شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نحن نريد أن يعود علماؤنا وخبراؤنا إلى العالم العربي، ولكن كيف نصبح قادرين على احتضانهم؟

نحن نريد أن يعود علماؤنا وخبراؤنا إلى العالم العربي، ولكن كيف نصبح قادرين على احتضانهم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 19 يناير 201806:15 ص
حصل الشاب اللبناني فؤاد مقصود على الجائزة الأولى في البرنامج التلفيزيوني "نجوم العلوم" الذي يبحث عن أمهر المخترعين والمبدعين في العالم العربي. يمثّل البرنامج مبادرة مهمة وشيقة لتشجيع العلم والابتكار في العالم العربي كوسيلة للتقدّم والتطور، خاصة أنّ أغلبية مجتمعاته فتية، وتتمتع بكم كبير من الإمكانيات غير المسبورة. عاد مقصود إلى لبنان الذي استقبله بهتافات تهنئة تعبّر عن فخر بلده بنجاحه، لكنّه عاد أيضاً إلى بلد لا يستطيع إعانته وإعطاءه المساحة البحثية والتقنية لتحويل مشروعه إلى حقيقة على أرض الواقع. فرغم قوة اقتصاد لبنان في مجالات معينة، إلا أنّ النطاق العملي والبحوث العلمية وفرصهما، قلّما تستوعب ما في المجتمع من طاقات. يمثل مقصود حالة علمية واقتصادية "سلبية"، تشير إلى فجوة بين العرض والطلب في المجال الفكري في العالم العربي، فـ"العرض" أكبر بكثير من "الطلب"، ممّا يدفع الشبان والشابات إلى الهجرة لبلاد غربية لمتابعة أبحاثهم وتحقيق طموحاتهم ومشاريعهم. تمثّل حالته أيضاً، الهوة في الإنتاج المعرفي بين الشرق والغرب. وفي هذا السياق، نطرح في هذه العجالة سؤالاً مهماً هو: كيف يمكن للعالم العربي أن يفتح مساحات فكرية ومجالات علمية، تستطيع التفاعل مع هذه المواهب والكفاءات؟ وهل هناك ما يكفي لنطلب أن ينمو ويتطور جيل من العلماء في بلادنا، بل وأن يعود الخبراء والعلماء العرب إلى بلادهم العربية؟ جواب هذا التساؤل يصطدم بعددٍ من الإشكاليات، ويتطلب معالجة على عدد من المستويات، يمكن أن نقاربها على نحو أولي من خلال إثارة الأسئلة التالية.

