بينما يحتفظ الستيني أحمد عادل بحكايات غرامية عن ريعان شبابه الذي قضاه في جنينة الأسماك بجزيرة الزمالك، يجد الثلاثيني محمد خالد في سلالم العمارات ملاذاً آمناً لا يضاهيه مكان آخر كلما احتاج إلى مواعدة دافئة مع عشيقته.
30 عاماً كفيلة بتغيير اهتمامات جيلين في تحديد أماكن مواعدة تناسب أذواق واحتياجات كليهما، فالحديقة التي ظلت لسنوات رمزاً ومتنسفاً للباحثين عن ترسيخ وهج الحب، لم تعد اليوم الأولوية لدى عدد كبير من المراهقين.
فبحسب قاعدة لكل وقت أذان، فلكل حقبة زمنية أماكن مناسبة للمواعدة والتقاط اللحظات الرومانسية تناسب التركيبة الديموغرافية لها، نحاول رصدها وتتبع مساراتها.
جنينة الأسماك "حضن جوه الشجرة"
على مدار عقود طويلة، صنعت جنينة الأسماك أو"الجبلاية" حالة خاصة في العقلية الرومانسية المصرية، فجميع الحدائق العامة هي مقصد المتنزهين، إلا الأسماك فلها سمعتها وصيتها بأنها مقصد العشاق. اكتسبت الحديقة التي تقع في شارع الجبلاية بجزيرة الزمالك، صورتها الذهنية عند المصريين من الأفلام التي جرى تصويرها فيها خلال فترة الستينيات والسبعينيات، فلا يكاد يخلو فيلم رومانسي في هذه الحقبة من مشهد يجمع أصحاب البطولة داخل الحديقة، خصوصاً تلك التي كان بطلها المطرب عبد الحليم حافظ، فدار اللقاء في "بنات اليوم"، و"دليلة"، و"السبع بنات". ساهم تصميم الحديقة، التي أنشأها الخديوي إسماعيل قبل 150عاماً في دعم لقاءات العشاق، فكلما تعمقت بخطواتك زادت من احتجابك عن الرؤية، وهو ما كان يدفع عادل لاختيارها مقراً أساسياً للمقابلة. "الصفة الأساسية لأي مكان تتواعد فيه هو عنصر الأمان كي يضمن لك راحة نفسية وهو ما كان يتوافر في جنينة الأسماك، فلا يطاردك أحد بعد دفع تذكرة الدخول"، يشرح عادل سبب تفضيله جنينه الأسماك، مشيراً إلى أن سيرتها السينمائية لعبت دوراً في رفع الذوق الشعبي، فمن عاش هذه المرحلة كان يسير على خطى الفنانين. لم تنتهِ أسطورة جنينة الأسماك حتى بداية التسعينيات، فكانت تتصدر لائحة قصيرة بالأماكن النهارية للمواعدة الجماعية عند الكاتب هشام أصلان، حين أتم عامه الـ15. يقول أصلان بسخرية: "لم يكن الهدف هو مشاهدة الأسماك طبعاً، فهناك تتمتع بخصوصية شديدة مع صديقتك، فيها أماكن كثيرة تتوارى خلفها لاختلاس القبلات".الزمالك: شارع العشاق
"اللقاءات أيام زمان في المرحلة الثانوية مع التلميذات كانت تتم بشكل جماعي له بعد مادي لأننا طلبة نحصل على المصروف، أما الخروج الليلي فكان في نهاية شارع أبو الفدا بالزمالك، وقد أطلقنا عليه شارع العشاق، وهو سور قصير يزخر بثنائيات تعطي ظهرها للشاعر ووجها للنيل"، يضيف أصلان. قديماً كانت جنينة الأسماك والشريط المرافق لنهر النيل من المساحات التي حددتها العامة وقبلت بها السلطة، حتى فرضت علينا الموضة وصيحة الحداثة خريطة جديدة، كان أبطالها أصحاب الجينز بظهورهم في الملاهي الليلية وأندية الفيديو والعربات التي يتراص بعضها خلف بعض في هضبة المقطم. ما يقوله الروائي الشاب لا ينطبق على جزء من الماضي، فهذه المساحة لا تزال حتى الآن، يسميها شباب الزمالك بالمنتزه. شارع مظلم ترابط دوريات الشرطة على أطرافه بينما يحتل كورنيشه الشباب، لإشعال سجائر الحشيش واحتساء الجعة، أو لالتقاط لحظات رومانسية مع الحبيبة.أتوبيسات مكيفة... الكنبة اللي ورا
يستدعي أصلان مشاهد عالقة في ذهنه عن تغيير الأماكن: "في أوائل الألفية الثالثة بدأت تظهر في مصر المولات، ما مثل لنا خروجاً نوعياً بعض الشيء وصالات البلياردو لمرتاديها من أبناء الطبقة المتوسطة، كما كان أتوبيس النقل العام المكيف من التحرير إلى مطار القاهرة مكاناً ملائماً لذلك، فهو غير مزدحم خلال الفترة المسائية، تستطيع حجز تذكرتين وتلتقط اللحظات الرومانسية في الكنبة الأخيرة".المقطم: عربات الغرام
