مرّت سبع سنوات، منذ أن أدينت منى (اسم مستعار) في قضايا إيصالات أمانة وحُكم عليها بالسجن، لتوصم بـ"الغارمة" وتُضم إلى قائمة طويلة من القابعات خلف القضبان نتيجة ضائقة مالية.
الغارمات في مصر هن السجينات لعدم قدرتهنّ على سداد ديون، قد تكون قليلة، وهن لسن مجرمات أو متهمات في قضايا جنائية كالقتل أو المخدرات أو السرقة، وتتم معاقبتهن بالحبس وفقاً للمادة 341 من قانون العقوبات المصري.
تعيش منى البالغة من العمر 38 عاماً في محافظة المنيا (شمال صعيد مصر)، وسعت لمساعدة زوجها الذي يعمل مياوماً، فاقترضت جزءاً من المال فتحت به مشروعاً صغيراً لبيع الملابس لجيرانها، وما لبث أن ذاع صيتها بين التجار والجيران، ما حدا إحدى جاراتها للسعي إلى فتح مشروع مماثل.
للسير على درب منى، طلبت الجارة منها أن تضمنها عند التجار فلم تتوان منى عن ذلك ووقّعت على إيصالات أمانة بآلالاف الجنيهات، إلا أن تجارة الجارة تعثّرت فهربت ودفعت منى الثمن، بعدما شكاها التجار المقرضون للقضاء وصدرت بحقها مجموعة أحكام وصلت إلى 21 عاماً.
تستعرض منى شريط ذكرياتها لرصيف22: "فجأة أصبحت أسيرة في سجن النساء بالقناطر ثلاث سنوات ونصف السنة، قبل أن تنقذني جمعية رعاية أطفال السجينات (منظمة مجتمع مدني عاملة في مجال رعاية الغارمات) وتدفع عني 20 ألف جنيه عجزت عن سدادها للتجار المقرضين".
ويقبع في سجون النساء بمصر نحو 30 ألف سجينة من الغارمات، حكم عليهن بالحبس لتعثرهن في سداد "إيصالات أمانة"، بواقع 25% من إجمالي الغارمين في مصر، حسب إحصاء حديث لوزارة التضامن الاجتماعي. بدورها، دفعت أميمة التي تعيش بمحافظة القليوبية (شمال العاصمة القاهرة) ثمن توقيعها على إيصالات أمانة بدلاً عن والدها من أجل تجهيز عرس شقيقتها من أجهزة كهربائية ومستلزمات أخرى، فصدر بحقها حكم بالسجن عامين بعدما شكاها الدائنون. أميمة كانت تبلغ من العمر 28 عاماً، ومتزوجة ولديها طفلة عمرها 5 سنوات حين دخلت سجن النساء بالقناطر عام 2010. انقلبت حياتها رأساً على عقب بعدما طلقها زوجها وترك لها الطفلة سالي، وتزوج من أخرى. "حرمت من طفلتي التي شردت وذاقت الأمرين في التنقل بين منزلي شقيقتي وخالتي" تروي أميمة لرصيف22 مضيفةً أن ذلك أكثر ما آلمها أثناء سجنها، إلى أن عادت إلى طفلتها بعدما دفعت جمعية رعاية أطفال الغارمات عنها قيمة الإيصالات التي وقعتها.
