في وسط قطاع غزة، في قرية خربة أم عامر أو "أم التوت"، توجد قطعة كبيرة من الأرض تقارب مساحتها الـ25 دونماً، وتحتوي على عدة معالم أثرية. يقصد هذا المكان سائحون وزوار عرب وأجانب، وآخرون يأتون لالتقاط صور تذكارية، وسط عبق التاريخ المنبعث من ثالث أقدم مدن العالم. إنه دير القديس هيلاريون.
"هيلاريون هو ابن فلسطين"، يقول راعي كنيسة اللاتين في غزة سابقاً، وعضو الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة المقدسات مانويل مسلّم لرصيف22.
ولد القديس عام 291 في قرية "أم التوت" وسط قطاع غزة حيث يقع ديره، ويُعتبر أول راهب في فلسطين وأول من أسس جمعية للرهبان.
أرسل والدا هيلاريون ابنهم لتعلم المسيحية في الإسكندرية، وما أن وصل إلى سن الـ15 حتى أصبح ملماً بتعاليم الدين المسيحي. وفي مصر، التقى بالقديس المصري أنطونيوس الكبير، أول أو أحد أوائل الرهبان المسيحيين، واستقر في موضع بعيد عن البشر في صحراء سيناء يتعبّد الله داخل كوخ صغير.
ولكن بعد فترة، قرر العودة إلى غزة بعدما وصل إليه خبر وفاة والده، وهناك أسس مدرسة وكنيسة وأول جمعية للرهبان في فلسطين، وذلك في الدير الصغير الذي بقيت آثاره حاضرة في خربة أم عامر بمنطقة النصيرات (أم التوت سابقاً).
وبحلول عام 362، سيطر الأمبراطور الروماني جوليان الذي ارتد عن المسيحية على الحكم وسيطر على كافة أراضي مصر وبلاد الشام، واضطهد المسيحيين والرهبان والقساوسة وتلاميذهم، كما هدم الأديرة ومنها دير هيلاريون في غزة.
في تلك الظروف، هرب هيلاريون عبر قارب صغير إلى جزيرة قبرص، ومكث هناك دون أن يتعرف أحد على شخصيته سوى قلة من تلاميذه الذين رافقوه، إلى أن فارق الحياة عن عمر يناهز الـ80 عاماً، سنة 371. وقام تلاميذه بنقل جثمانه إلى قرية أم التوت ودفنوه في الدير.
اكتشاف مقام هيلاريون
وأوضح الأب مسلّم أن اكتشاف مقام القديس الذي كان مخفياً تحت أكوام من الرمال العالية تم بعد قدوم السلطة الفلسطينية إلى غزة، وذلك في منتصف تسعينيات القرن الماضي. وكان الإسرائيليون قد اكتشفوا الموقع عام 1993 بالصدفة وحوّلوه إلى منطقة عسكرية، وبحسب مسلّم، سرقت بعض الآثار منه. وبعد قدومها، عملت السلطة الفلسطينية مع خبراء فرنسيين في الموقع، بدءاً من عام 1994.بقي صامداً لأكثر من 1800 عام، وغفل عنه جميع مَن تعاقبوا على السيطرة على غزة بعد نزوح الرهبان عنه... دير القديس هيلاريون
حوض على شكل صليب وآيات من الإنجيل مكتوبة على أرضيات فسيفسائية... تاريخ مسيحيي غزة يعود إلى 1800 عامواكتشفت في الموقع بقايا تابوت القديس هيلاريون وحوض تعميد ولوحات فسيفسائية ومعالم أخرى بقيت منذ أن فارق المسيحيون المنطقة. ويوضح المؤرخ الفلسطيني الدكتور ناصر اليافاوي أن دير القديس هيلاريون يعود إلى الزمن البيزنطي، وبُني عام 327، بعدما عاد هيلاريون من مصر إلى قطاع غزة، هرباً من الفقر وتدهور الأوضاع الاقتصادية فيها من جهة، ولإعالة أسرته بعد رحيل والده من جهة أخرى. ويؤكد اليافاوي أن إسرائيل سرقت الكثير من آثار الدير ونقلتها إلى متحف "بروك لوفير" في مدينة تل أبيب.
تفاصيل الدير
يحتوي الدير من الجهة الشمالية على مجموعة غرف كانت مخصصة لإيواء طلاب العلم والنزلاء الذين كانوا يقصدون هيلاريون لتعليمهم الدين المسيحي والدخول فيه، فقد كان أول راهب فلسطيني، كما كان له صيت كبير لكونه تلميذ الأب أنطونيوس الكبير. وتوجد في الدير ثلاث حجرات ضيقة كانت تُستعمل كحمامات للنظافة الخاصة، بينما تحتوي الجهة الجنوبية على غرف بُنيت أرضيتها بشكل كامل من الفسيفساء، وكانت مخصصة لاستقبال ضيوف القديس من طبقة رجال الدين والرهبان، كما يوضح اليافاوي. وتحتوي الجهة الغربية منه على ساحة تدريس الطلاب، وكانت مخصصة لاستقبال 400 طالب، وتحتوي أيضاً على مقعد كبير مبنيّ من الأحجار الجيرية ومخصص لجلوس المعلم. أما الجهة الشرقية منه فتحتوي على قاعة بُنيت تحت الأرض على شكل صليب. ووسط الدير، توجد برك رخامية قديمة مبنية كحفر داخل الأرض على شكل الصليب، وتسمى بأحواض التعميد، وكان يُوضع فيها الماء المقدس لتغطيس مَن أراد الدخول في المسيحية فيها، كما توجد حجرة كبيرة تحتوي على بقايا تابوت القديس هيلاريون. وفي وسط الدير، كانت توجد غرفة مخصصة لصنع النبيذ، وبركة لتربية الأسماك، هي من أوائل برك زراعة الأسماك في العالم، ويوجد حمام النظافة الخاص بالقديس، وما زال مقعده الرخامي الذي كان يجلس عليه عند الاستحمام موجوداً وما زالت المقاعد المحيطة بهذا المقعد موجودة. ويوضح اليافاوي أن آخر ما تم اكتشافه في المقام كان تابوت القديس هيلاريون، لافتاً إلى أن عمليات البحث ما زالت مستمرة من قبل بعثات دولية مختصّة، بالتعاون مع وزارة السياحة الفلسطينية. ويعتبر أن هذه المنطقة شاهد حي على تعاقب عدة أمم على السيطرة على فلسطين، وعلى تاريخ الدين المسيحي بفلسطين.اختفاء المعلم
ويوضح خبير الآثار الفلسطيني الدكتور غسان وشاح أن هذ الدير بقي صامداً لأكثر من 1800 عام، وغفل عنه جميع مَن تعاقبوا على السيطرة على المنطقة بعد نزوح الرهبان عن غزة في عهد الإمبراطور جوليان. ويشير إلى أنه لم يُعرف مكان الدير لا في عصر الأمويين ولا الفاطميين ولا حتى العثمانيين، إذ أخفى الرومان جميع معالمه وآثاره بعد تدميره. ولا شك ساعدت في ذلك الظروف المناخية. وقال وشاح لرصيف22 إن معالم الدير المصممة على شكل الصليب، والكتابات الإغريقية واللاتينية المكتوبة على الأرضيات الفسيفسائية والتي تخطّ بعض آيات الإنجيل، تحفظ أثر المسيحيين في المنطقة التي تعاقبت عليها ثقافات كثيرة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...