"إذا غنى أبو بكر سالم قصيدة، فالأفضل ألّا يغنيها أحد بعده"، تقول جميلة بن سعد.
هي سيدة جزائرية سحرها في صباها الصوت الأوبرالي للمطرب اليمني أبو بكر سالم بلفقيه، والذي غيبه الموت هذا الشهر بعد تجربة فنية امتدت لأكثر من نصف قرن.
أدخلها بلفقيه إلى عوالم الثقافة والفن في اليمن الذي لم تزره، والذي ارتبط اسمه لسنوات بالحروب والثورات.
"عندما سمعته للمرة الأولى، لم أكن أعرف عنه شيئاً حتى اسمه، إلّا أنّ صوته زلزل الخزان الغنائي الذي تربيت عليه"، تقول بن سعد التي تعمل مهندسة أرصاد جوية في العاصمة الجزائر، وتعدّ واحدة من جزائريين وعرب قلائل يتذوقون الفن اليمني.
من عمق الدان الحضرمي، ذلك الفن الشعبي الثري الممتد كامتداد صحراء الربع الخالي، جاء بلفقيه.
بدأ مؤذناً في مساجد مدينته تريم بمحافظة حضرموت (790 كم) في أربعينيات القرن العشرين، لينطلق بعد ذلك من عدن وبيروت والرياض، مقدماً تجربة فنية لافتة ضاهت تجارب عمالقة الطرب العربي وفق ما يرى كثر.
تسمع بن سعد أغاني بلفقيه في السيارة والمنزل، يستغرب معارف لها هذا الوله، ويتساءلون ما إذا كانت تفهم ما يقال، هي المنحدرة من جبال وهران.
تفهمها جيداً، هذه اللهجة، وتلم بثقافة البلد وفنونه، بسبب بلفقيه.
ملك الدان
قبل أن يحترف بلفقيه الغناء ويسجل باكورة أعماله "يا ورد محلى جمالك" عام 1956، عمل ضارباً على آلة الإيقاع، ومعلماً اللغة العربية في عدن. يحكي عازف العود في فرقة أم كلثوم والطالب في معهد الموسيقى العربية بالقاهرة، هيثم الحضرمي، عن تأثير هذه الفترة على بلفقيه. فقد ظهرت في محافظته على مخارج الحروف الصحيحة للكلمات التي يغنيها، وحرصه على ضم أشهر عازف إيقاع في اليمن إلى فرقته. "كنا نسمع غناء يمنيّاً وإيقاعاً وعزف عود تتناغم مع الأوركسترا"، يقول الحضرومي لرصيف22. الشعر والتلحين والصوت الفريد، هذا المزيج أعطى بلفقيه هالة فنية استثنائية في نظر جمهوره. "إذا اعتلى خشبة المسرح وأخذ يغني، ظهرت الإيقاعات على حركة جسده، وإذا كرر مفردة فإنه يكررها بنغمة مختلفة"، تقول بن سعد. حاز بلفقيه على جوائر عدة، منها بينها جائزة اليونيسكو لأفضل صوت في العالم لعام 1978. وفي سبعينيات القرن العشرين، مُنح بلفقيه الجنسية السعودية، لكنه ظل "يغني بأسلوب يمني بحت، مستخدماً إيقاعات حضرمية كالرومبا والشرح، وكان يستخدم الإيقاعات البدوية والصنعانية"، يقول الحضرمي لرصيف22. شكل بلفقيه والشاعر الراحل حسين أبو بكر المحضار ثنائياً منفرداً، فكلاهما يغرف من فن الدان الذي طبع الأغنية الحضرمية، والتي تمكن بلفقيه بجدارة من إيصالها إلى خارج حدود اليمن من خلال استخدامه فرق الأوركسترا."عندما سمعته للمرة الأولى، لم أكن أعرف عنه شيئاً حتى اسمه، إلّا أنّ صوته زلزل الخزان الغنائي الذي تربيت عليه"
"إذا اعتلى خشبة المسرح وأخذ يغني، ظهرت الإيقاعات على حركة جسده، وإذا كرر مفردة فإنه يكررها بنغمة مختلفة"لكن، ونظراً إلى تشكل الأوركسترا العربية من عازفين عرب يصعب عليهم فهم خصوصية الموسيقى اليمنية، وفق ما يرى الحضرمي، فقد "عمد بلفقيه إلى تقديم آلة العود في أعماله موظفاً أشهر عازفي العود اليمنيين مثل أحمد فتحي وعوض بنساحب"، مؤكداً حرص بلفقيه على إظهار أسلوب ريشة العود اليمني ببراعة. تأثر بلفقيه، كذلك، بالتراث الصوفي الذي تشتهر به مسقط رأسه، مدينة تريم. ظهر هذا جلياً في أعمال عدة أبرزها "عللاني"، وهي قصيدة لشيخ المتصوفة الأعظم محيي الدين بن عربي بعنوان "مرضي من مريضة الأجفان"، لكنها صارت بصوت بلفقيه ولحنه إنسانية الهوى، عابرة حدود الزمان والمكان.
يقول الحضرمي لرصيف22، مطربون يمنيون وعرب كثر غنوا لبلفقيه، لكنهم لم يتمكنو من أداء أغنية "عللاني"، هذه الأغنية القصيدة لا يقدر عليها سوى صاحب صوت عريض كصوت بلفقيه. "(هو قادر على) الجمع بين الأصوات العريضة والحادة والتحكم بها من دون الخروج النشاز"، يقول لرصيف22.تأثر بلفقيه بالتراث الصوفي الذي تشتهر به مسقط رأسه، مدينة تريم. ظهر هذا التأثير الصوفي جلياً في أعمال عدة أبرزها "عللاني"
صلة الوصل بين العشاق...
يروي مهاجرون حكايات عن شغف خليجيات وأميرات بغناء بلفقيه وشخصيته، هو الذي غنى للطائف وصنعاء وعدن وحضرموت وغيرها. وقد كان صوته خلفية لقصص حب عاشها أهل اليمن أيضاً. "بكت حبيبتي عندما بعثت لها كاسيت أبو بكر عتابك حلو"، يقول صادق (53 سنة)، سارداً لرصيف22، قصة حبه الأولى في حي الجمهوري بمدينة تعز (256 كم). كان ذلك في ثمانينيات القرن العشرين قبل ظهور الأقراص المدمجة، حيث كانت أغاني بلفقيه صلة الوصل بين العشاق. وقد كان تلفزيون صنعاء يفتتح بثه بأغنية بلفقيه "يا الله مع الليل بنسهر". برحيل بلفقيه، رحل آخر صوت يمني استطاع أن يُسمع موسيقى شعبه خارج حدود البلد الذي جعله حكامه في عزلة، وقلما يُذكر في ما يتعلق بالفن والثقافة. هو بلد ارتبط بانقلابات وحروب وخطف وتفجيرات ومجاعات وأوبئة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون