شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
جميلة جداً ومليئة بالبساتين ومقصد لليونانين... هكذا كانت صنعاء في القرن التاسع عشر

جميلة جداً ومليئة بالبساتين ومقصد لليونانين... هكذا كانت صنعاء في القرن التاسع عشر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 5 فبراير 201806:31 م

"المدينة جميلة جداً، والبيوت رائعة وكبيرة ومبنية بأكملها من الحجارة المقطّعة والآجر الأحمر البُني، أما الطرقات فواسعة ونظيفة، والناس أنيقون وجليلون". هكذا وصف الإيطالي رينزو مانزوني مدينة صنعاء اليمينة، التي تعاني اليوم من إحدى أكبر الكوارث الإنسانية في العالم، فقد زارها في العامين 1877 و1878، مدوّناً مشاهداته ويومياته في كتابه "اليمن... رحلة إلى صنعاء"، الصادر عن "الصندوق االجتماعي للتنمية- اليمن"، بالتعاون مع معهد "فينيتو " الإيطالي، والذي ترجمه إلى العربية ماسيمو خير الله، وراجعه الأستاذ محمد لطف غالب.

  كان أكثر ما جذب انتباه مانزوني سماحة الصنعانيين وعدم تعصبهم حتى مع الحكام الأتراك، فلم يسجّل أبداً أي صدام ولا أية مشاجرة بينهم. كان لليونانيين نصيب من العيش في المدينة. كانت لديهم دكاكينهم المليئة بمنتجات مثل عيدان الثقاب وورق لفّ السجائر وعلب السردين، وجميع أنواع الكحول والبيرة مروراً بالكؤوس والمصابيح النفطية والمرايا والملابس.


كل هذه البضائع اسُتوردت من قبل يونانيين عملوا سابقاً في حفر قناة السويس بمصر، وبعد انتهاء عملهم فيها انتشروا في منطقة سواكن في السودان ومصوع في أثيوبيا والحديدة في اليمن، ليصلوا إلى صنعاء مع كميات كبيرة من البضائع، خاصة تلك الضرورية للأتراك.

الموسيقى والغناء

لفت انتباه الإيطالي اهتمام الصنعانيين بالموسيقى. انتمى بعضهم إلى فرق لا تقدم إلا الترانيم الدينية في البيوت، أما الموسيقيون العاميون مثل المغنين والراقصين، فكانوا يؤلفون "فئة خاصة مُحتقرة بسبب عاداتهم وأغانيهم ورقصهم الخلاعي، فيخجل ساكن المدينة من الانتماء إليهم". لذلك كان الموسيقيون العاملون في المدن من الرحّل، "ينتقلون من بلد لآخر مع نسائهم، يسترزقون قوتهم بهذه الحرفة، ولا يمكن أبداً أن تجرؤ امرأة من المدينة على الرقص والغناء علناً".

العمال المنزليون

دخل مانزوني كثيراً من بيوت المدينة ولاحظ امتلاءها بعدد هائل من العمال المنزليين الذين يُعامَلون معاملة حسنة جداً. ذكر أنهم كانوا يؤدّون واجبات قليلة، حتى أنه "باستطاعة أسوأ خادم في أوروبا، ومن دون أي مجهود، أداء العمل اليومي عن أربعة أو خمسة خدم عرب" على حد وصفه.

بيد أن الرجال لم يستطيعوا توظيف العاملات، ولا النساء توظيف العمال من الرجال، ولم يكن هناك وجود للخصيان في اليمن، كما أن اليهود لم يستطيعوا توظيف عمال منزليين من المسلمين، أما المسيحيون فيبدو أنه كان مسموحاً لهم بذلك، حسبما روى مانزوني.

قبل 140 سنة، لم تكن زجاجات الكحول مخبأة في المنازل، كما شاهدنا في الصور المتداولة من منزل علي عبد صالح... صنعاء كانت جميلة جداً ومليئة بالبساتين
"جميلة جداً، والبيوت رائعة وكبيرة... أما الطرقات فواسعة ونظيفة، والناس أنيقون وجليلون"... هكذا كانت صنعاء، التي تعاني اليوم إحدى أكبر الكوارث الإنسانية، عام 1877

نساء صنعاء

أثناء رحلته من عدن إلى صنعاء، مرّ الإيطالي على قبائل كثيرة جعلته يعقد مقارنات بين نساء هذه القبائل وساكنات صنعاء اللواتي وصفهن بالأكثر جمالاً، ووصف بشرتهن بالأكثر بياضاً.

