شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ترى هل تساعدنا معرفة أصلنا وفصلنا، وحسبنا ونسبنا في تحديد هويتنا العربية؟

ترى هل تساعدنا معرفة أصلنا وفصلنا، وحسبنا ونسبنا في تحديد هويتنا العربية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 29 ديسمبر 201702:21 م
اهتمت الشعوب على طول التاريخ بقضية الأصل، ومتابعة سلسلة الأنساب، لتحديد هويتها وتحصينها. وفي الغالب تمّ ذلك في إطار النسب البيولوجي، أي العودة إلى جدّ أول، وأم أولى، ينحدر منها شعب ما، ويحافظ على "نقائه" على مرّ الأيّام. والسؤال، هل يكفي أن نفترض أصلاً واحداً لنحدد هويتنا؟ وهل يمكن البرهان العلمي على نقاء السلالة والعرق، رغم ما حصل في التاريخ من تمازج ورحلات وهجرات شملت الشعوب جميعاً؟ آخر المستجدات في هذا المجال كان في مطلع هذه العام، حين أجرت شركة السفر العالمية موموندو “Momondo” وموقع “Ancestry” لاختبار الـDNA، مسابقة في الولايات المتحدّة سميّت “رحلة الـDNA” لتساعد الأفراد في التعرف على أصل سلالتهم. وقد اكتسب هذا البرنامج شهرته بعد أنْ سجّل الرابحون ردود أفعالهم، في فيديوات قصيرة، تحدثوا فيها بشكل عاطفي عن صدمتهم لمعرفة أصولهم المتنوعة وغير المتوقعة. قال براد أرجينت، أحد الناطقين بإسم شركة "Ancestry"، مبرراً تحويل فضولنا حول أصلنا ونسبنا إلى برنامج مسابقات، إنّ ما يقدمه البرنامج إيجابي وأخلاقي، لأنّ علم الـDNA، يفتح آفاقاً جديدة لنفهم أنفسنا بشكل أعمق بيولوجياً وتاريخياً، ولأنه يبين لنا بأننّا منحدرين من ثقافات متنوعة ومن أصول متعددة.

مفهوم الهوية أوسع من مفهوم السلالة والأصل

في أعماق كلّ فرد منا ما يشده لمعرفة أصله وجذوره التاريخية، بلا شكّ، ولعلّ هذا الولع بالأصل الأول، يفسر شعبية فحوص الـ"دي إن أي" اليوم التي غدت في متناول الجميع، خاصة في الولايات المتحدة، التي تدخل الأصول المتنوعة لشعبها في صلب ثقافتها وهويتها. ولذلك بدأ العديد من الشركات التي تعرض خدمات تحديد "السلالة"، تدّعي الإجابة على أسئلة من نوع: من أين جئنا؟ وما هي نسبة الثقافات والمجتمعات والدماء الموجودة في عروقنا؟ وما شابه ذلك. وبهذا ترجمت فضولنا إلى سلعة نشتريها، مثلما قدمته مجلة ناشيونال جيوغرافيك، في مشروع "Geno"، الذي تعدنا فيه باكتشاف نسبنا و"أصولنا الأولى"، والذي تقدمه على أنّه إسهام في إعادة اكتشاف "قصة البشرية"، إذ تدعي أنّه يتتبع رحلة البشر منذ أكثر 150,000 سنة. وهذا المشروع ليس وحده الذي يستثمر هذه الفكرة، بل إنّ هناك تنافساً في هذا المجال، مثل خدمات: GPS Origins، وMy Heritage DNA، وLiving DNA، وVitagene، وعشرات غيرها، وكلها تعرض نفس الوعد؛ أي بحثٌ في أصولنا من خلال فحص DNA. ولكثرة هذه الخيارات أصبح هناك خدمة MitoSearch التي يمكن من خلالها مقارنة نتائج هذه الفحوص مع أي شخص آخر قام بها في بقية أرجاء العالم. وفي الوقت نفسه، يرى باحثون أنّ التمسّك بتحديد الهوية عن طريق العرق أو الأصل الواحد قد يؤدي إلى نتائج عنصرية، تزيد من اتساع الهوة بين الهوية والثقافات، ويضيفون لا يجوز أن نحبس "الهوية" بين جدران ضيقة تعزلها عن المحيط والآخرين باسم الأصل الواحد أو الدم النقي، وفي كل الأحوال جميعاً، يمكن للمرء أن يقول قد تكون السلالة عنصر من عناصر تحديد الهوية، ولكنه عنصر لايمكن أن يحيط بها ولا يمكن أن يكون نهائياً.

لا يجوز أن نحبس "الهوية" بين جدران ضيقة تعزلها عن المحيط والآخرين باسم الأصل الواحد أو الدم النقي

مسار الهوية في العالم العربي

العالم العربي، رغم تميّزه كوحدة ثقافية، ورغم أنّ بلدانه تتواجد تحت مظلّة جغرافية واحدة، تختلف تركيبته الدينية واللغويّة والعرقية من مكان لآخر. ومن هنا، فإنّ الحديث عن الأصول "البيولوجية" لهذا المزيج الفريد من نوعه، مهمة صعبة، خاصة أنّ المنطقة تواجه صراعات هوياتية مصيريّة منذ سنوات في دول عربية عدة كما هو معروف."

