كانت رويدا (20 سنة) طالبة جامعية تحلم في الشهادة الجامعية وتقودها مشاعرها إلى التطلع إلى البحث عن شريك العمر ودفء الحب. لكن عقبة وحيدة وقفت أمام الحلمين، وهي "أنفها" الذي كانت تصفه بالطويل نوعاً ما. كانت صيداً سهلاً لزملائها في الكلية، بل وللمارة أيضاً يمارسون عليها أنواع المعايرة كافة بسبب شكلها. حتى العريس الذي حضر لرؤيتها بعد أن سمع عن أسرتها وأدبها غادر بعد نصف ساعة عقب رؤيتها وملاحظته شكل أنفها. جميع هذه الضغوط زاد عليها رفض والديها خضوع ابنتهم لعملية تجميل وفقاً لما نشر في الصحف المصرية في أكتوبر 2017، فكان الانتحار هو خيار رويدا الأخير. جرعة من سم الفئران كانت كفيلة بالقضاء على حياتها، وكل ذلك بسبب التنمر الذي مارسه عليها الجميع. حالة رويدا ليست وحيدة، وربما تحدث بشكل شبه يومي من دون وعي منا لانتشار ظاهرة الـ "bully" أو التنمر في المجتمع، والتي تدفع إلى انعدام ثقة الكثيرين في أنفسهم بسبب ممارسات عدائية من الآخرين. وهي ظاهرة منتشرة في العالم، بخاصة في المدارس، وتلقى اهتماماً في الغرب على عكس الدول العربية التي لا تنظر إلى الظاهرة بعين الاهتمام، على الرغم من ارتباطها ببعض حالات الانتحار.
ماهو التنمر؟
تقول المعالجة النفسية إلهام الكومي، أن من 15 إلى 20 ألف طالب ينتحرون سنوياً في العالم بسبب تعرضهم لممارسات عدائية، فالوقوع تحت ضغط من المحيطين داخل المدارس وإيذاء الطالب البدني أو النفسي من أقرانه يرفع الأفكار الانتحارية لدى الفرد بنحو 9 أضعاف من الأشخاص العاديين، فضلاً عن أثارها في الإصابة بالاكتئاب والانطواء. أطلق على تلك الظاهرة اسم (التنمر) لأن المتنمر (bully) يشبه النمر في التعامل مع ضحيته وهو شكل من أشكال الإساءة والإيذاء الخطير في المجتمع، والتنمر عبارة عن أسلوب من أساليب الإيذاء (الجسدي أو اللفظي أو النفسي أو الجنسي أو الإلكتروني ) وعملية الإيذاء تتمحور حول ثلاثة أشخاص: المتنمر، الضحية والمشاهد.كيف يتحول الضحية إلى متنمر
عادة ما يكون الأطفال هم الأكثر عرضة للتنمر، فأجواء المدارس مناسبة لممارسة الطفل سطوته أو التعبير عن غضبه من الآخرين، من المجتمع أو من الظروف التي يعيشها في المنزل. تقول د.م (21 سنة)، وهي طالبة في إحدى الجامعات بمصر، أنها عانت من التنمر خلال فترة طفولتها، حيث تعرضت خلال ست سنوات كاملة في المرحلة الابتدائية للضرب والإهانة من زميلة لها في المدرسة ومن بعض أقربائها. وتضيف لرصيف22: "كانت زميلتي تتلذذ بتعذيبي، وأنا طفلة ضعيفة لا أقدر علي مواجهتها، والسبب وراء ذلك أنها تراني أضعف منها ومنطوية على نفسي، وأقل منها جمالاً. فكانت تحاصرني بكل الوسائل". انتقلت إلى مدرسة أخرى خلال المرحلة الثانوية، وتعرفت إلى أشخاص جدد، وكان الفصل الدراسي منقسماً فريقين، فريق الأقوياء وفريق الضعفاء، فقررت أن تكون مع الأقوياء حتى لا تتعرض للإهانة مرة أخرى. تقول أنها اقترفت خلال هذه الفترة أخطاء وصفتها بأنها لا تغتفر، حتى كادت تتحول إلى متنمرة. "عنفني أبي كثيراً، فقررت الذهاب إلى طبيب نفسي في محاولة للوصول إلى طريق صحيح، رفض أبي أن أكمل علاجي مع الطبيب بحجة أنني لست مجنونة، فقررت الانتحار"، تقول لرصيف22. تقول أنها كانت تضعف كلما تقوم بذلك فكانت تجرح نفسهت جروحاً بسيطة بآلات حادة تأنيباً لنفسها الحائرة بين الضعف والقوة. "تجربة التنمر التي تعرضت لها في بداية حياتي واختلاطي بالمجتمع أفقدتني الكثير من ثقتي في نفسي، وجعلت خياراتي في الحياة غير واضحة أحياناً تتسم بالتهور وأخرى بالجبن".كيف تصنع متنمراً
يقول الدكتور جمال فرويز الطبيب النفسي المعروف، أن المتنمر، طفلاً كان أو مراهقاً، اعتاد إيذاء الأطفال في المدرسة بشكل مستمر، وهو فعلياً شخص يشعر بألم داخله، ولا يعرف معنًى للراحة ويعاني من نقص عاطفي من الأهل أو المحيطين به. مع وجود فراغ في الوقت، يستخدم التنمر كنوع من إثبات الذات الوهمي ليشعر نفسه بالثقة وفرض السيطرة. ويعتبر الدلال الزائد أحد أسباب صناعة شخصية المتنمر، فيستخدم التنمر كنوع من فرض الرأي. يفسر فرويز أسباب التنمر بأنها نتاج للفكر الخاطئ لمعنى السيطرة، وأن القوي هو الأكثر احتراماً وتقديراً ومهابة بين الطلاب فيلجأ إليه زملاء كثر من أجل إثبات السيطرة، وقد يكون سببه تعرض المتنمر لعنف أسري أو من بعض المحيطين به، فيحاول إثبات سيطرته على الأضعف منه. "نعم أنا متنمرة"، بهذه الجملة بدأت يمنى الهلالي، 19 سنة، حديثها إلى رصيف22: "نعم، آذيت أشخاصاً كثراً مُذ كنت طفلة صغيرة، لم أكن أتردد في أن أقول لأي طفل لا تعجبني ملامحه "أنت قبيح"، أو لأي طفلة شعرها بشع في أن أعايرها بذلك لكي أرضي غروري بأن شعري أجمل". وتدافع يمنى عن حالتها فتقول: "لم أكن كذلك سابقاً، فأنا ضحية أيضاً، لأنني تعرضت للتنمر، إذ كنت سمينة في صغري، وكان الأطفال يلقبونني بـ "الفيل" وأحياناً بـ "البقرة"، ويستوقفونني في الشارع ويضربونني، والآن عندما أتذكر ما كنت أقوم به في الماضي أحتقر نفسي جداً. وتسرد رندا عادل، 25 سنة، تجربتها في ممارسة التنمر على الآخرين، والذي بدأ منذ لعبها كرة السلة وتكوين صداقات مع الذكور، حيث شكّلت معهم "شلة" كانت تطلق أسماء ساخرة على الفتيات، وكانت تجد في ذلك لذة، إلّا أنها تشعر حالياً باحتقار نفسها نتيجة الممارسات التي كانت تفعلها، وترى نفسها أيضاً ضحية. فلولا الأزمات الأسرية التي عانت منها بسبب خلافات والديها، ما كانت لتلجأ إلى التنمر على الآخرين تفريغاً لشحنة الحزن والكبت اللذين كانت تعاني منهما خلال تلك الفترة لتكسب الثقة في نفسها على حساب الأضعف منها.تنمر الأهل
قد يكون التنمر من أقرب الأشخاص إلينا، الأب أو الأم، من دون وعي منهما في الغالب. فهما يريان الأوضاع من منظورهما الخاص ويظنان أن ذلك أفضل لنا في حين أنه يدمرنا. سارة (اسم مستعار) هي إحدى اللواتي تعرضن للتنمر طوال حياتهن. حكت تجربتها كاملة لرصيف22: "عمري 46 سنة، تعرضت خلالها لأقصى درجات التنمر من المحيطين بي، والسبب معاناتي من إعاقة جسدية". شخصها الأطباء في البداية بشلل الأطفال، ولكنها اكتشفت منذ وقت قريب أنها تعاني من اعوجاج في العمود الفقري (أسكوليوسيس). تقول أنها كانت تتعرض للسخرية منذ دخولها المدرسة من أصدقائها والمارة في الشارع، كانت خطواتها غير منتظمة وكانت تسقط كثيراً خلال السير، ما يفجر ضحكات الناس وسخريتهم. أصبحت منطوية، تتجنب الخروج مع والدها حتى لا يرى نظرات السخرية من