتون أن تلك العبارة "مسرحية غير منطقية، تهدف إلى شيطنة القرّائين"، وأضاف: "لم يحاول أبناء طائفة "القرّائين" على مرّ التاريخ تفريق الشعب، لكنهم خاضوا نضالاً ضد أقطاب اليهود الربّانيين حول وجهات نظر مشروعة". وذكرت صحيفة "ماكوريشون" أنّه بعد توصيات تقرير بيتون، زار أعضاء المجلس الأعلى العالمي لليهود "القرّائين" مكتب وزير التعليم نفتالي بينت، وطلب أحبار الطائفة الوقوف على آليات تفعيل الوزير لتوصيات التقرير، إلا أن بينت لم يستجب لهذا الطلب حتى الآن.غياب تام عن مناهج التعليم
وفي تعليقه على الأمر، يؤكد المحامي ناريا هاروئي "أن المسؤولين الإسرائيليين لا يعتقدون فقط أن القرّائين يشكّلون خطراً، بل أنهم لا يعترفون بيهوديّتهم، ويعتبرونهم أعداءً، بالإضافة إلى تعمُّد واضعي المناهج الدراسية، لا سيما في دروس التاريخ، تقليص أي ذكر للقرّائين. أما دروس التفسير، فتتجاهل عرض رؤية أحبار طائفتنا للتوراة. نحن فعلياً خارج أي إطار". ويضيف: "في إسرائيل مجموعة يهودية واحدة فقط تكتسب نفوذاً واسعاً، وهي طائفة الربّانيين (الأرثوذكسية). وفي ظل هذا الواقع، ليس هناك اعتبار لأي طائفة دينية أخرى، سواء أكانت يهودية أو لا. لا توجد حرية دينية حقيقية في إسرائيل. أستشعر وعي الشعب في إسرائيل، فالجماهير تتفهم من جانب مشاكل اليهودية الربّانية، إلا أنها على الجانب الآخر لا تعرف شيئاً عن البديل".يقول الحاخام سعديا بن جاؤون... "قاتل القرّائين الذين هددوا بتفريق وحدة الشعب اليهودي"... تعرّف على اليهود القرائين وعلى تعاطي اليهودية الأرثوذكسية معهم
لا يحتفلون بعيد "حانوكا"، ولا يضيئون الشموع أيام السبت، ويحددون أعيادهم وفق رؤية الهلال... تعرّف على اليهود القرائينعلى مرّ السنين، كانت وزارة الأديان الإسرائيلية تخصص إدارة للنظر في أمور "القرّائين". وبعد إلغاء الوزارة عام 2003، انتقل التعامل مع "القرّائين" إلى وزارة الداخلية. وحينما سأل أبناء الطائفة الوزارة حول اعتراف إسرائيل بهم، حوّلتهم إلى هيئة الإسكان والهجرة، وهناك كان الرد: "الهيئة تسجل ديانة كل شخص وفقاً لقائمة الديانات التي تعترف بها الدولة، لا هيئة الإسكان والهجرة. فليس من صلاحية الهيئة الاعتراف بتيار أو طائفة". وعلى الرغم من اعتراف باحثين بأن "القرّائين" طائفة يهودية شكلاً وموضوعاً، رأى بعض كبار الأحبار على مرّ التاريخ أنهم طائفة غير شرعية. وفي حوار أجرته صحيفة "غلوبس" العبرية عام 2011 مع حبر اليهود الشرقيين الأكبر حينذاك شلومو عمَّار، قال: "إن طائفة القرّائين وغيرهم من اليهود الإصلاحيين والمحافظين، يتعمَّدون تغيير وجه اليهودية، ويخالفون القواعد الأساسية المعمول بها منذ ثلاثة آلاف عام، لذلك يرفض حاخام إسرائيل الأكبر لقاءهم، أو منحهم أي شرعية".
جزء أصيل من التعددية اليهودية
لكن البروفيسور دانيال ليسكر، وهو محاضر في الفكر الإسرائيلي بجامعة بن غوريون وباحث متخصص في طائفة "القرّائين"، يرى أن تلك الطائفة جزء أصيل من التعددية اليهودية المعروفة على مرّ التاريخ، إلا أن التأريخ الحاخامي التقليدي يرفض التعددية، ويصرّ على يهوديّة واحدة فقط. أما رؤية الحبر عمَّار للقرّائين، فتجسد وجهة النظر التي ترفض الاعتراف إلا بيهوديّة واحدة، كما نقلت "ماكوريشون" عن ليسكر. ويتقاطع تاريخ يهودية "القرّائين" مع محاولات الاعتراف بالطائفة، وإبراز اختلافها عن طائفة الربّانيين (الأرثوذكسية). وتمركزت الطائفة في بداياتها التاريخية في بابل، والعراق، وإيران، وفلسطين، ومصر، وشمال إفريقيا. وفي بداية القرن الخامس عشر، تأسست طائفة "قرّائين" في شرق أوروبا. وتورّط عدد من اليهود "القرّائين" في قضية التخابر الشهيرة بـ"قضية لافون" في خمسينيات القرن الماضي. وكشفت القضية حينها أن عدداً من اليهود المصريين زرعوا بتحريض من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية قنابل في أماكن عامة في مصر. ومن أبرز الضالعين في القضية الدكتور موشي مرزوق، وهو يهودي ينتمي إلى طائفة "القرّائين" كان طبيب أطفال في مصر، وحُكم عليه بالإعدام بتهمة الخيانة والتجسس لصالح إسرائيل، بعد إلقاء القبض على أعضاء الخليّة.التبرّؤ من اليهودية هرباً من الاضطهاد
إبان القرن التاسع عشر، وفي روسيا القيصرية، حظرت روسيا منح المواطنة لليهود على خلفية مشاركتهم في قتل المسيح، فحاولت طائفة "القرّائين" في تلك الحقبة إثبات وجودها القديم في البلاد. وتمكن "القرّاؤون" من الحصول على اعتراف روسيا المنفرد بهم، بعيداً عن الديانة اليهودية. ولهذا الغرض حاول الحبر "القرّائي" في روسيا أبراهام بروكوفيتش إثبات أن "القرّائين" ليسوا جزءاً من الشعب اليهودي، هرباً من القوانين المناوئة لليهود في تلك الفترة. ويبدو أنهم قدّموا وثائق مزوّرة، وصوراً ملفقة لشواهد قبور يعود تاريخها إلى ما قبل صَلب المسيح، وحصلوا بموجب تلك الوثائق على حق المواطنة، بحسب ما نقلته الصحيفة العبرية عن البروفيسور حاجي بن شماي، وهو أستاذ شرف في قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة العبرية، وباحث في شؤون طائفة "القرّائين". ويؤكد بن شماي أن مسألة نفي انتساب "القرّائين" لليهودية أنقذت الكثيرين من أبناء تلك الطائفة خلال المحرقة النازية، إذ عجز النازيّون عن تحديد هويتهم الدينية. وفي بولندا، شكَّل النازيّون لجنة علمية لبحث القضية، ووضعوا على رأسها بروفيسوراً يهودياً يدعى مئير بلبان، وكان ضليعاً في تاريخ يهود بولندا، لكنه رأى أن ضميره يلزمه بإنقاذ أكبر عدد ممكن من البشر، فشهد بأن "القرّائين" ليسوا يهوداً، وبذلك نجوا من موت محقق. وتُشتق كلمة "القرّائين" من لفظة "مقرا" (العهد القديم). وخلافاً لليهود الربّانيين، لا يؤمن "القرّاؤون" إلا بالفرائض اليهودية التي تلقّاها موسى على جبل سيناء، وبتلك الواردة في أقوال الأنبياء في العهد القديم. ويرون أن طريقهم هو الأفضل لإقامة فرائض التوراة، ويعتقدون أن التغيّرات