شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل ولّى زمن السرية المصرفية في لبنان؟

هل ولّى زمن السرية المصرفية في لبنان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اقتصاد

الاثنين 18 يوليو 201612:45 م

قبل خمسة أعوام على تأسيس جمعية المصارف اللبنانية، اقترح المحامي والسياسي البارز ريمون إده مشروع قانون السرية المصرفية بعد زيارة قام بها إلى سويسرا. كان ذلك أواخر العام 1954، وهو العام الذي شهد تأسيس "مصرف لبنان المركزي" ليشكّل نقلة نوعية في قطاع الخدمات المصرفية المحلية. وفي العام 1956، أُقرّ القانون.

لبنان، "سويسرا الشرق"

في تلك المرحلة، تحول لبنان إلى "سويسرا الشرق"، وحظي بمكانة مالية واقتصادية استثنائية جعلت منه ملاذاً آمناً للرساميل الأجنبية وأموال المغتربين، ووجهة مفضلة لرجال الأعمال العرب. وترافق ذلك مع جملة أحداث عربية عززت الاقتناع بـ"قدسيّة" نظام السرية المصرفية وفعاليته.

تلقف لبنان الرساميل الهاربة من عمليات التأميم التي شهدتها القطاعات المالية والإنتاجية بعد ثورة 1952 في مصر، وثورات العراق وسوريا، لتحتمي بنظامه الجديد الذي يؤمن حرية حركة رؤوس الأموال والأرباح والإعفاءات الضريبية وإمكان فتح حسابات مشتركة. وفي السبعينيات من القرن الماضي، تعزز الإيمان بـ"جنة" لبنان المصرفية إثر الفورة النفطية التي أمنت تدفقات هائلة وقدرة على صمود النموذج اللبناني بوصفه نموذجاً مزدهراً.

وذهب لبنان في التغني بسريته المصرفية إلى حدّ تقديسها، فاحتلت موقعها كدعامة أساسية بين جملة العناصر "الكلاسيكية" الجاذبة في هذا البلد. وتفوّق القانون اللبناني على "ملهمه" السويسري في حماية هذه السرية، فجعل من إفشاء السر عمداً جريمة جزائية يعاقب عليها بأشد من العقاب الذي ينص عليه القانون السويسري.

"السرية المصرفية" جريمة؟

اليوم، وبعد حوالى ستين عاماً على إقرار هذا القانون، يبدو أنه أصبح عبئاً على لبنان. فبينما لم يلحظ المشترع اللبناني في الماضي الجرائم المالية التي قد تنشط تحت مظلة السرية المصرفية، وأبرزها تبييض الأموال (لم يضفها المشترع قبل عام 2001)، تغيرت النظرة إلى هذه السرية في الخطاب العالمي. فالمراكز الرأسمالية المؤثرة باتت تكافح السرية المصرفية كونها تسهّل عملية إخفاء أموال ناتجة عن التهرب الضريبي أو تبييض أموال تهدد النظام المالي لهذه المراكز أو تستخدم كوسيلة للالتفاف على إجراءات "مكافحة الإرهاب".

وسط هذا الواقع، أتت زيارة جاك دو سوسير، رئيس مجلس إدارة مصرف "بيكتيه" السويسري الذي تأسّس في جنيف عام 1805، إلى لبنان الأسبوع الماضي. كانت الزيارة لتكون عادية لو أنها لم تترافق مع نصيحة حملها "الملهم" السويسري مفادها أن الوقت قد حان للانتقال إلى "ثقافة الشفافيّة". وفي الجعبة السويسرية ما يبرّر هذا الخيار، فالسنوات الماضية حفلت بالكثير من الفضائح المصرفية التي وضعتها في حالة صدام مع الولايات المتحدة الأمريكية.

بدأ ذلك مع انهيار مصرف "ليمان براذرز" عام 2008، ثم فضيحة مصرف "يو بي أس" السويسري عام 2009 والتي أطلقت هجوماً أمريكياً اشتعل مع تعرض أعرق مصرف خاص "ويغلين وشركاه" (تأسس عام 1741) إلى ما يُشبه التدمير النهائي بعد صدور أول إدانة أمريكية على الإطلاق بحق مصرف أجنبي ينشط في الولايات المتحدة، وذلك بتهمة مساعدة مواطنين أمريكيين على التهرب الضريبي. وأعقب هذه الانهيارات السويسرية تشريع السلطات الأمريكية لـ"قانون الإمتثال الضريبي على الحسابات الأمريكية الخارجية" المعروف بـ"قانون فاتكا".

"فاتكا" يفتك بالمتهربين

يتعقب "فاتكا"، الذي دخل حيز التنفيذ في شهر يوليو الماضي، "الأمريكيين المتهربين من دفع الضرائب في بلادهم، وأولئك الذين هرّبوا أموالهم إلى الخارج أو يملكون حصصاً تزيد على 10 في المئة من أسهم شركات خارجية ولا يسددون عنها ضرائب كما يفرض القانون". وبينما تشكو الإدارة الأمريكية من أن تهريب الأموال إلى خارج الأراضي الأمريكية يكلّف الحكومة نحو 100 مليار دولار سنوياً، بوجود نحو 17 مليون مواطن أمريكي خارج الولايات المتحدة، قررت فرض اقتطاع بنسبة 30 في المئة على أي مدخول لمؤسسة مالية ترفض الخضوع لهذا القانون.

جزرة سويسرا وعصا أمريكا

لبنان كان من بين عشرات الدول التي وقعت هذا القانون، وزيارة وفد وزارة الخزانة الأمريكية برئاسة نائب وزير الخزانة دانيال غلايزر إلى لبنان خلال الأسبوع الماضي تأتي في هذا السياق. عنوان الزيارة كان التنبيه إلى قضية إيداع الأموال من قبل داعش، فضلاً عن التحذير "الكلاسيكي" بشأن أموال حزب الله، لا سيما في ظل العقوبات المفروضة على الطرفين بموجب القرارات والتشريعات الدولية. ولا يزال اتهام أمريكا لـ"البنك اللبناني الكندي" وشركات صيرفة بتبييض أموال لحزب الله قبل سنوات قليلة حاضراً في الذاكرة.

طمأن اللبنانيون غلايزر على التزامهم المعايير الدولية. لكن أمام النصيحة السويسرية والضغط الأمريكي طرح السؤال نفسه: هل ولّى عهد السرية المصرفية في لبنان؟ الجواب جاء بالنفي القاطع على لسان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي قال: "لا خوف على السرية المصرفية في لبنان". فما الذي يدفع سلامة إلى ذلك؟

قال الخبير الدستوري سليم جريصاتي لرصيف22 إن سويسرا لم تعد تريد أن تكون "كنز العالم المستور" ولها في ذلك مبرراتها، لكن لبنان طمأن الأمريكيين وأكد لهم التزامه منع دخول أموال غير شرعية إلى نظامه المصرفي. وفي ما يخص قانون "فاتكا"، فالعملاء يوقعون معاملات تلزمهم بهذا القانون بينما يطور لبنان أنظمته المصرفية ليتلاءم معه من دون أن يمس ذلك السيادة المصرفية. وأضاف جريصاتي: "برغم كل الأحداث التي تعصف بلبنان والمنطقة، فالنظام المصرفي في لبنان متين، والسرية المصرفية لا تزال من علامات ازدهاره الاقتصادي".