ويمكننا القول إنّ الشعوب العربية هي من أكثر المجتمعات اهتماماً بتفاصيل الأصل والنسب، بشكلها العائلي والقبلي والمناطقي، وليس بالضرورة بمعناها العرقي، ففي ثقافتنا الشعبية اليوم، على سبيل المثال، نعرف أصول الشعراء والأمراء، وأسماء القبائل وقرابتها ببعضها البعض، وهكذا في أغلب المجالات. فمن نحن العرب، وما هو أصلنا؟ الصورة الأولى التي ترد إلى الأذهان، بعد الرواية التقليدية، هي ما رسمته السرديات الأوروبية والغربية عن العرب، على أنّهم شعبٌ انحدر من قبائل بدوية من الجزيرة العربية، وانتشر في العالم العربي مع انتشار الإسلام في المنطقة في القرن السابع الميلادي، وتتمتع تلك السرديات بدعمٍ تاريخي حيث أنّ اليونانيين "قولبوا" العرب منذ 2.500 سنة، على أنهم شعب من "بلاد بعيدة" و"صحراء قاسية" وعلى أنهم بدو محاربون.

على الرغم من اعترفنا بأهمية ما أنجزه الإغريقيون، إلا أنّهم كانوا يقدمون صوراً أحادية الأبعاد للشعوب المختلفة

وعلى الرغم من اعترفنا بأهمية ما أنجزه الإغريقيون، إلا أنّهم كانوا يقدمون صوراً أحادية الأبعاد للشعوب المختلفة، وبالأخص للشعوب التي اعتبروها "أقلّ شأناً"، ولكنّ على الرغم من سطحية النظرة التي قدموها عن "الآخر" في هذا الإطار، بقيت طروحاتهم هي الأبرز والأكثر تأثيراً في نظرة  الغرب للعرب حتى وقت قريب، ومن هنا شكّل ذلك أرضية مساعدة لكي يرسّخ الغرب نظرته العنصرية تجاه العرب، وفي الحقيقة تجاه الشعوب التي يعتبرها "أقل شأناً"، مبرراً بذلك استعماره للوطن العربي. من هنا تأتي ضرورة إعادة النظر في ما تعنيه كلمة "العرب"، ولذلك لا بدّ من أنْ نستمرّ في تعريف هويتنا كما نريدها نحن، من منابعها العربية المحلية والأصيلة، وليس من انعكاسات تقييم اليونان أو الغرب أو غيرهم لهويتنا كما حصل عبر القرون ويحصل حتى الآن.

لا بدّ من أنْ نستمرّ في تعريف هويتنا كما نريدها نحن، من منابعها العربية المحلية والأصيلة

وفي هذا السياق، يرى الكاتب والأكاديمي بيتير وب في دراسته عن "العرب" قبل وبعد الإسلام، أنْ الأشوريين هم أول من استخدم كلمة يشبه لفظها كلمة "عرب"، فيقول إنّ عدة كلمات أشورية تشبه كلمة "عرب" كانت مستخدمة مثل Arba-a, Urbi وAribi، ولكنها كانت تطلق على من اعتُبر غريباً، ولم تكن بالضرورة تشير إلى تصنيف فئة عرقية معينة. وعلى عكس ما كتبه المؤرخون الإغريق، لم يكن هناك أي مجتمع عربي قديم بدوي، منحدر من قبائل صحراويّة، وهو بذلك ينسف وجهة النظرة الإغريقية حول العرب كاملاً. فهو يضيف أيضاً، أنّ الإسلام من أهمّ العوامل التي شكّلت "الشعب العربي"، حيث أنّ انتشاره في العالم العربي خلق الحاجة لتوحيد العرب تحت مظلّة عرقيّة تاريخية واحدة. وكانت تستخدم لفظة "عربي"، بحسب وبّ، من قبل النخب المسلمة كطريقة للتعبير عن انتسابهم لهذه الأمّة الصاعدة وليس بالإشارة إلى جذور بدوية من الجزيرة العربية، ويرى أنّ نشأة العرب كشعب هوياتي مرتبط بالازدهار الذي جاء مع الديانة الإسلامية، وتطورّ مع الوقت إثر الحروب والعوامل السياسية إلى فئة تجاوز معناها الديني لتقتصر على مجموعات تعتبر نفسها عربية ثقافة ولغة.
رغم تطور علوم الوراثة، لا زلنا بعيدين عن التوصل إلى استنتاجات نهائية عن أصل الشعوب
ماذا يقول لنا علم الوراثة الأثري الـ"Archaeogenetics" عن فكرة الأصل والنسب؟ ولماذا يجب أن نغير الأطر والمفاهيم لبحثنا عن أصلنا
"الأصل والفصل" و"الحسب والنسب"، عبارات نسمعها ونرددها، فما الذي تقوله لنا عن أصلنا كعرب؟
ومن هنا نجد في العالم العربي اليوم، تنوع عرقي وديني وأثني وثقافي وفكري، يجتمع كلّه تحت مظلة لا تعتمد تطابق الـDNA، وإنما تعتمد تجارب مشتركة على مرّ القرون منذ قيام الخلافة الإسلامية حتى اليوم، وبسبب ذلك، أيضاً، لا بدّ من إعادة النظر في بحثنا عن "الأصل"، وتغيير الأطر التي ننتهجها.