مشكلة "الغارمات" في مصر... مشكلة تدمّر المجتمع وترتّب على الدولة تكاليف باهظة، علماً أن الحل بسيط
30 ألف مصرية في السجون بسبب مخالفات بسيطة، لأن المنظومة القانونية لا تزال مبنية على فكرة السجن ولم تستوعب فكرة "العقوبات البديلة"
بحث عن حلّ
معاناة الغارمات وصل صداها إلى أعضاء بالبرلمان المصري وطُرح مشروع قانون جديد "يمنع حبس الغارمات"، ويقترح عقوبات بديلة غير الحبس، واللافت أن ائتلاف دعم مصر صاحب الأغلبية البرلمانية أبدى تحمساً للمشروع. وكانت النائبة إليزابيث شاكر أول مَن طرح مشروع القانون في نوفمبر الماضي. وقالت لرصيف22 إن القانون الجديد يهدف إلى استبدال عقوبة حبس "الغارمات" بعقوبات بديلة تتضمن خدمة عامة عن طريق تشغليهنّ بما فيه منفعة عامة. وأضافت النائبة أن المشروع له 3 أهداف: الأول معنوي وهو الحفاظ على كيان الأسر لأن سجن الأم يدمر الأسرة ويشرد الأطفال؛ والثاني تخفيف الضغط على السجون التي تكتظ بعدد كبير من الغارمات والغارمين الذين يكلفون موازنة الدولة مصروفات باهظة؛ والثالث الاستفادة من هؤلاء الغارمات في منافع عامة تفيد الدولة مثل الخدمة بالمستشفيات. تحركات أعضاء البرلمان المصري سبقتها دعوات من جمعيات أهلية وشخصيات عامة مصرية مهتمة بأزمة "الغارمات"، ودشنت 25 جمعية أهلية، في 19 أكتوبر مبادرة تستهدف تعديل المادة 341 من قانون العقوبات المصري، والتي تعتبر التوقيع على إيصالات الأمانة بمثابة جناية تقود إلى السجن، على أن يُستبدل السجن بعقوبة بديلة، كالخدمة العامة في المستشفيات، أو العمل في دور الأيتام والمسنين، مع مراعاة تدريب هؤلاء النسوة للاندماج في المجتمع. وقالت صاحبة فكرة المبادرة، ورئيسة مجلس إدارة جمعية رعاية أطفال السجينات نوال مصطفى إن تبني البرلمان فكرة العقوبة البديلة وحماس أعضائه لرفع المعاناة عن الغارمات أمر رائع، مضيفةً: "نأمل أن ينجحوا في تمرير القانون". ورغم ترحيبها بحماس النواب، فإن مصطفى التي تعمل على رعاية السجينات "الغارمات" منذ أكثر من عشرين عاماً أبدت خشيتها من أن يؤثر ذلك الحماس على تمرير المقترح على عجل وعدم دراسته بطريقة متأنية تعالج جميع جوانب مشاكل الغارمات. وقالت إن ظاهرة الغارمات ناجمة عن مجموعة من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية مثل "الفقر والحاجة وبعض النصوص القانونية المرتبطة بإيصال الأمانة والجهل به الذي يوقع النساء ضحية استغلال التجار". وأشارت مصطفى إلى أن الظاهرة ترتبط بشكل كبير بالنساء، لأن التاجر يشترط أن توقع زوجة المدين أو أمه على الإيصال لضمان السداد، وهو الأمر الذي يهدد استقرار الأسر ويؤدي إلى تشرد الأطفال في غياب الأمهات. وطرحت صحيفة اليوم السابع المصرية استطلاع رأي على قرائها تحت عنوان: "هل تؤيد صدور قانون باستبدال أحكام حبس الغارمات لتحويلهن للخدمة العامة؟"، وأيد 85% من القراء صدور القانون ورفضه 13%، وأعرب 2% منهم عن عدم معرفتهم بموضوع الاستطلاع.منظور أوسع
ورأت الناشطة الحقوقية في مجال حقوق المرأة عزة سليمان أنه لا بد من النظر إلى أزمة الغارمات بمنظور أوسع بحيث لا يقتصر الأمر على "ترقيع" تشريعي للقانون، بل يطال بحث الأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى تفشي هذه الظاهرة مثل فساد واستغلال التجار لحاجة المواطنين الفقراء.وقالت سليمان لرصيف22 إن دول العالم طبقت فكرة العقوبات البديلة للسجن في قضايا مثل تلك التي تواجهها الغارمات بينما لا يزال المشترعون المصريون يبحثون الفكرة. وأضافت أن الأزمة الكبرى تكمن في غياب الوعي لدى مسؤولي السلطات القضائية والقانونية في مصر بشأن العقوبات البديلة إذ يعملون على خدمة السلطة ولا ينظرون إلى معاناة المجتمع والمواطنين. وأشارت إلى أن الحكومة المصرية كانت ولا تزال تعوّل على مساهمة منظمات المجتمع المدني في حل مشكلة مثل "الغارمات"، لكن النظام الحالي وضع قانوناً يقيّد عمل الجمعيات الأهلية بشدة، وهنا تعمل الحكومة بـ"مكيالين".الغارمات يخرجن من السجن إلى سجن أكبر، هو سجن المجتمع، إذ يخرجن بوصمة السجن السابقة... لا أحد يوافق على منح سجينة سابقة فرصة عمل، فلا تجد أمامها سوى الوسائل غير المشروعة لإطعام أطفالها
وأثار قانون الجمعيات الأهلية، ولا يزال، حالة من الجدل منذ إصداره بموجب قرار رئاسي في مايو 2017، وطوال الأشهر الماضية دأبت جمعيات أهلية على المطالبة بتعديله.