مع بداية الألفية الثالثة، كان جبل المقطم هو ملاذ أبناء الطبقة المتوسطة في مصر، فمن حالفه الحظ لشراء سيارة أو اقتراضها بشكل دائم من أبيه، كان يحمل جواز السفر لخلوة المقطم، حيث الهضبة الشاهقة التي لم تكن قد ألفتها بورصة العقارات بعد. وتجسد أفلام هذه المرحلة نمط حياة مواليد الثمانينيات، ففي فيلم "الحب الأول"، إنتاج 2011، كان النجم طارق لطفي يجسد نموذجاً لأبناء جيله المرفهين في المواعدة بين السينما وجبل المقطم. مكانان مناسبان لم يجد فيهما أي مزاحمة، وهو ما ثبت هذه الصورة في أذهان ذلك الجيل. "التغير ليس له علاقة بالمراحل العمرية، جغرافيا المدينة تتحكم في هذه المتغيرات، فالمقطم في بداياته كان منطقة هادئة دون رقابة، أما الآن فتحول لمكان أهلي". يشرح أصلان التغيير الذي طرأ على الحي الذي انتقل للعيش فيه منذ 12 سنة. أما قاعات السينمات، فتعد حلقة الوصل بين الأجيال المتعاقبة، ومن الثوابت التي لا ترتبط بالتغييرات الديموغرافية.الألفية الثالثة: المواعدة خارج الحدود
بعيداً عن الزمالك والمقطم، بإمكانكم تنظيم هذه المواعيد خارج نطاق دوائر العمل والأهل والأصدقاء أيضاً، وذلك من خلال الرحلات القصيرة التي تقتصر على يوم واحد أو الطويلة التي تمتد لأسبوع. مع بداية الألفية الثالثة، انتشرت هذه الثقافة في الأوساط الشبابية للهروب من الضغوط الداخلية، فالجميع يشعرون بالارتياح والانسجام في الحالة العاطفية كلما احتفظتم بخصوصيتكم، وهو ما جسده "السلم والثعبان"، إنتاج 2001، أكثر الأفلام التي عبرت عن واقع الشباب في تلك الفترة. &list=RD0Z9GHEzSIgw#t=57 احتاج حازم "هاني سلامة" إلى قطع آلاف الكيلومترات لمواعدة صديقته ياسمين "حلا شيحة" في مدينة الغردقة، كي يكون في مكان مناسب حتى يعبر عن حبه بعد تكرار تهربها منه في العاصمة. أحمد مختار يلجأ إلى هذه الطريقة بالسفر إلى أماكن قريبة من القاهرة مثل العين السخنة أو الإسكندرية، وفي بعض الأحيان يضطر إلى الإعداد لرحلة طويلة في مدينتي نويبع ودهب، والاثنتان يتوافر فيهما عامل الخصوصية، نظراً للطابع السياحي في محافظة جنوب سيناء. يقول مختار: "تجبرنا الظروف دائماً على الهروب من الزحام والمضايقات، لنفعل ذلك في أماكن أكثر هدوءاً وخصوصية".العمارات والأسانسير: ملاذ العابرين
بين طرق كثيرة يبحث عنها الشباب في مصر لحل أزمة مكان لقاء عاطفي يسمح بتبادل المشاعر، لا يتردد محمد خالد في اصطحاب صديقته إلى العمارات والمصاعد الكهربائية غير المراقبة بالكاميرات. "أي عمارة في وسط البلد بشوفها باخد صاحبتي فيها واطلع كأننا ناس عادية جدا ونمارس الحب بكل أريحية وننزل". يحدد خالد العقار على حسب حارسه وسكانه من أبناء الطبقة الأرستقراطية الذين لن يثيروا أزمات ادى ضبطهم، يقول: "طالما تجاوزت البواب دون إثارة الريبة أستطيع تأمين نفسي بين الطوابق". لا يجد خالد في هذه الطريقة غضاضة أو ابتذالاً لممارسة علاقة عابرة مع صديقته، يقول: "لا أحب الحدائق والحارات المكتظة لأني أشعر بالعراء".حارات مكتظة
الأماكن الضيفة التي تقل فيها حركة الأقدام عند حلول المساء كثيراً ما تمثل هدفاً للشبان والشابات، وتحديداً في منطقة وسط البلد، فتتوافد الثنائيات تباعاً لاختلاس القبلات بالتزامن مع حركة السير. بين هذه الأماكن، أحد الشوارع المتفرعة من هدى شعرواي، الذي أُطُلق عليه "شارع الملحدين"، يقصده الشباب لاحتساء زجاجات الجعة وما تيسر من سجائر الحشيش. ولا مانع من استغلاله في أعمال أخرى. ممر آخر يتسع عرضه لشخص واحد فقط، لا يقصده كثيرون لهذا السبب، لكنه مناسب للالتحام العاطفي. يقول أحمد ربيع، شاب عشريني من القاهرة، إن الشوارع الضيفة في وسط البلد من أماكنه المفضلة لمواعدة صديقته، نظرا لقلة سالكيها ليلاً. ولا يأبه كثيراً للمضايقات التي قد يتعرض لها في هذه الطرق. لكن منال، عشرينية قاهرية أيضاً، تفضل المصاعد الكهربائية بالفنادق والعقارات عن الحارات المظلمة الذائعة الصيت، تقول: "أشعر أنني فتاة سيئة السلوك للتعبير عن حبي في العراء، أما المصاعد فلها خصوصيتها ومذاقها أيضاً". صحيح أن الحدائق ما زالت تفتح أبوابها للقاءات العاطفية، لكنها لم تعد قاصرة عليها في ظل تغيير جغرافيا الأماكن والثقافات المتباينة بين الأجيال. "المسألة ليس لها علاقة بالسن بل بالميول والأذواق، أناس يحبون المواعدة في الحدائق، وآخرون في البارات والأسانسيرات والحارات "، بحسب تعبير هشام أصلان.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...