فهل ثمة ما تخفيه أكمة هذه الصورة الوردية وراءها؟ يبدو أن الجواب نعم. ففي رأي الخبير الاقتصادي محمد زبيب، "السرية المصرفية في لبنان فقدت سبب وجودها ولم تعد المصارف اللبنانية وجهة مثالية للرساميل الخارجية ولعمليات التبييض". وفي حديثه لرصيف22، يعطي مثالاً عن قانون "فاتكا" الذي "أجبر المصارف اللبنانية على التصريح عن حسابات للإدارة الأمريكية الأمنية، تحت عناوين مختلفة على نحو يتناقض في أحيان كثيرة مع أحكام السرية المصرفية". يبسّط زبيب الأمر بالقول: "في بلد "مدولر" مثل لبنان حيث النسبة الأكبر من ودائعه وتسليفاته وتعاملاته الفعلية بالدولار، فإن الغضب الأمريكي أو الأوروبي يعني إقفال المصرف، فلا بدّ إذاً من الامتثال".

لماذا الإصرار على السريّة؟

بناء على ما سبق، يمكن القول إن النظام المصرفي بات منتهكاً لأقصى الحدود وكذلك السيادة، فما الذي يبرّر تمسك حكام لبنان بالسرية المصرفية؟ في رأي زبيب ثمة سببان لذلك:

1ـ طمأنة كبار المودعين اللبنانيين، ومعظمهم من أصحاب السلطة، إلى عدم المس  بثرواتهم، وهذا يعني إخفاء مدى تركز الثروة وعدم الكشف عمن يملكها. يفسّر هذا امتناع المصرف المركزي عن إصدار تقريره حول مؤشر الثروة منذ العام 1997. مع العلم أن مؤشر 1997 كان يشي بواقع خطير وهو أن 1 في المئة من الحسابات المصرفية تضم ما يزيد عن 75 مليار دولار. وفي المعطى اللبناني، يمكن الاستنتاج بأن مصدر بعضها السلطة والنفوذ واقتصاد الجريمة.

2ـ منع الإصلاح الضريبي. يصطدم كل نقاش يتعلق بإصلاح النظام الضريبي في لبنان، بنظام السرية المصرفية. ويلعب الأخير دوره في منع الناس من مطالبة المتمولين بدفع الضرائب، لا سيما وسط التزايد المهول في الثروات الشخصية. فتحت غطاء السرية المصرفية، التي تعوق وزارة المال من التدقيق في حسابات المصارف، يولد انطباع بأن لا أحد يربح في لبنان. فالمعلن من مجمل إيرادات ضريبة الأرباح يساوي 650 مليون دولار فقط.

وفي هذا الإطار، يتحقق ما شرحه خبير مصرفي، فضل عدم الكشف عن اسمه، لرصيف22 وهو أن الولايات المتحدة مستفيدة من النظام اللبناني بشكله الحالي، ما دامت تحصل على ما تريده منه، فلا تعود معنية بقيامه شكلياً لخدمة أهداف لبنانية محلية. ويؤكد الخبير المصرفي استفادة الأنظمة الكبرى وحتى الولايات المتحدة من أنظمة مصرفية تعتمد السرية، كلبنان، لتبييض أموال لا تتوافق مع القوانين كالعمولات غير الشرعية لصفقات السلاح.

من جهته، يعود زبيب ليؤكد أن من يعتبر هدف الولايات المتحدة، بنظامها الرأسمالي، تصحيح النظام المالي العالمي فهو "واهم". ويقول: "لا أتخيل أن هناك ملاحقة أخلاقية لجريمة تبييض أموال. هناك أهداف مبنية على مصالح تسلط الضوء على حالة معينة وتغضّ الطرف عن حالة أخرى".

وبالعودة إلى السؤال الأساسي حول مستقبل السرية المصرفية في لبنان، يبدو من كلام الخبراء أن الدولة اللبنانية ستُبقي على سياساتها الحالية: تعاون كامل مع المطالب الدولية حتى ولو شكّل ذلك خرقاً لسيادتها، وتصدٍّ كامل للمطالب المحلية ومصالح الناس ما دام ذلك لا يزعج الإرادة الدولية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image