كيف يتعامل العرب مع تاريخ أُسِّس له من وجهة نظر غربية؟

إنّ إشكالية الإنتاج المعرفي في العالم العربي تظهر بشكل أساسي على صعيد الجامعات في وضع المناهج؛ وخلق فرص للأساتذة والطلاب للقيام بأبحاثهم. وعلى الفور تبرز فجوة كبيرة بين مراكز العلم "المستوردة" التي تشبه المؤسسات الغربية قلباً وقالباً، والمراكز "المحلية" التي تحاول خلق مناهجهها الخاصة. ولعل أهم هذه الأمثلة هي نظريات الفكر الغربي، فمن منّا لم يسمع أو يدرس عن هيغيل، أحد أهم الفلاسفة الألمان وأحد مؤسسي الحركة الفلسفية المعروفة بالمثالية الألمانية، التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر؟ ولكن نظريات هيغل وظّفت لأكثر من قرنين، كتبرير وإطار لتفكير سياسي وثقافي وعلمي يتخذ البلدان الأوروبية والعالم الغربي بشكل عام مركزاً له، ومحوراً يهمش باقي الحضارات حوله. كان من أهمّ ما قدّمه الفيلسوف الألماني جدلية السيد والعبد أو "الهيمنة والاستعباد"، التي فسّرت كيفية تشكيل تلك العلاقة من خلال تطور في الوعي الذاتي. جاءت تلك السردية في وقت اشتدت فيه المعارضة الأوروبية تجاه تجارة الرق في المستعمرات، كما نظّر هيغيل أيضاً لمبدأ الحرية وجذورها في حقبة التنوير في أوروبا في القرنين السابع والثامن عشر. ومع أنّ المناهج الجامعية في كافة تخصصات العلوم الإنسانية تلخص فلسفة هيغل، لكنّها غالباً ما تتغاضى عن تأثير ثورة هايتي (1791) ضد الرق والاستعمار على نظريته. وكما تبيّن المؤرخة ودكتورة العلوم السياسية سوزان باك-مورس في كتابها "هيغل وهايتي"، أنّ نظريات هيغل عن الحرية وسردية السيد والعبد تشكلتا نتيجة إلمامه وتأثره بثورة هايتي التي غطتها العديد من الصحف آنذاك، كمجلة مينرفا (Minerva) التاريخية والسياسية. ولكن رغم تأثير تلك اللحظة التاريخية الهامة على فكر هيغيل، كما تضيف باك-مورس، بقيت فلسفته عن الحرية محصورة في إطار عنصري، أوروبي المنحى.
يجب أن لا نتناسى أنّ فلسفة هيغل عن الحرية بقيت ملتزمة بإطار أوروبي عنصري، قام على تهميش بقية شعوب العالم
هل يصبح العالم العربي مقرّاً للبحث العلمي؟ وهل يعود الخبراء العرب من أرجاء العالم إلى أوطانهم؟
بدأنا "نشهد زيادة مذهلة في الإنتاج المعرفي البحثي في العالم العربي في الـ15 سنة الأخيرة"
إنتاج المعرفة في العالم العربي: هل هو "وعد مستحيل"؟
في محاربة الاستعمار الفكري، لا بدّ من إنشاء منهجيات بحث تخاطب المجتمعات معتمدة على ثقافاتهم وأنساقهم الإبستمولوجية الخاصة
يعكس التمسك بتدريس فلسفة هيغل، والتغاضي في نفس الوقت عن صبغتها العنصرية، الازدواجية المترسخة في دراسة التاريخ وتاريخ الفكر، بشكل عام والمؤسسة الأكاديمية بشكل خاص، حيث نجد أنّ العديد من الدوائر الجامعية تدرّس الفلسفة الغربية ولكنها لا تغوص في منبعها وخلفيتها بشكل نقدي. وهذا مثال على ظاهرة تكاد تكون سمة للعديد من المواضيع الأكاديمية، حيث أنّنا ندرس عن تأثير حقبة التنوير على العالم وليس عن تأثير ابن طفيل أو ابن رشد على مفكري الغرب خلال تلك الفترة التاريخية، وعن تأثير الإغريق وحضارتهم ولا نتتبع تأثير عصر الترجمة في بغداد على تاريخ الفكر، ونرى تلك التناقضات بشكل ملحوظ في المدارس والجامعات الخاصة والدولية في عالمنا العربي. فما هو وضع العلم والبحث في المنطقة؟ وما هي العوامل التي شكلت ذلك الفضاء الفكري وما تداعياتها؟ وأخيراً، ما هي الخطوات التي تتخذها الدول العربية المختلفة لإحراز تقدمٍ في مجال التعليم والبحوث ونقد تاريخ المعرفة؟

هناك سوء تفاهم عميق بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعيّة، ولذا هناك نخب من الباحثين الذين لا يتحاورون مع بعضهم بعضاً

يقول الدكتور ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت لرصيف22، إنّه يوجد خبر جيد وخبر سيء فيما يتعلق بالإنتاج المعرفي في العالم العربي: "الخبر الجيد هو أنّنا نشهد زيادة مذهلة في الإنتاج المعرفي البحثي في العالم العربي في آخر 15 سنة. الخبر السيء يأتي عندما نتحدّث عن استخدام وتوظيف العلم والأبحاث، حيث أنّها قد أُنتِجت ولكنّها غير منتجة”. يحدد البروفيسور ثلاث أسباب رئيسيّة تفسّر هذه الظاهرة: “أولاً، الدولة الاستبدادية العربية بأشكالها المختلفة تفرض خطوطاً حمراء على التفكير الحرّ؛ ثانيّاً، يوجد سوء تفاهم عميق بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعيّة وبذلك هناك نخب من الباحثين الذين لا يتكلمون مع بعضهم بعضا، بل يتواجهون في حروب ثقافية وفكرية لها تداعيات دقيقة وحقيقية أحياناً؛ ثالثاً، تتجه جميع الجامعات في العالم العربي نحو سلعنة البحث العلمي وسلعنة نشاطها وهذا يصبّ ضد اتجاه ربط الجامعة بالمجتمع”.

