الثامنة صباحاً، تجتاز سيرين الطريق متحاشية السيارات المسرعة على شمالها لتمرّ تحت جسر خزندار في منطقة باردو تقف في الجهة المقابلة، منتظرة سيارات التاكسي الجماعي الآتية من ولاية أريانة، شمال غرب تونس، والتي ستعود إليها.
تقف الشابة ذات الست والعشرين سنة، والتي تعمل في متجر لبيع الملابس، مع سبعة آخرين يبغون الوصول إلى أريانة.
يقفون على مفترق ما بين الطريق والجسر يترقبون بأعناق ممدودة قدوم الفرج المنشود، سيارات التاكسي الجماعي.
يتجمع هؤلاء في الاتجاه المعاكس لوجهتهم على وجوههم سمات الضجر والتعب والازدراء، وهم في الحقيقة في حركة استباقية يلجأون إليها ليظفروا بمقعد في التاكسي، ذلك أن المهمة تصير شبه مستحيلة إذا ما انتظروها في مكانها الطبيعي.
إلا أن الأمر الغريب تحول روتيناً يومياً ضرورياً والحال أن الذهاب والإياب بين هاتين النقطتين لا يحملان خيارات عدة فأفضلها، أي استعمال التاكسي الفردي، سيستوجب لدى كثيرين منهم دفع أجرة يوم عمل تقريباً وما يعادل 13 مرة تعريفة التنقل فيه.
الخيار هو التاكسي الجماعي؛ سيارة ذات تسعة مقاعد، تعمل بنظام مغاير لنظام التاكسي الفردي، لكنها تبقى تابعة لشركات خاصة وأشخاص مستقلين أيضاً يبلغ عدد المرخصة منها في محافظات تونس الكبرى وفق المسؤول في الغرفة النقابية لسائقي التاكسي الجماعي مصطفى خليفة، نحو 1200 رخصة. لقد أصبحت اليوم ظاهرة في طرقات العاصمة تونس وإحدى وسائل النقل الأكثر انتشاراً ضمن منظومة نقل تعاني من الهشاشة والقصور، تماماً كما الشارع التونسي. هي زهيدة الأجرة، يستخدمها ركاب من جميع الأعمار والمستويات، غالبيتهم من الطلبة والعمال. لكنها باتت موسومة بتهور سائقيها وسرعتهم المفرطة، علاوة على رداءة سيارات مستعملة كثيرة ونزوع سائقين كثرٍ إلى تجاوز عدد الركاب المسموح به، ما يضاعف حجم الخطر وقيمة الخسائر.
بالأرقام...
تجاوزات ممنوعة وتوقفات عشوائية خاطفة لسيارات التاكسي الجماعي تسببت في مشاركة 941 حادث مرور وقتل 115 شخصاً وجرح 1867 آخرين خلال عام 2016. وهي أرقام أكدها المكلف الإعلام في المرصد الوطني للسلامة المرورية أسامة مبروك في حوار مع رصيف22. نظام تنقل هذه العربات تحدّده رخصتها من وزارة النقل بالشراكة مع المحافظة المعنية، الأمر الذي يمكّن الركاب من استعمالها من نقطة معلومة إلى نقطة أخرى محددة كذلك حسب المحطات المختلفة التي تكون على خط السير. تقل عربة التاكسي حسب القانون ثمانية ركاب، يدفع كل واحد مقابل مقعده فقط وفق تعريفة محددة مسبقاً حسب المقرر المشترك بين وزيري النقل والتجارة، بالنظر إلى المسافة الكيلومترية المجتازة بين محطتي الانطلاق والوصول من دون احتساب التوقيت. فهي تعريفة ثابتة لا تتأثر بالازدحام المروري أو تغيير الطريق من قبل السائق، ما يجعلها وسيلة النقل الخاصة الأكثر شعبية. هذا ما تؤكده الإدارة العامة للنقل البري في اتصال هاتفي مع رصيف22. لكن الواقع يقدم لنا تفاصيل أخرى حول التاكسي الجماعي في محافظات تونس الكبرى. فالسائقون، بحسب السكان، يستغلون الحاجة الضرورية للتنقل وتوفير الوقت والمال والجهد من قبل الركاب لانتهاك قواعد الطريق وتحصيل ربح أكبر.التاكسي الجماعي: انتحار مؤجل؟
على صخب أغنية من "المزود" وصفير محرك السيارة الشبيه بصفارة سفن الشحن، انطلقت سيرين في رحلة داخل السيارة الصفراء التي كانت من نوع "هيونداي"، والتي تشير لوحتها إلى أن عمرها لا يتجاوز ثماني أو تسع سنوات. تقادمت العربة بفعل الاستخدام المكثف: استبدل قفل الباب الجانبي المكسور بسلك، وانتشرت بقع الصدأ في أرضيتها العارية. وعلى الرغم من حالة السيارة الهشة إلا أن السائق الشاب كان ينساب بها بين السيارات الأخرى في حركة لولبية يتحرك معها يميناً ويساراً 23 شخصاً حُشروا داخل فضاء يفترض ألّا يتسع لأكثر من تسعة. "في التاكسي الجماعي آخر ما يحترم هو القانون"، تقول سيرين، حيث تتراص الأجساد في المركبة صباحاً. التزاحم والتكدّس في السيارة يكونان الحل في خطوط سير كثيرة لا تتوافر فيها وسائل النقل العمومية بالحجم الكافي، إما لقلتها أو لعدم انتظام أوقاتها نتيجة مشكلات كثيرة على غرار الازدحام وتواضع البنية التحتية من قلة في المحولات وضيق الطرقات وغيرها. فالإصرار على الركوب بطريقة غير قانونية أي زائدة عن العدد المسموح به للتاكسي الجماعي، ينطلق من حاجة المواطنين إلى الوصول سريعاً واختصار المدة في وسائل النقل العمومية أو ارتفاع تسعيرة نقل التاكسي الفردي. وقد حاول كاتب المقال التواصل مع المدير العام للنقل البري، لكنه لم يتلقَّ رداً. تخضع معايير منح الرخص للأمر الحكومي الرقم 2554 لعام 1998، إلّا أن الإدارة العامة للنقل البري أصدرت أخيراً منشوراً أرسل إلى المحافظين (رؤساء المحافظات) باعتبارهم المسؤولين المباشرين عن هذه العملية، بغرض التركيز في عملية منح الرخص على معيار الأقدمية في المهنة، أي تفضيل ذوي التجربة الطويلة في مهنة السّياقة على غيرهم. ويشترط القانون ألّا يتجاوز عمر العربة سبع سنوات.سائق غير عادي لوسيلة غير عادية
سائق التاكسي الجماعي بصورة عامة لا يتجاوز الخمسين تقريباً، والسائقون بغالبيتهم لا يلتزمون بالقانون الذي يفرض عليهم لباساً معيناً، فيرتدون ما يشاؤون من الملابس (الرياضية أو الجينز...). تقول سلمى الزعيري، وهي صحافية مقيمة في تونس، أن عدداً كبيراً من السائقين لا يتردد في التدخين أثناء القيادة والتكلم عبر الهاتف. وتضيف أنه قد يحدث أن يتسابق سائق مع زملائه على الطريق السريع في "حركات شبيهة بلقطات أفلام الأكشن". تتابع الزعيري أنها قد توقفت تماماً عن ركوب التاكسي الجماعي بعد جولات من الرعب عاشتها نتيجة تهور السائقين وإصرارهم على ذلك رغم طلباتها المتكررة بتخفيف السرعة. يقوم سائقو هذه المركيات بإعادة تصميمها من الداخل لكي تتسع