مُتَسَكِّع في القارة العجوز
"يُمكن للحياة أن تكون أفضل"
هاني نعيم (هنيبعل)
في لشبونة .1.
"ربما يمكن لهذه الحياة أن تكون أفضل"
الموسيقى تداخلت في رأسي. كنت أستمع لموسيقتي المفضلة عندما بدأ إيقاع لموسيقى أخرى. قمت بإزالة السماعات من أذني، ونظرت إلى الجانب الأيسر من مقطورة المترو. شاب ثلاثيني بملابس بوهيمية يمشي بين المقطورات، يحمل آلة الأكورديون. يعزف الموسيقى وعلى الأكورديون، كلب صغير يرتدي ملابس بوهيمية أيضاً. الكلب يبدو وكأنه تعوّد الجلوس فوق الآلة بشكل عادي جداً. الكلب يحدق بالجميع، والجميع يحدق به. لم يقل أي أحد أي شيء. تصرّف الجميع وكأنه يوم آخر في لشبونة.
الموسيقى التي لعبها الشاب لم أسمعها من قبل، ورغم ذلك، بدت مألوفة. تشبه وجوه الأشخاص الذين نلتقيهم بشكل عشوائي ونعتقد بأننا نعرفهم، وغالباً ما يكونوا مجرد غرباء.
الموسيقى أخذتني إلى زاوية أخرى من دماغي. أزمة وجودية جديدة بدأت تلوح في الأفق. لا أعرف ما إذا كنت دائماً في أزمة وجودية أم هي مجرد أزمات تمر كل فترة. لم أعد قادرًا على التمييز أو حتى الحسم. الحياة اليومية قذفتني إلى أماكن أكثر ظلمة حيث تتشكل الأزمات. الأزمة تلو الأخرى. أحياناً يخطر ببالي بأنني كنت هكذا منذ أن كنت في السادسة من عمري.
المشهد جعلني أفكر بأن الأمور يمكنها أن تكون أفضل قليلاً، وأن الحياة ستستمر بعد كل شيء. خرجت من القطار مع الكثيرين. أردت الذهاب إلى النزل حيث استأجرت سريراً في غرفة تتسع لسبعة أشخاص. كنت قريباً من "السرير"، ربما نحو ثلاثة كيلومترات. هكذا مشيت. أردت أن ألقي نظرة أخيرة على المدينة قبل مغادرتها. لم تتح لي الفرصة أن أكتشفها. مشيت المسافة كاملة مع حقيبتي على ظهري. أصبحت أثقل بعد أن وضعت بدلتي فيها. آه لم أذكر ذلك. كنت مدعواً لعرس أحد الأصدقاء القدامى. العرس كان في مكان ما يبعد قرابة 150 كيلومتر عن المدينة، في مكان ناء ولكنه فخم جداً. فخامته كانت أكبر من أن استوعبها، ولكن هذا أمر آخر.
صديق آخر يتزوج، وأنا هنا في إحدى ساحات المدينة. أشرب قهوتي وأدخن سيجارة تحت تمثال لا أعرف لمن يعود، ولكني أعتقد بأنه لشخصية تاريخية مهمة لأن كل عابر أراد التقاط صورة معه. لم أنزعج كثيراً.
الحياة ستمضي.
أتذكر بأنني بدأت سؤالاً وجوديًا آخر. أعود إليه لأبحث عن إجابة، أو ربما عن أسئلة أخرى.
"هل يمكن للحياة أن تكون أفضل؟"
أحياناً تمر لحظات أفكر بأن ذلك ممكناً، رغم أنه من الصعب القيام بذلك، على الأقل بالنسبة إلي. عندما كنت أصغر سناً، الأمور كانت أبسط وأسهل، أو هذا ما اعتقدته. اليوم، اكتشف بأن اليوميات بقدر ما هي سهلة وبسيطة، بقدر ما هي معقدة ومركبة بشكل كبير وأحياناً لا أستطيع استيعاب ذلك، أو ربما استوعب ذلك دون أن أهضم المسألة.
فرقة موسيقية مؤلفة من أفارقة بدأت تلعب الموسيقى في الساحة. جمع أكبر من الناس تتجمع للاستمتاع بالموسيقى التي تمزج ما بين البرتغالي والإيقاع الأفريقي.
أحياءٌ من جديد.
.2.
لست سعيداً، على الأقل هذا ما أشعر به معظم الوقت، ودائماً ما أسأل نفسي ما إذا كان الآخرين سعداء في حياتهم. أغلب الناس تبدو سعيدة، وحتى عندما أسألهم ما إذا كانوا سعداء، يجيبون بأنهم سعداء. ولكن هل فعلاً هُم سعداء؟ أم أنهم لا يُريدون أن يشاركوا بؤسهم مع الآخرين، أو يخافون من الإعلان عن أنهم ليسوا سعداء، أو ربما هم بؤساء ولا يعلمون ذلك؟
أين هم السعداء؟ ومن هُم هؤلاء؟ كم يبلغ مجموعهم؟
من السهل جداً قول أي شيء. قد يقرأ البعض هذه السطور ويقول بأن ما أقوله سلبي أو تشاؤمي. وقد يقولوا لي بأن أقوم ببعض التغييرات في حياتي لأصبح سعيداً. هؤلاء على الأرجح هُم الأكثر بؤساً بيننا. أسهل ما يمكن أن نقوم به هو إعطاء النصائح عن أي شيء، طالما نحن لا نقوم بما ننصح به. يُمكنني إسداء النصائح عن الكثير من المواضيع رغم أني لا أقوم بتنفيذ تلك النصائح، لأن التحدث أثناء تناول كأس من الويسكي هو شيء سهلٌ وممتع، ويعطينا شعورًا بالعمق، وبأننا نفهم الحياة. ولكن هل فعلاً نفهمها؟
بعد أن أنهيت قهوتي، تركت المكان الذي كنت فيه، وذهبت لأبحث عن ساحة أخرى، وعن السعادة أيضاً. مررت بشارع ليس صغيراً. رأيت عدداً كبيراً من الناس يقفون داخل محل. سألت أحد الأشخاص: "لماذا كل هؤلاء يقفون في الداخل؟"، أجاب بأنه لا يعرف. بعد ثوان اكتشفت بأن المحل يبيع الآيس كريم بعد أن رأيت عدداً من الناس يخرجون وعلى ملامحهم بهجة نادرة وفي أيديهم آيس كريم.
الآيس كريم يجلب السعادة للناس. أردت بعضاً منها. دخلت المحل ووقفت في الطابور منتظراً دوري. هنا، الجميع سعداء. يضحكون ويبتسمون. فتاة صينية تحمل آيس كريم على شكل وردة وتصوره ببث مباشر عبر فيسبوك. أرادت إظهار للعالم أجمع بانها قادرة على السعادة. أثناء ذلك، كادت أن ترتطم بأشخاص آخرين داخلين إلى المحل، ولكن هذا لا يهم الآن.
عدت للتفكير بأسئلتي بعد أن قمت بمحادثة جانبية مع فتاة تنتظر دورها خلفي، تحدثنا عن الـ (DJ) الذي يقف على شرفة منزله، ويلعب الموسيقى للعابرين في الشارع.
الآيس كريم يجب أكله قبل أن يذوب، كذلك السعادة. نقتنصها للحظات في يومياتنا الطويلة والمضجرة. ها أنا أتحول إلى فيلسوف آخر يرمي هراءاته شمالاً ويميناً. هلوساتي لم تنتهي في المحل. أخذت الآيس كريم وخرجت مع الخارجين. كنت بدأت بالتفكير أن السعادة يمكن الوصول إليها من خلال العيش في فقاعة، كالكثيرين من حولي. العيش داخل فقاعة ليس بهذا السوء، هذا ما استنتجته.
للصدفة، أثناء تناولي للآيس كريم رأيت في الشارع رجل يقوم بصنع فقاعات صابون كثيرة جداً، ومقابل التقاط صورة معه ومع الفقاعات، يأخذ يورو واحد. الفقاعات التي يقوم بها ملونة وفيها بعض من الحلم، ولكنها لا تستمر لأكثر من خمس ثواني. صورة أخرى تجهض محاولاتي في البحث عن السعادة، ولكن لما التشاؤم؟ مازال الآيس كريم في بدايته، وأنا مستمتع به!
بعيداً عن صانع الفقاعات، شخصان كسولان يقومان بالتسول. أطلقا على نفسهما لقب "المتسولون الكسالى" وأمامهم عدة علب ليضع الناس فيها أموالاً. على كل علبة كتبا كيف سيصرفان المال: علبة للويسكي، أخرى للبيرة، وللحشيش.. وأخرى لصراحتهم. وضعت يورو واحد في علبة "الصراحة" وعشر سنتات في علبة أخرى. هم من المتسولين النادرين الذين يصارحون الناس بكيفية استخدامهم للأموال. لا يريدون شراء دواء أم عشاء بها. سيصرفوها على الملذات. أعطيتهم ثلاثة سجائر ودخنت واحدة معهم. جلست إلى جانبهم وتكلمت مع واحد منهم، أما الثاني فكان مشغولاً بتصليح شيء ما لم أعرف ما هو. أخبرني المتسول الذي يبدو أنه في العقد الخامس أو ربما السادس بأنه من القمر، حيث لا حدود بين المناطق ولا دول، لا يريد أن يكون من هذا الكوكب البائس. الإثنان يمشيان في أنحاء القارة العجوز من أجل التسول الكسول. تحدثنا عن كيف أن الجميع يريد "الصراحة" و"الحقيقة"، وفي الوقت عينه لا يريد أحد أن يتعامل معها!
أنهيت سيجارتي ومضيت في طريقي. كنت قد انتهيت من الآيس كريم، ولكني مازالت سعيداً لحد ما. أكملت طريقي في شوارع لا أعرف عنها شيئاً، ولكنها تبدو كموسيقى الرجل التي عزفها في المترو، مألوفةً وغريبة. سمعت موسيقى قادمة من إحدى الزوايا. كانت جذابةً بشكل غريب. اقتربت من مصدر الصوت، حيث مجموعة تتسكع. أحد أفرادها يلعب الموسيقى. هُم "هيبيز المدينة". جلست قربهم وبدأت استمع للموسيقى. أحدهم ألقى السلام عليّ. (بين Ben) عاد للتو إلى مدينته بعد أن كان مسافراً في أنحاء أوروبا. يعمل في الحقول، يقطف العنب والكيوي. يبدو بأنه سعيداً بالعودة وملاقاة حبيبته وأصدقائه. الأوشام تملأ يديه ورجليه ووجهه إلى جانب الأقراط. ملابسه ممزقة وكأنه خرج للتو من معركة مع كلب شرس. شربنا البيرة ودخنا سيجارة أخرى. إلى جانبنا كانت فتاة أفريقية تلعب بسلاسل حديدية تمررها في كل الاتجاهات. الشاب البلجيكي الذي يلعب الموسيقى مازال مستمراً في ذلك، أما الفتاة الإيطالية فأخبرتني بأنها من إيطاليا وذهبت لابتياع زجاجة بيرة محلية. لم أذكر كم من الوقت أمضيته معهم. نظرت حولي فرأيت المساحات المظلّلة أصبحت أكبر من المساحات المشمسة. عرفت أن المغيب قد لاح في الأفق. ودّعتهم ومضيت في اتجاه مختلف.
وجدت طريقاً لأعلى المدينة. استمريت بالمشي رغم أن جسدي بدأ يداهمه الكسل والتعب، واللامبالاة، ولكني فكرت بأن كل طريق إلى الأعلى ينتهي بشيء جميل، لربما يعوض تعب الصعود. وهذا ما حدث! الطريق تأخذ إلى قلعة قديمة تطل على لشبونة.
أحب القلاع. في كل رحلة أقوم بها مع صديقي كنا نزور القلاع. جزء من تقاليد الرحلات التي نقوم بها. اشتريت بطاقة ودخلت القلعة التي كنت قد شاهدتها عندما التقيت مجموعة "الهيبيز". وما اعتقدته كان صحيحاً.
رؤية المدينة من فوق يعطي بُعداً آخراً للمكان. يمكنني هنا أن أطرح أسئلة أكبر لكل السكان. "هل هؤلاء سعداء؟". لا يهم. المغيب أصبح قريباً جداً. صعدت إلى أعلى نقطة في القلعة، وحيداً شاهدت الشمس تغيب وغادرت بعد أن أرهقني التعب.
في طريق عودتي إلى المدينة، وجدت مجموعة أخرى تتسكع على درج أمام مبنى قديم. تحدثت معهم. دخنا سيجارة وتبادلت الحديث مع أحدهم حول ليشبونة وناسها. أخبرني الموسيقي بأن رداءة الاقتصاد تجعل الناس هنا أكثر وداً وتحبباً. "لا شيء لنخسره، وبالتالي نصبح أقل خوفاً من الآخرين. إننا نعود أكثر اقتراباً من الناس، والتواصل يصبح أفضل". زاوية أخرى للتعامل مع هذا العالم الآيل للانهيار.
تركتهم وذهبت إلى الحانة التي سبق وأن زرتها سابقاً. تشبه الحانات القديمة في بيروت. البرازيلية ناتاليا تذكرتني، رحبت بي وأعطتني زجاجة البيرة التي أحببتها في المرة السابقة. هناك، وجدت كنبة، حيث جلست وكتبت ما كتبت.
لا أذكر الكثير عن بقية الليلة سوى أني شربت المزيد، ودخنت بضعة سجائر في طريق العودة إلى الغرفة التي أتشاركها مع آخرين. أكثر ما أذكره هو أني لا أعرف تمامًا ما إذا كنت نائماً وأحلم، أم أنني كنت مستيقظاً وأهلوس! أعتقد أنني كنت ما بين عالمين. متعب، وغير قادر على فتح عيني، وغير قادر على النوم.
.3.
رغم أني أصبحت أصلعاً منذ أربعة سنوات، استمريت بالذهاب إلى الحلاقين كي أحلق رأسي بالشفرة. مرة في الأسبوع على الأقل. للحلاقين طريقتهم في صنع القصة وسردها. هكذا، دخلت قبل ثلاثة أيام إلى محل الحلاقة في شارع قريب من الغرفة التي نزلت فيها لليلة واحدة. الحلاق، ستيني ربما، حليق الذقن، وكان يقرأ الجريدة. أخبرني بأنه يريد تسعة يورو لحلق رأسي. قلت له بأني سأذهب للحلاق المجاور، وأعود إن كان السعر مشابه. المحل الثاني كان مغلقاً. عدت إليه.
بدأنا بالحديث بالانكليزية، بعدها سألني إن كنت أتحدث الفرنسية. "أستطيع فهمها ولكني أواجه صعوبة بالتحدث بها"، قلت. يمارس الحلاقة منذ بداية الثمانينات. أخبرني عن المدينة وناسها وقصص أخرى عن رحلاته إلى شرق آسيا. لاحقاً، توقف عن حلق رأسي. ذهب إلى رف في المحل، وعاد بثلاثة مجلدات. قال لي بأن لديه ولدين وحفيدين إلى الآن. فتح المجلدات وبدأ يُريني إياها. هي عبارة عن رسائل كتبها زبائنه له. "بهذه الطريقة يمكن لأحفادي أن يعرفوا عني أكثر إذا ما أرادوا أن يبحثوا لاحقاً عن تاريخي"، قال لي.
أحفاده سيعرفون جدهم بعيون غرباءٍ عابرين. فكرت بأنها طريقته المختلفة لتعريف الآخرين على ذاته. تناولت أول مجلد. فتحته. كان ما يزال رأسي محلوق جزء منه. الرسائل المكتوبة تعود لسنوات سابقة وبلغات مختلفة: البرتغالية، الإسبانية، الإنكليزية، الفرنسية، الكورية والصينية وغيرها.
فكرت بأن هذا الرجل يوثق تاريخه بكل اللغات أثناء حلق الرؤوس. فتح المجلد الأخير على رسالة ممضية بأحمر الشفاه. ضحك وقال لي "هذه الرسالة من امرأة قصصت لها شعرها"، وغمزني مع ضحكة. ضحكت. تململت قليلاً في الكرسي لأني لم أرد أن أتأخر عن موعد ملاقاة المجموعة التي سأذهب معها إلى العرس. أكمل حلاقة شعري وذقني. طلب مني أن أكتب له رسالة. "أكتبها بالإنكليزية إذا كان من الصعب كتابتها بالفرنسية"، قال لي. ففعلت. أراد أن تكون الرسالة موجهة إليه: "إلى جوزيف"، وموقعة بتاريخ اليوم "20 تشرين الأول 2017"، إلى جانبها اسمي والبلد الذي أنا منه.
كان صباحاً مختلفاً. أعطيته عشرة يورو. ودعته وفي رأسي فكرة واحدة: "الحياة يمكنها أن تكون أفضل".
في روما
.4. مرة أخرى، أجد نفسي في مكان عال أطل منه على مدينة أخرى بتاريخ مختلف. هنا روما. دفعت سبعة يورو لأصعد إلى هذه النقطة، كما فعلت في لشبونة. يبدو أن المدن لنراها من فوق علينا دفع مال من أجل ذلك. قد تكون هذه المرة الأخيرة التي أشاهد فيها هذه المدينة. هذا ما قلته في نفسي قبل أن أدفع المال وأصعد مع الجموع في المصعد. امتلاء غريب أشعر به كلما وقفت على مكان يطل على مدينة. لا أعرف من أين جاءت هذه الرغبة. الآن، أتذكر أنه لدي صور من فوق لمعظم المدن التي زرتها في حياتي. الرومان كانوا منشغلين ببناء مبان وقلاع في كل مكان وصلوا إليه. لم ينشغلوا بأشياء أخرى. هذا ما اعتقدته أثناء التسكع في شوارع المدينة، والآن لحظة وقوفي في أعلى نقطة فيها. لا أعرف الكثير عن الهندسة والبناء ولكني أنجذب للأبنية القديمة وشكلها الذي يدهشني بقدرة القدماء على بناء مثل تلك الأبنية والتي بقيت طريقة بناء بعضها لغزاً حتى يومنا هذا. أشعر بتحسن. استيقظت عند العاشرة. شربت قهوة ثم مشيت باتجاه وسط المدينة، ثم عدت وشربت القهوة، ثم تسكعت بين الأبنية الأثرية. هذا النهار قررت أن أمضيه في هذه المنطقة المليئة بالأبنية المدهشة. لا أعرف ما الذي سأفعله في الليل. قد أمضيه في إحدى الحانات متسكعاً. أردت أن أدخن سيجارة. خرجت من سطح المبنى وذهبت أتسكع بشكل عشوائي في المدينة. بعد عدة ساعات وجدت نفسي في "المترو" متجهاً خارج المدينة، تحديداً على أطرافها. نهر وحديقة عامة. الناس أقل والزحمة أيضاً. قبل ذلك، كنت قد مررت بالمبنى التاريخي "كولوسوريوم"، التقطت صور له، وسألت أحد العابرين أن يلتقط صورة لي مع المبنى. أثناء تناولي للغذاء، نظرت إلى تلك الصورة، وفجأة أصابني شعور بالوحدة. وحدة لم أشعر بها لفترات طويلة رغم أنني عشت لسنوات وحيداً. هذه الوحدة التي شعرتها تختلف عن ما عشته في السابق، ولكن لا بأس في ذلك. ربما عليّ شرب بعض من البيرة وأحدق أكثر بالنهر البطيء الذي يجري أمامي. لم أتحدث مع أحد طيلة هذا اليوم. استمعت فقط عند استيقاظي إلى المرأة التي كانت تنظف الغرفة. أعتقد أنها زوجة الرجل صاحب المكان. أخبرتني بأن النزيل الذي نام في السرير المجاور لي رحل عند الصباح الباكر دون أن يدفع ما عليه من مال. هززت برأسي. لاحقاً عند شرائي للقهوة، تبادلت أطراف الحديث مع بائع القهوة. أخبرني بأن لبنان يشتهر بالكعك وتأكد مني ما إذا كانت البلاد آمنة لزيارتها. أخبرته بأن الأمور لا بأس بها وبأن الكثير من الإيطاليين يعيشون في بيروت. .5. يوماً ما، لن أعمل كدليل سياحي. لا أستطيع القيام بهذا العمل. هذا ما كنت أفكر به طوال الطريق إلى (الكولوسوريوم). إنه عمل يقوم على إخبار القصة ذاتها مراراً وتكراراً لمجموعة من الناس، ربما ثلاثة منهم يستمع إليها لا أكثر. وما تقوم بإخباره لا يمكنك الإضافة عليه أو تغييره. قد تقوم بتغيير طريقة عرض الأفكار ولكن لا يمكنك القيام بذلك لفترة طويلة. عادة ما أسرد قصصاً حصلت معي للآخرين. أخبرها للأصدقاء، للنساء، للغرباء والعابرين. القصص الطويلة أسردها في فترات متباعدة، كي لا أملّ من سردها، والكثير من القصص توقفت عن سردها بعد أن مللت منها. لذا، يوماً ما، لن أكون دليل سياحي، أو ربما سأقوم بهذا العمل حتى أملّ منه. .6. "البابا خرج عند الصباح، وبوابات الدخول إلى ساحات القديس بطرس لن تفتح قبل الواحدة"، قال لي مرشد سياحي أمام مدخل الفاتيكان. نظرت إلى الساعة كانت تشير إلى الثانية عشر ظهراً. أردت تدخين سيجارة وشرب المزيد من القهوة. وهذا ما قمت به. المترو يصل إلى الفاتيكان من قلب روما. الشمس كانت ساطعة، خلعت السترة ووضعتها في الحقيبة. في طريقي إلى ساحة القديس بطرس، اشتريت سبعة حبات كستناء لأني لم أتناول الفطور. انشغلت بأكلهم طيلة الطريق من محطة المترو إلى الساحة. الكستناء تذكرني بأحباء وأماكن أحبها. تذكرني ببيت جدي في منطقة (برج أبي حيدر) غرب بيروت. جدي لديه قدرة على الحصول على الكستناء في كل الفصول وفي أي وقت أزوره وجدتي أجده يشوي الكستناء ويشرب النبيذ أحياناً. الصباح كان خفيفاً. كنت مرتاحاً خصوصاً وأني غيرت النزل الذي أنام فيه رغم أنني سأغادر المدينة غداً إلى ميونخ. قبل مغادرة النزل، حادثتني فتاة تعمل هناك. ملامحها آسيوية وابتسامتها عريضة. اقتربت مني كثيرًا. أردت أن أصفعها على مؤخرتها، ولكن الوقت مازال باكراً، ولم أرد ارتكاب الآثام قبل الذهاب إلى الفاتيكان. آثام ليلة البارحة تكفي. في ساحة القديس بطرس، المئات من السواح، متسولين، أزواجٌ جدد بملابس الزفاف، بائعين متجولين، موسيقي يعزف (الروك أن رول)، مجموعة من الغربان، وقلة من الرهبان والراهبات. هناك قاعدة واحدة تحكم المكان: إذا طلب منك دفع المال للدخول إليه ومشاهدته، هذا يعني أنه أصبح من التاريخ. وهذا ما حصل للمسيحية ومدينتها الفاتيكان. لا تدفع المال للدخول إلى الساحة الرئيسية، ولكنك ستدفع مقابل الدخول إلى الكنيسة الكبيرة والمتحف. طبعاً، لم أدخل لأسباب مختلفة، أهمها أن ثمن البطاقة مرتفع. مرشد سياحي آخر اقترب مني، وسألني إن كنت أريد خدماته ليخبرني عن المكان والمباني. "لا أريد أن أعرف عن الأشياء. أريد فقط مشاهدة الأشياء"، أجبته. ابتسم ورحل يبحث عن زبون آخر. بعد التسكع في أرجاء الساحة، وجدت زاوية لأجلس وأكتب. جائني بائع متجول من كينيا اسمه "مختار". أخبرني بأنه ذاهب إلى بلاده ليكون مع زوجته بعد أن أنجبت له طفلاً اسمه سامبا. لم أرد أن اشتري شيئاً منه أو من أي أحد آخر. أراد إعطائي تذكار منه. ألبسني سواراً بنياً عليه شعار (أوم). "سأعطيك يورو واحد مقابلها"، قلت له. قال بأن ذلك لا يكفي وبأنه سيذهب إلى أفريقيا وكأنني يجب أن أكترث. هكذا أخذ مني ثلاثة يورو ورحل. يوم جميل في ساحة القديس بطرس. تركت الساحة ومشيت في الشوارع المحيطة بها. تناولت البيتزا في حديقة قريبة. ما تبقى من البيتزا أردت إطعامه لحمامة واحدة كانت تقف بالقرب مني. رميت لها قطعة صغيرة، أكلتها وأطلقت صوتاً غريباً. لاحقاً، فهمت ما هو. كل حمامات وطيور الفاتيكان أصبحت تتحلق حولي، بما فيها الغربان وطائر كبير لا أعرف ما نوعه. لا يهم. بدأت بإطعامهم حتى انتهت القطعة الباقية. دخنت سيجارة ومشيت أبحث عن القهوة. وجدت مقهى في شارع فرعي حيث الناس أقل. شربت القهوة وغادرت باتجاه النافورة الشهيرة لروما حيث يرمي الناس قطع من المال من أجل جلب الحظ أو هذا ما أعرفه. مشيت إلى هناك، وتقريباً كل كائن حي كان هناك يبحث عن الحظ. جلست على مقعد قرب زوجين عمرهما من عمر التماثيل التي وجدتها في كل زاوية من المدينة. الرجل كان يحاول قراءة الأرقام الرومانية. يحاول إبهار زوجته التي لم تكترث سوى لالتقاط صورة مناسبة لها. ربما أرادت أن يتذكرها أحبائها بصورتها قرب النافورة عندما ترحل من هذه الحياة. إلى يساري، فتاتان تحاولان التقاط (سيلفي) الأكثر تعبيراً عن فرحهما. فرحت معهما. تململت في المقعد. المكان مكتظ وكأن أحدهم أخبر الناس بأن هذا اليوم الأخير لمشاهدة النافورة. لم أرمي قطعة من النقود فيها. كنت بعيداً عنها والكسل كان قد بدأ يحل في جسدي، واللامبالاة أيضاً. عدا عن أني أعرف أن حظي عادة ما يكون ممزوجاً بالخراء. فكرت بأني أريد بعض من الآيس كريم. خرجت من هناك واتجهت شمالاً. فجأة، ظهر رجل في بداية أربعينياته يسألني ما إذا كان معي سيجارة إضافية. أعطيته التبغ ليقوم بلف سيجارة. بدأ يحادثني بالفرنسية، وعندما عرف بأنني من لبنان، بدأ يتكلم معي بالعربية. أخبرني بأنه يحب اللبنانيين. هززت رأسي. أخبرني تقريباً سيرة حياته في أقل من أربعة دقائق. لا أبالغ. قص عليّ قصة ذهاب لبنانيين أغنياء للعيش في تونس في زمن بورقيبة. وكيف كان يلعب مع أبنائهم ويستعير الدراجة الهوائية ليركبها. بعدها أخبرني عن اللبنانية كريستينا التي قام بأخذها في جولة لثلاثة أيام في روما. "أوقفت عملي لأجلها"، ثم أكد لي "لا تخطىء الظن. كانت مثل أخت لي". "أوكي" قلت له. ثم أشار لي بأنها "صليبية". لا أعرف ماذا سأفعل بكل هذه المعلومات بعدما شربت نصف زجاجة صغيرة من (الأبسنت)، المشروب المفضل لفان غوغ. بقيت أدخن سيجارتي وأهز رأسي كلما شعرت بأنه ينتظر إجابة ما أو ردة فعل مني. نسيت اسمه في اللحظة التي أخبرني فيها، لأني كنت منشغلاً بإشعال سيجارتي. أكمل قصصه "السوريون لا يختلطون بالعباد"، بعد أن أخبرني بأن لديه طفلين، وبأنه وصل إلى روما عندما كان في السابعة عشر من عمره، ويعمل الآن في بيع قطع السيارات. وقبل أن يذهب كلٌ في طريقه، أعطاني نصيحة: "الكل سيحاول سرقتك. العربي، الأفريقي، اليوغسلافي والإيطالي. انتبه على أغراضك". وذهبت لابتياع الآيس كريم. .7. يوم آخر. ودعت عامل النزل البلغاري فيكتور. هو في منتصف خمسينياته ودود جداً ومباشر. كم أحب هؤلاء. للمفارقة فيكتور من المدينة التي لا أعرف ما إن أحببتها أم لا. هو من مدينة فيدين الكئيبة التي زرتها مع صديقي عام 2014. تلك المدينة تقع على ضفة نهر الدانوب الرمادي. لا تزال تعيش في أجواء الاتحاد السوفييتي وكأنها علقت هناك في التاريخ ولم تستطع أن تجد طريقها إلى الواقع، إلى الحياة. فيكتور يعيش في إيطاليا منذ سبعة عشر عاماً، وكل عام يذهب لتمضية شهر في مدينته. يبدو بأنه سعيداً في حياته، أو لأكون أكثر دقة سعيداً بما يقوم به. كل يوم يلتقي أناس جدد وبعد أيام يودعهم، وربما لن يلتقيهم أبداً في حياته ليستقبل مسافرين جدد. حياته عبارة عن مطار صغير. "هل أستطيع القيام بهذا العمل؟"