التي طرأت على التيارات اليهودية المختلفة، أبعدتها عن أصل التشريع (التوراة)، ولا يعترفون بتفسيرات الأحبار الربّانيين للتوارة. وبحسب تقرير "ماكوريشون"، تعتمد يهوديّة "القرّائين" على ثلاثة أركان رئيسية هي: المكتوب، والاستنتاج، والأعراف التراثية. المكتوب هو العهد القديم، والاستنتاج هو استخلاص العلم من المكتوب عبر المنطق، أما الأعراف التراثية، فهي التقاليد والموروثات القديمة التي انتقلت من جيل إلى جيل، ولا تزال سارية، ولا تتعارض مع المدوَّن في العهد القديم.الركوع وتقبيل الأرض وجلوس القرفصاء
وعلى خلاف المشهد لدى اليهود الربّانيين، يرتاد "القرّاؤون" قبل الغروب كنيس الطائفة في "مركز اليهودية القرائية العالمي" في الرملة. يخلعون نعالهم قبل تجاوز عتبة الكنيس. البساطة عنوان عريض لتفاصيل كنيسهم المفروش بسجادة حمراء والخالي تماماً من المقاعد والطاولات. أما الحيطان فلا تعتليها مظاهر الزخرفة أو التزيين. فقط نقوش لبعض فقرات العهد القديم. يضع المصلّون على رؤوسهم شالاً منسوجاً من خيوط زرقاء شاحبة. يركعون عند دخول المعبد، ويقبِّلون الأرض، وحينما يستقرّون في جلستهم على السجادة الحمراء، تبدأ الصلاة، ويتناوبون خلالها على حركات مختلفة، من بينها جلوس القرفصاء، والانحناء يميناً ويساراً، والوقوف، والسجود، وغيرها. "نؤدّي كل أركان الصلاة الصحيحة كما كانت تؤدّى في عصر الآباء"، يقول للصحيفة العبرية مدير عام الرابطة العالمية لليهود "القرّائين" شلومو جيفر، ويضيف: "التوراة تقول: ‘اخلع نعليك من قدميك، لأن الأرض التي تقف عليها مقدسة’. نحن نصلّي كما كان يصلّي الكهنة واللاويّون (نسبة إلى لاوي بن يعقوب، وهو ثالث أبناء النبي يعقوب من زوجته ليئا بنت لابان ومؤسس سبط اللاويين) في عهد الهيكل. تقوم فكرة القرّائين على أن التوارة والعهد القديم هما المرجعية الوحيدة، وكل ما أضيف إليهما، لا يجوز أن يتعارض معهما".صلاة مختلطة والمرأة حاخاماً
وتنال المرأة القرّائية مكانة أفضل بكثير من نظيرتها الربّانية، ويصلي الرجال إلى جانب النساء بخلاف الربّانيين، ولا تخصص قاعات لصلاة النساء إلا في كُنُس الطائفة الجديدة، لكن النساء لا زلن يصلّين رغم ذلك إلى جانب الرجال، ويحصلن على دور محوري في أداء الصلوات. وخلافاً للربّانيين، توقع المرأة القرّائية إلى جانب الرجل عقد زواجهما، كما لو كان اتفاقية تضمن حقوق كل منهما بالتساوي. ولا تستثنى المرأة القرّائية من الشهادة. وفي حالة الطلاق، إذا رفض الزوج استخراج وثيقة طلاق لزوجته، تصبح المحكمة القرّائية ملزمة باستخراجها نيابة عنه، وهو ما يسمح لها بالزواج من آخر. وتتدرج القرّائية أيضاً في كافة المناصب الدينية، فيمكنها أن تصير قاضية في محكمة قرّائية، أو أن تحتل منصب الحاخام الأكبر. وإلى جانب 40 ألف قرَّائي يتمركزون بمعظمهم في مدينتي الرملة وأشدود، ينتشر عشرات الآلاف من أبناء الطائفة في مختلف دول العالم. على سبيل المثال في الولايات المتحدة، وشبه جزيرة القرم، وتركيا، وأستراليا، وفرنسا، كما تذكر صحيفة "ماكوريشون" العبرية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...