لأكثر من ضعف العدد المخصّص لها تُلغى المقاعد الجلد الواسعة في الخلف وتستبدل بمقاعد خشب وحتى بلاستيك في الجهات الأربع للسيارة، ما يحقق زيادة بـ10 مقاعد على الأقل بدلاً من 3، إضافة إلى رقعة فارغة في الوسط تتسع لشخصين وقوفاً. علاوة على السماح، في الصباح الباكر، حين يكون عدد رجال شرطة المرور قليلاً، لثلاثة أشخاص، بأن يقفوا مستندين إلى الباب الجانبي للسيارة فيما يجلس 5 على المقعد الأوسط المخصص لـ3 أشخاص. أما الأبواب فغالباً ما تغلق بأسلاك معدنية فيما يظهر الصدأ في معظم أجزاء السيارة.هل يفوت رجال الشرطة ما لا يفوت مستعملو الطريق كافة؟
يحاول السائق في العادة تفادي محاضر المخالفات من رجال الأمن الذين يتفاوت حضورهم من خط سير إلى آخر. يعمد السائقون بالتالي إلى الطلب من الركاب الإضافيين ضرورة الانبطاح والابتعاد من النوافذ حتى لا يراهم رجال الأمن. كذلك، فإنهم يعرفون متى يجب أن أن يقلّوا ركاباً إضافيين، ومتى يجب أن يتجنبوا ذلك فهم يدركون جيداً الأماكن التي قد يكون فيها رجال الشرطة، ذلك أنهم يحفظون الطرقات كما يحفظون ملامح أبنائهم.. ربما يمكن إخفاء هذا بالطرائق التي ذكرنا، ولكن ما لا يمكن إخفاؤه هو حال التاكسيات الكثيرة التي يعرفها عابرو الطرقات، تلك التي تنفث دخاناً وتصدر أزيزاً عالياً أثناء السير، ما يعني عدم خضوعها لشهادات الفحص الفني، والتي يعاقب عليها القانون التونسي بغرامات مالية تحددها مجلات الطرقات. تواصل رصيف22 مع المسؤول في الغرفة النقابية لسائقي التاكسي الجماعي، مصطفى خليفة، وقد نفى وجود سائقين يقلون أكثر من ثمانية ركاب، مشيراً إلى أن خطّ الزهروني، وهو حي شعبي في الضاحية الغربية للعاصمة عاين فيه رصيف22 غالبية التجاوزات، مستغَلٌّ من شركة خاصة ملتزمة بقوانين المهنة وتخضع سياراتها للمراقبة الفنية بصفة دورية. ثم عاد وأشار إلى وجود دخلاء على القطاع لا يحملون رخصاً، محمّلاً إياهم جميع التجاوزات الممكنة. لم يعد يخفى على أحد وجود سيارات ذات تسعة مقاعد ولونها ليس أصفر مع خط أزرق، اللون الرسمي لسيارات التاكسي الجماعي، تتردد على المحطات لتحمل الركاب بطريقة غير قانونية في الوقت الذي تصر الحكومة على تشديد إجراءات منح الرخص فيه.لا يهمني حالها...
بعد يوم عمل مرهق لا يهم سيرين ما إذا كانت السيارة مزدحمة أم لا، نظيفة أو متسخة، آمنة أم خطرة. ليس ذلك لعدم اكتراث أو لوضع لا يقلقها، بل لأنها في تلك اللحظة التي يسيطر فيها التعب عليها والبرد والظلام، تصبح أولويتها العودة إلى بيتها بأي طريقة. كل طرف في معادلة النقل يسعى إلى تبرئة ذمته ويلقي بالكرة في مرمى خصمه فتجرّم الحلقة الأضعف المتمثلة في السائقين. لكن السائق نفسه جزء من منظومة جامعة لأشكال التجاوزات اليومية المسلطة على الإنسان حتى في أبسط نشاطاته اليومية وهو التنقل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...