، اسأل نفسي، وأول ما يخطر ببالي هو أن السنوات الستة الأخيرة عشتها كمطار. أغلب الذين أعرفهم غادروا إلى بلاد أخرى. بعضهم أصبحوا مهاجرين وآخرين تزوجوا، والقليل منهم مات أو وضع حداً لحياته. شربت القهوة، والمزيد منها قبل أن اتجه إلى الباص الذي سيقلني إلى ميونخ. بعد نحو سبعة ساعات وصلنا إلى فيرونا، حيث نستقل الباص الثاني. دائماً ما أفضل الباص أو القطار للتنقل بين المدن والمناطق. هكذا يمكنني أن أشاهد الطرقات والجبال والأنهار والبحيرات الموزعة بين الجبال. في الطريق تعرفت على شاب مهاجر إيراني مع والدته كانا يمضيان بعض من الوقت في إيطاليا. فرهد لا يحب الإيرانيين. أكثر تحديداً هو لا يحب الفرس بسبب معاملتهم الفوقية للآذريين. عاش لاثنا عشر عاماً في روسيا ومنذ سبعة أعوام انتقل للعمل والعيش في مدينة قرب فرنكفورت. يقوم بأبحاث حول مرض السرطان. أعادني فرهد إلى الشرق الأوسط وتعقيداته. المرة الأولى التي أخوض فيها نقاشاً سياسياً خارج العمل منذ فترة طويلة. تحدثنا عن أذربيجان وأرمينيا وإيران.. والنساء. "الألمان لديهم الكثير من طريقة تعامل الفرس مع الآخرين"، قالها بانزعاج خفيف. "ربما هذه لعنتك" قلت له. وصل الباص الذي يقل الركاب إلى فرنكفورت. ودعت فرهد وذهب الجميع. بقيت أنا والإيطالية ماريا التي كانت تقرأ كتاباً يبدو بأنه مشوقاً. لم أكن في مزاج للقراءة بعد أن قرأت بعض من رواية بوكوفسكي أثناء الرحلة. مازال هناك ساعتين ليصل الباص وكان لدي رغبة عميقة بالكتابة والتدخين. قرب المكان الذي ننتظر فيه الباص، كنيسة صغيرة ومحطة قطارات كبيرة. فكرت بأن وسائل النقل هنا لا بأس بها. واحدة تأخذك إلى الجحيم، والأخرى إلى مدن أخرى. ما أحببته في هذه البلاد هو أنه يمكنك في أية لحظة الحصول على قطعة من البيتزا. وهذا ما قمت به. تناولت قطعة من البيتزا وشربت الشاي، إذ أني لم أشرب الشاي منذ أن بدأت الرحلة. جلست على الأرض، تحت الشجيرات، أكلت وكتبت. الطرقات خالية إلا من بعض السيارات التي تمر كل بضعة دقائق. اليوم، لاحظت أني أغلب الأيام الأخيرة لم أقم إلا بمحادثات جانبية مع غرباء وعابرين. الكل له قصته ومكان يذهب إليه. أحياناً أفكر، كيف يراني كل هؤلاء؟ ولكن هذا لا يهم. ما أعرفه هو أن الحياة ليست سيئة ويمكن احتمالها رغم أن ثقلها يبدو أحياناً أكثر ظلمة من أي شيء آخر. كل شيء يبدو بعيداً الآن، أو ربما كل شيء بقي مكانه وأصبحت أنا أكثر بعداً عن كل شيء، أكثر من أي وقت مضى. أحياناً، نحتاج هذا البعد، هذه المسافة، هذا البرود، لنستطيع أن نفهم أكثر ما يجري معنا وحولنا. في ميونخ .8. المشي العشوائي في ميونخ، قادني إلى مقبرة ممتدة. الموتى دائماً ما يحصلون على أماكن جميلة لنومهم الأبدي، أحياناً تكون أجمل من الأماكن التي أمضوا بها حياتهم. الطمأنينة تتوزع المكان. مدافن لأشخاص لا أعرف عنهم شيئاً، ولن أعرف. كل ما أعرفه هو أنهم ينعمون بصمت نسعى نحن الأحياء إليه. في أرجاء المقبرة المظللة بأشجار طويلة، رجال كبار في السن يجلسون لوحدهم. ربما يتأكدون بأن المكان الذي يتجهون إليه سيكون بحالة جيدة عندما يرحلون. قد يكونوا بغاية السعادة وهُم أقرب بيوم واحد من نومهم الأبدي. أمهات يجررن عربات فيها أطفالهن الصغار. "فكرة جيدة تلك؟" لا أدري، ولكني أفهم لماذا يأتي الناس إلى المقبرة لقضاء بعض من الوقت فيها. رجل كبير في السن كان يجلس على مقعد خشبي رآني أنظر بسعادة إلى المكان، نظر إلي وابتسم، ثم هز رأسه، وكأنه يوافق معي بصمت على كل ما جال في خاطري. ابتسمت وهززت رأسي له.

لتحميل القصة القصيرة الرجاء زيارة هذا الرابط
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 4 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...