من يسيطر على العلم، يسيطر على العالم

يشكّل البحث العلمي ركناً أساسياً لتطوّر المجتمع حيث أنّه يساهم في تنمية الرأسمال "الرمزي". نعيش في عصر يمكن للمعرفة فيه أن تكون بمثابة سلاح أو تقنية تمنح سلطة واسعة وثروة اقتصادية تساعد على التقدم. وهذا تحدّ على صعيد جديد يواجهه العالم العربي الذي تراجع مركزه كمحور أساسي لإنتاج العلم والمعرفة. نتحدث دائماً عن العصر الذهبي الإسلامي بين القرنين الثامن والثالث عشر، عندما كانت المنطقة تزدهر بالبحث العلمي والثقافي وكانت بغداد عاصمة للعالم. لكن الزمن تغيّر بشكل جذري فبسبب الإستعمار والحرب والحكم الاستبدادي تآكل نسيج تلك الثقافة العلمية حتّى تفتت مع الوقت وانتقل مركز الحضارة إلى الغرب. أسباب النقلة عديدة ومعقدة لكنّنا نستطيع تلخيص تداعياتها بنقطتين مهمتين، أولاهما: تدهور الإنتاج المعرفي في العالم العربي والإسلامي، وثانيهما، معاملة مجتمعات منطقتنا ككائن يستطيع العالم الغربي دراسته وتشريحه. أثّر الاستعمار الغربي على النسيج الثقافي والاجتماعي والسياسي والفكري في المنطقة العربية والإسلامية. كان إدوارد سعيد من أشهر من وضّح تلك التداعيات في كتابه "الاستشراق" حيث شرح طريقة خلق "الآخر" الشرقي من خلال تصويره ككائن غرائبي وجنسي. أتت هيمنة الغرب على المنطقة بشكل كامل، فأنتجت عنها بحوثاً وخطاباً رسّخ الفارق الفكري بين الشرق والغرب. وبحسب سعيد، أصبح كل ما أنتجه الغرب من علم وحوار مرجعاً أساسياً عن الشرق، وذلك نتيجة مكانة وقوة الغرب السياسية والإقتصادية.

دعوة للقضاء على الاستعمار الفكري

تقول الباحثة ليندا توهيواي سميث وهي من السكان الأصليين لنيوزيلاندا أنّ كلمة "أبحاث" هي من "أشنع" المصطلحات في قاموس المجتمعات التي تعرضت لاستعمار واستيطان، حيث أنّ القوة المستعمرة استخدمت تلك الشعوب للقيام بتجارب علمية عنصرية الطابع. في كتابها "إنهاء الاستعمار في منهجيات البحث" (Decolonizing Methodologies)، تقدّم توهيواي سميث نقداً هاماً لدراسة علم الأنثروبولوجيا بشكل خاص، والتحول الثقافي لمفهوم البحث في الغرب بشكل عام. حيث تشدّد الكاتبة على أهميّة إنشاء منهجيات بحث تخاطب مجتمعات السكان الأصليين، آخذة بعين الاعتبار ثقافاتهم وأنساقهم الإبستمولوجية الخاصة.