شجرة العائلة، والبحث عن "الأب" الأول

بحثنا عن الأصل مقولب في السرديات الدينية، التي تتماهى فيها فكرة الأصل مع "الأب" الأول، والأصل الواحد الذي يتجسد في شخص واحد، والفكرة المعتمدة، كما توردها الرواية الدينية هي أنّ "نوح عليه السلام هو أبو البشرية الثاني بعد آدم، وأنّ أبناءه هم أجداد البشرية كلها مجتمعة، وهم يافث الأكبر وسام الأوسط ثم حام أصغرهم، وبالتالي كل البشرية خرجت من هؤلاء الأبناء الثلاثة لنوح عليه السلام"، حسب موقع "اتحاد النسّابين العرب".  وتقترن هذه الفكرة مع مفهوم المجتمع "الأبوي" الذي تنتظم فيه العلاقات الاجتماعية في أسرة، "ربّها" وسيدها شخص واحد. وتكرسها في عالم السياسة، فكرة القائد الواحد، وكما نعلم فإنّ تجليات هذا النسق في الثقافة والحياة الاجتماعية العربية لا تعدّ ولا تحصى.

تتناول الشعوب العربية هذه الأسئلة بأشكال مختلفة. فإذ أخذنا لبنان ومصر كمثالين في هذا المجال، نجد أنّ السؤال يُطرحُ بصيغة عنصرية. ففي مصر، هناك كثيرون يرون أنّ شعب مصر اليوم على علاقة عرقية مباشرة مع شعب مصر الفرعونية، وهناك آخرون في الوقت نفسه، يعتقدون أنّ الشعب المصري سواء الحالي أو القديم، هو شعب أفريقي، ويذهب آخرون إلى أنه شعب شرق أوسطيّ "دخل في تركيبته الوراثية العنصر الأفريقي منذ القدم وليس بالتزامن مع السيطرة العربية على مصر فقط"، كما خلصت مقالة عن نتائج دراسة الحمض النووي لمومياوات مصرية قديمة. أما المنحى الإشكالي الذي اتخذه البحث في لبنان، يطرح التساؤل إن كان اللبنانيون فينيقيين أم عرباً؟ وتحمل كلّ من الفئتين دلالات مختلفة تستثمرها التقسيمات الطائفية في البلاد. وهكذا نرى أن سؤال الهوية في كلّ مرة أوسع من الأصل والنسب. علم الوراثة الأثري (Archaeogenetics)، الذي بدأ يساعد في فهم التواريخ المتشابكة لجماعات البشرية وحركتها وهجراتها عبر العصور، يدعونا لتبني مفهوم جديد لفكرة الأصل وذلك بأن ننفتح على التأثيرات المتنوعة التي تشكّل هويّة كلّ منا، فبالرغم ممّا يعتقده المرء، وما يؤمن به عن أصله، فإنّ كلاً منا مجبول من عوامل ثقافية وتاريخية عديدة. إنّ مسألة السلالات والأصول مسألة معقدّة تمسّ جميع الأركان التي تؤسس هويّة الشخص، ولكن بدلاً من النظر لأنفسنا كأفراد منحدرين من أصل واحد، نستطيع أن نعدل المنظور، ونقبل بأننا مزيج من آلاف الأصول والتأثيرات. كما يؤكد هذا العلم أنّ تطور دراسة التحليل الجيني، بكل أشكاله، لا تعني أننا سنحصل على إجابات حاسمة. فلا زلنا دون شكّ بعيدين عن التوصل إلى استنتاجات نهائية عن أصل الشعوب. وكذلك، يخبرنا الباحث في علم الوراثة الأثري، يوهانس كراوس (Johannes Krause)، أنّ علينا إعادة النظر بنموذج فهم أصولنا، بدلاً من نموذج الشجرة، التي يتربع على رأسها اسم أبٍ أو جدّ، نؤمن بأننا نحدر منه جيلاً بعد جيل، علينا أنْ نعتمد منظوراً مختلفاً، نعيد من خلاله رسم أصولنا على أنّها عالم متشابك، مؤلف من ملايين التأثيرات والأصول، التي تمتد وتترابط في كل واحد منّا. وهكذا نحمل شجرة مقلوبة، ونتمتع بمئات الآلاف من الأصول والتأثيرات التي تأخذ نكهة وشكلاً جديدين في وجه كلّ منا. ومع ذلك كلّه، ومع كلّ اكتشاف جديد، يمكننا أن نقول بثقة: إن الهوية العربية أعمق وأوسع من أن يحددها عنصر واحد أو مسار واحد مهما بلغ تأثيره.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image