المحيطين بها، وهو أيضاً عاملها في أغلب الأوقات بأنني ذكر. "كان يتعمد مناداتي بـ "يا ولد"، وكان يصطحبني معه إلى جلسات أصدقائه، ما جعلني أفقد الإحساس بأنوثتي وأشعر بأنني رجل فعلاً. على الرغم من كل ما عانيت منه في حياتي، إلّا أنني تحديت الجميع، وحصلت على شهادة في التجارة ونظم المعلومات، وخضعت لدورات تدريبية كثيرة، وعُينت في إحدى المؤسسات الجيدة". تضيف: "لم يكن لي حق التحدث عن الزواج نهائياً، فأبي كان يصارحنى دائماً بقوله إحنا معندناش بنات للجواز، وأمي تقول ربنا ريحك من الجواز انتي مش قده". عندما دق قلبها لأحد الأشخاص منذ عامين، وقفت عائلتها في وجهها، رافضة ارتباطها نهائياً، انهرت وأصيبت بالاكتئاب الحاد، وحاولت الانتحار فعلياً، لكن أهلها أنقذوها واستعانت بطبيب نفسي وما زلت تتعالج إلى الآن.الإلكتروني الأخطر
تقدر الكومي أن التنمر المدرسي هو أسوأ أنواع التنمر وأكثرها انتشاراً في وقتنا الحالي في العالم بأكمله، وهو متنوّع، فإما أن يكون لفظياً أو نفسياً أو جنسياً أو إلكترونياً... والأخير هو أخطره، وأصبح شائعاً خلال الفترات الأخيرة، ولفت الانتباه إليه بعد حادثة انتحار الطالبة الكندية أماندا تود في 10 أكتوبر 2012. المصير المأسوي الذي وصلت إليه أماندا كان سببه التنمر الإلكتروني. بدأ كل شيء حين قررت وصديقاتها منذ سنوات، وكنّ في الصف السابع، التواصل مع الغرباء عبر الإنترنت بالصوت والصورة، وتعرّفت إلى شخص مجهول تودد إليها بكلمات الإطراء لفترة من الزمن وألح عليها أن تكشف جسدها، حتى استجابت. وبعد مرور عام، استلمت أماندا رسالة تهديد عبر الفايسبوك، حيث تمكن ذلك المجهول من الوصول إلى حسابها، وطلب منها أن تتعرى وجهاً لوجه، وإن لم تفعل فسيرسل صورها إلى أصدقائها وعائلتها، حيث تعرف إلى أسمائهم وعنوان بيتها ومدرستها من خلال الفايسبوك، لم تستجب أماندا لطلبه، وفوجئت هي وأهلها بطرق على باب بيتها الساعة الرابعة من فجر أحد أيام إجازة عيد الميلاد من رجال الشرطة يطلبونها للتحقيق بعد أن أصبحت صورها في متناول الجميع، إضافة إلى وجود صفحة خاصة لصورها وهي عارية الصدر. وقعت أماندا في دوامة من العذاب وأدمنت الكحول والمخدرات، حاول أهلها تغيير مكان السكن والمدرسة مرات عدة، دون جدوى كما أقدمت على محاولات عدة للانتحار، وفي يوم وبعد عودتها من المستشفى وجدت رسائل كراهية على الفايسبوك بأنها تستحق الموت فأقدمت على شنق نفسها وفارقت الحياة. من خلال وجودنا في الفضاء الإلكتروني لساعات طويلة، سنلاحظ ظاهرة التنمر المتزايدة واستغلال كثرٍ منصات الرأي الإلكترونية في إطلاق الأحكام السيئة على الآخرين، بناء على معايير عنصرية في الدرجة الأولى، تركز على شكل الشخص وعرقه وحالته الاقتصادية، ما يؤدي إلى نتائج كارثية لضحايا التنمر أكثرها شيوعاً الانتحار بسبب الأذى النفسي الذي يلاحق الضحية، ما يؤدي إلى الانتحار كما فعلت روزالى أفيلا الأميركية صاحبة الـ13 سنة التي أنهت حياتها بسبب تنمر زملائها في المدرسة وسخريتهم اللاذعة من ملامحها إلى درجة أنها طلبت في وصية دونتها بخط يدها قبل انتحارها، بألا تنشر صورها القبيحة في أي مكان.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...