كلمة "أبحاث" هي من "أشنع" المصطلحات في قاموس المجتمعات التي تعرضت لاستعمار واستيطان

مشروع إنهاء الاستعمار الفكري في منهجيات البحث هو مشروعٌ عالميٌّ يتطلب تفهمّاً لخصائص كل بلد. فما هي أشكال ذلك الاستعمار في العالم العربي؟ أخذت بلاد العالم العربي استقلالها من الاستعمار على عدّة مراحل تاريخية لكنّها لم تستطع نفض آثاره بشكل كلّي، وبالأخص في الإطار التعليمي. حيث بقيت أسس وأدوات المستعمر مستخدمة في المدارس والجامعات والمناهج الدولية، مما خلق أنظمة سيطرت عليها نخبة تعتمد على علاقات أبوية ومحسوبية. في محاولة للتخلص من آثار الاستعمار، رفضت بعض البلاد العربية كسوريا مثلاً، إقرار لغة أجنبية كلغة للتدريس الوطني، لكنّ هذه البلدان أنفسها، لم تجد بديلاً لتوريد وترجمة مناهج غربية إلى السياقات العربية. خلقت هذه الآلية فجوة كبيرة ما بين نخبة علمية تتدرب وتتحاور في مؤسسات التعليم العالي من جهة، وبين المجتمعات التي تنتمي إليها ولكن لا تربطها بها أواصر فكرية، فلا الباحثون يشعرون بأن مجتمعاتهم تهتم بطرائق تفكيرهم، ولا الشعوب العربية تشعر بأنّ البحوث النابعة من تلك المؤسسات تشبهها أو تعبّر عن واقعها بشكل دقيق.

رحل الاستعمار، وبقيت الأسس والأدوات التي خلقها مستخدمة في المدارس والجامعات والمناهج الدولية

يتطرق الباحثان رمزي ناصر وكمال أبو شديد إلى هذا الإشكالية بالتحديد في الجامعات العربية، ويجدون أنها تحدّ من قدرة الأكاديميين على التأثير في مجتمعاتهم المحليّة. وفي تحليل هذه الظاهرة، يسلط الباحثان الضوء على ثلاثة محاور في محاولة لفهمها: أولها إبعاد مؤسسات التعليم العالي عن الإبيستومولوجيا وطرق المعرفة المحلية؛ ثانيها، التأخر في تحرير العلم من قيود الاستعمار (التي أشرنا إليها)؛ وثالثها غياب القدرة على الانتقال إلى عصر التكنولوجيا بشكل فعّال وناجح. بالإضافة للأسباب المذكورة أعلاه، يتحدث ناصر وأبو شديد عن عدم التناسق بين طرق التعليم وطرق المعرفة المحلية، حيث أنّ طرق البحث المستخدمة غالباً ما تكون مستعارة من ابستومولجيا غربية لا تتناسب مع الحالة المحليّة التي يتناولها البحث. كما تخلق آلية العلم الموروثة من الاستعمار أيضاً جواً من العلاقات الهرمية (top-down) في الصف، لا تسمح للتلاميذ بالتفاعل مع الأستاذ بشكل فعّال. وبالتالي، يجهض الجو التعليمي فرص سبر بحوث عربية وأكاديمية أصيلة. شكلت هذه التناقضات التعليمية في العالم العربي حالة صدمة ما بعد الاستعمار، خلقت جيلاً من الطلاب الذين يستوعبون كماً هائلاً من المعلومات، ولكنهم لا يبدعون أو ينتجون أبحاثاً أكاديمية تستند إلى طرق معرفية محلية. نضيف إلى ذلك غياب التشجيع الحقيقي للابتكار أو خلق فرص له في مناهج التعليم العالي، وأسباب ذلك كثيرة، لعلها موضوع لمقالة قادمة.

الصناديق والدعم الوطني للبحث

أنشئ في عددِ البلاد العربية كلبنان، والأردن، وتونس، والمغرب، وقطر والإمارات العربية المتحدة صناديق حكومية لتمويل وتشجيع البحوث في البلاد المذكورة. بحسب دراسة لبروس كري-آدلر، وريغاس أرفانيتيس وساري حنفي "إنتاج المعرفة في العالم العربي: الوعد المستحيل" (2016)، ساعدت تلك الصناديق والسياسات التي اتخذتها حكومات البلاد المذكورة أعلاه على رفع عدد الباحثين المحليين الذين يستطيعون الكتابة عن ثقافاتهم ومجتمعاتهم بلغتهم ومنطق ثقافتهم—سواء كان ذلك باللغة العربية أو بلغة أجنبية. ويمكن اعتبار المجلس العربي للعلوم الاجتماعية كمثال ناجح للتطور البحثي في العالم العربي. انبثق المشروع من عملية مشاورات بين باحثين عرب بدعم من مركز أبحاث التنمية الدولية الكندي والمكتب الإقليمي لمؤسسة فورد في القاهرة. يشكّل المجلس المتمركز في بيروت منصة هامّة لجمع باحثين من كافة البلاد العربية لنشر أعمالهم والمشاركة في مؤتمرات ينظمها المجلس. يمثل معهد الدوحة للدراسات العليا مثالاً آخر لتحفيز العلم في العالم العربي وبناء شبكات تواصل بين الباحثين. من الجدير بالذكر هنا أنّ التسرع في تأميم التعليم لمحاربة هذه المشكلة ليست بالضرورة خطوة جيّدة، فغالباً ما تفتقد البلاد العربيّة البنى التحتية المناسبة لمثل هذه الخطوة إضافة إلى مجال من الحرية والفكر النقدي لتنفيذ تلك المشاريع. بحسب الدكتور حنفي، إنّ الجهد الوطني إيجابي بالإجمال ولكنّه مبعثر فأغلبية الدول العربية المذكورة لم تستطع خلق مجالات متميزة ومتخصصة بحثياً، ويضيف: “التمويل الوطني وعدم وجوده يشكّل جزءاً من المشكلة. أرى المشكلة الكبرى مشكلة تنظيمية حيث أنّه يجب خلق شبكات تعاون إقليمية ومحلية على صعيد مراكز الدراسة العليا”. وجد التقرير العلمي لمنظمة UNESCO لعام 2015 عدّة أسباب للتأخر في التطور العلمي في المنطقة العربية، منها تداعيات الأزمة المالية العالمية عام 2008؛ وتأثيرات الربيع العربي السلبية على الكثير من البلاد في المنطقة؛ وكثرة الإنفاق على القطاع العسكري في مقابل القطاعات التعليمية؛ والإنخفاض في الإستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) إثر انقلابات عام 2011. رغم تلك النكسات، يقول التقرير إنّ الاستثمار في قطاع البحث والتطوير في العالم العربي يحمل إمكانيات واعدة. كانت أكبر نسبة باحثين صاعدين في المنطقة العربية عام 2013 موجودة في تونس، بـ"1394" باحثاً لكل مليون مواطن، تليها المغرب بـ"864"، ثمّ قطر بـ"587". كما وجد التقرير أن أكثرية البحوث في الدول العربية تتمّ في القطاع العام، تليه مؤسسات التعليم العالي، ولا يقدّم القطاع الخاص الكثير لتلك الجهود، معظم بلاد المنطقة. مع أنّ الأردن والمغرب وعمان وقطر وتونس والإمارات تبقى استثناء لتلك القاعدة حيث أنّ تتراوح مساهمات القطاع الخاص بين الـ20% والـ30%. يختتم التقرير بعدّة نصائح لوضع سياسات فعّالة تشجع البحث العلمي في المنطقة، بداية يسلط الضوء على أهميّة خلق برامج واضحة لكل بلد، توضّح احتياجاتها الخاصّة وتخلق لها مشاريع تحاكي تلك الفراغات. ثانياً، يبرز التقرير عدم التطابق بين مهارات الخرّيجين وطلبات سوق العمل حيث أنّنا نجد فيضاً في عدد الخريجين من جامعات دراسات عليا غير مؤهلين لأخذ وظائف مهنيّة رغم أهميتهم في العالم العربي. ثالثاً، يؤكد التقرير على أهميّة الأخذ بعين الاعتبار العوامل غير المادية كالشفافية، وسلطة القانون، والفساد، وإنشاء بيئة صحيّة للمؤسسات. أخيراً، ينصح التقرير بزيادة التواصل بين الباحثين محليا وعالميا في مجالات علمية مختلفة وقطاعات اقتصادية لخلق شبكات عمل مستدامة.

شبكات التواصل: خطوة لا بدّ منها

يرى الدكتور حنفي أنّ عدم التواصل بين الباحثين على المستوى المحلي والإقليمي يخلق نخباً لا تتجاوب مع بعضها بعضا. "تقسم النخب لغوياً فنرى الباحثين الذين يتكلمون اللغة العربية منفصلين عن الذين يتكلمون اللغة الفرنسية أو الإنجليزية. تقسّم أيضاً على خطوط فكرية-سياسية حيث نرى اليساريين يختلفون بآرائهم عن الإسلاميين في مجال العلوم الاجتماعية فهل يتفاعلون أو يتكلمون مع بعضهم بعضاً؟" بالإضافة إلى الحوار النقدي بين المجالات، يرى الدكتور حنفي إشكالية أخرى يواجهها الباحثون، وهي التساؤل إن كان هدفهم أن ينشروا محليّاً ويندثروا عالمياً، أم العكس، أن ينشروا عالمياً ويندثروا محليّاً؟ ويضيف: "لا نريد أي من هذه الاحتمالات بل نريد التجسير بينهما". بالإضافة إلى تلك الجهود، يتوجب على إدارات الجامعات وضع مناهج تعليمية تعترف وتشجّع الطرق المعرفية المحليّة المناسبة للحالة الاجتماعية موضع الدراسة. يجب على تلك المناهج تفكيك هيمنة الفكر الغربي على الساحة الأكاديمية من خلال طرح سرديات ونظريات نابعة من العالم العربي. هذا لا يعني أن يكون هناك سلخ فكري تام أو قطيعة مع العلماء والخبراء ومناهج البحث الغربية، بل أن يؤسس لطريقة تخلق مناهج تحاكي السياق العربي. يرى الدكتور حنفي أنّ وضع مناهج عربيّة تخرّج طلاّباً متمكنين من لغتهم الأمّ وقادرين على التعامل مع اللغات الأجنبية أيضاً حلٌّ مثالي وضروري. من الجدير بالذكر أنّ الأكاديمية الغربية حاولت تفكيك الاستقطاب الفكري بين الشرق والغرب حيث أنّها سمحت بتطور نظريات نقدية أنتجت كليات لدراسة الثقافة العربية والإسلامية، والتاريخ الفكري العربي. وقد خرّجت تلك الكليات مفكرين مؤمنين بأهمية انتقاد خلفية الأكاديمية الغربية، وتقديم مناهج بديلة تأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر عربية، ومن المثير أنّ هذه الإمكانيات تسلط الضوء على أنّ المنهج النقدي في الأكاديمية الغربية وصل إلى درجة من النضج الفكري حيث أنه شجع على تطوير نظريات تنتقد الأكاديمية من الداخل، وتقوم بما يجب أن تقوم به الدول العربية تجاه تواريخها وثقافتها وحياتها الفكرية والأكاديمية. هي دعوة لإعادة نظر جذرية فيما يتعلق بمركزية الإنتاج العلمي في الغرب وتفعيل الإبداع الفكري في الشرق، وربطه بجذور وأساليب أصيلة من قلب المنطقة وتواريخها، كي يصبح المستقبل أكثر عدلاً وإنصافاً للطاقات الخلاقة العربية التي تتبعثر وتنتشر حول العالم بعيداً عن عالمنا العربي. المراجع: "البحث العلمي في البلاد الناطقة بالعربية: التمويل والمنافسة، والتعاون والمبادرات الدولية" (2017)، بروس كوري-ألدر وريغاس أرفانيتيس وساري حنفي؛ "'البتراس' الأكاديمي في العالم العربي" (2007)، رمزي ناصر وكمال أبوشديد؛ "إنهاء الاستعمار في منهجيات البحث"، ليندا توهيواي سميث؛ "هيغل وهايتي" (2000)، سوزان باك-مورس؛ "الإنتاج العلمي في العالم العربي: واقع وأرقام"، استيتو عبد الجبار؛ "إشكالية التربية والتعليم وإعادة انتاج التخلف في الوطن العربي: بحث في علاقتها بنظرية العقل المجتمعي"، علاء الدين صادق؛ "مشكلات البحث العلمي في العالم العربي: رؤثة إسلامية"، عماد أحمد برغوثي ومحمد أبو سمرة؛ "سوسيولوجيا إنتاج المعرفة الكولونيالية - حالة المغرب"، عدد مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image