وأكدت سليمان على ضرورة وجود منظومة متكاملة بين المجتمع المدني والحكومة لنشر وعي العقوبات البديلة في المجتمع، وكذلك توعية المجتمع من أجل إزالة الوصمة عن السجينات.
وعن هذه الوصمة، تقول نوال مصطفى: "السجينات يخرجن من السجن إلى سجن أكبر، هو سجن المجتمع، إذ يخرجن بوصمة السجن السابقة. وقد علمت من إدارة السجون أن نسبة كبيرة من السجينات تعود إلى السجن بسبب رفض المجتمع لها، وغلق أبواب الرزق الحلال أمامها، فلا أحد يوافق على منح سجينة سابقة فرصة عمل، وبالتالي لا تجد أمامها سوى الوسائل غير المشروعة لإطعام أطفالها."
هذا الواقع دعا مصطفى لإطلاق مشروع "حياة جديدة" لدمج السجينات الغارمات في المجتمع وتوفير عمل لهن، وهو المشروع التي التحقت به منى بعد خروجها من السجن.
فوصمة السجن كانت مشكلة اعترضت منى وأميمة بعد خروجهما منه. لم تستطع الأولى العودة للعيش مع أبنائها الثلاثة في محافظة المنيا، في ظل إهانات جيرانها ونظرتهم الدونية لها، ولم تجد الثانية عملاً وتعيش مع طفلتها على إعانة حكومية بسيطة.
تقول منى: "زوجي طلقني ولم أعد استطيع رؤية أبنائي، الناس ينظرون إلي كمجرمة"، مطالبةً الدولة بفرض نوع من العمل على الغارمات إلى حين تسديد دينهنّ بدلاً من سجنهنّ.
وبرأي أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية بالقاهرة سعيد صادق، فإن المجتمع المصري الذي يمثل الشباب غالبيته سرعان ما سيستوعب ضرورة استبدال عقوبة سجن الغارمات بأخرى بديلة، وكذلك الحكومة والبرلمان لأن مشكلة الغارمات تضر المجتمع بشكل كبير كما أن حلّها سيخفف أعباء عن الحكومة.
وأشار صادق إلى أن القانون المصري يعج بالعقوبات التي تدمر المجتمع لأن فكرة السجن أو الحبس تزيد من الإجرام ولا تقلله، بينما التوسع في استخدام العقوبات البديلة يفيد المجتمع ويوفر لخزينة الدولة أموالاً كثيرة تصرف على المسجونين.
وتؤكد النائبة إليزابيث شاكر أنها لمست تفاعلاً وترحيباً غير عادي في البرلمان والحكومة بمشروع القانون الذي طرحته، كما أنها تلقت تأكيداً من ائتلاف دعم مصر على دراسته، مشيرةً إلى أنها استعجلت رئيس البرلمان المصري علي عبد العال لإحالة مشروع القانون على إحدى اللجان المختصة للبدء بإجراءات تمريره ووعدها بمناقشته خلال الشهر الجاري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.