أما شعرهن فطويل جداً، وذا لون أسود في أغلب الأحيان ويوضع باستمرار خلف الرأس ما عدا ذلك المنسدل على الجبين والذي يتم تقصيره قليلاً ويُترك لينساب إلى الأمام، بينما يُترك الشعر الخلفي حراً أو يُمشّط على هيئة ضفائر مفردة العدد دائماً، لأنهن يعتقدن بأن ذلك يجلب الحظ السعيد. وكانت زوجات كبار القوم والأغنياء يمتزن بثراء وتنوع أثوابهن، لكن هذا فقط في منازلهن أو في "الحريم" الذي يزرنه. فالقميص مصنوع من التيل الناعم جداً، ولونه أبيض أو زهري أو أزرق أو أصفر فاتح، ومطرز بالحرير والذهب، ومكسو من الأمام بزخارف لامعة. غير أن الأمر يختلف كلياً في الشارع، إذ "ترتدي النساء فوق أثوابهن على اختلاف وضعهن الاجتماعي ملاءة كبيرة من القطن أو من التيل العادي ذات لون داكن تغطي كل أجسادهن من الرأس حتى القدمين، ويُغطى الوجه كاملاً بواسطة منديل من القماش الخفيف دون أن يكون له على مستوى العينين والأنف أي ثقب". هذه الملاءة تغطي الأثواب الغنية لنساء الرجال الكبار، كما تغطي أيضاً أثواب الفقيرات ذوات الحالة الاجتماعية الدنيا. لذا في الطرقات، كان يصعب التكهن حول ما إذا كانت هذه الملاءات البائسة الداكنة اللون تخفي تحتها امرأة ثرية أو فقيرة، شابة جميلة أم عجوز. بيد أن مانزوني يلفت إلى أن النساء كنّ يتركن بعضاً من بشرة القدم مكشوفة، وهذا يكفي لتخمين إن كانت المرأة فتاة أم عجوزاً.

"الحريم"

لم يفت مانزوني الذي دخل بيوت كثيرة في صنعاء وجود شقة مخصصة للنساء تسمى "الحريم"، مفصولة عن تلك التي يسكنها عادة الرجال ويستقبلون فيها الزائرين. وبحسب الرحالة، يُعتقد في أوروبا أن "الحريم" مكان تسلية مخصص للفجور وإشباع الشهوات، وهذا الاعتقاد خاطئ على الإطلاق. هناك تسكن والدة وزوجة وشقيقات ربّ المنزل، والحشمة الصارمة والانضباط الشديد يسيطران على المكان الذي يشبه مكان إقامة الراهبات في أوروبا. وفي حريم الأثرياء العديد من العاملات اللواتي ليس بإمكان السيد أن يراهن، فالعاملات المنزليات لم يكنّ مخصصات لإرضاء شهوة السيد، وإنما تقوم كل واحدة منهن بخدمات خاصة لزوجاته. فهناك واحدة تهتم بخزانة الثياب، وأخرى بتقديم الطعام، وواحدة بالقهوة، وعدة منهن بالمطبخ وكثيرات بالغسيل والخياطة.

التعليم وأوقات الفراغ

رغم تجواله الكثير في شوارع وبيوت صنعاء إلا أن مانزوني لم يقابل سيدة متعلمة، فنساء صنعاء لم يكنّ يجدن القراءة ولا الكتابة، ولم يتقن سوى الطبخ والحياكة والتطريز ولم يهتممن إلا بالمنزل، وخصوصاً بتحضير طعام العائلة. لذلك، كنّ يمضين أوقاتهن بتلوين اليدين والرجلين بالحناء والحاجبين والرموش بالكحل، وما تبقى من الوقت يستغرقنه في تزيين وتجميل أنفسهن رغبة منهنّ في إثارة إعجاب أزواجهن.

أيام للحظ السعيد والتعيس

كان العامة البسطاء من أهل صنعاء الذين لا يعرفون القراءة يؤمنون بالسحر وتحضير الأرواح. وذكر الرحالة الإيطالي أن المنتمين إلى الطبقات الدنيا كانوا يقبلون على العرافين والعرافات للتكهن بالحظ السعيد أو التعيس، أما المنتمون إلى الطبقات الميسورة والثرية فكانوا يؤمنون فقط بـ"علم النجوم". وكان لأهل المدينة اليمنية أيام حظ وأيام يسودها سوء الطالع. أيام الحظ هي الاثنين المكرس للزواج، والخميس هو اليوم المبارك، والجمعة الأكثر حظاً إذ يذكّر بهجرة الرسول محمد من مكة إلى المدينة التي حدثت في مثل هذا اليوم. والأحد والأربعاء كانت أياماً غير مصنّفة، أما الثلاثاء فهو يوم مشؤوم، ويسمى بيوم الدم، إذ أن أغلبية الشهداء المسلمين توفّوا في مثل هذا النهار. واعتبر اليمنيون السبت أسوأ الأيام على الإطلاق لأنه يمثل يوم الاحتفال عند اليهود، ما يعبر عن النظرة التي حملوها إلى هذه الطائفة. وخلال العام، هناك أيام أيضاً خاصة للحظ السعيد أو التعيس. أسوأها على الإطلاق كان آخر أربعاء من شهر صفر، إذ يخشى الناس الخروج من منازلهم خشية تعرضهم للحوادث، لأنهم يعتقدون أن هذا اليوم هو يوم الاحتفال عند "العفاريت".

أولياء ودراويش

في صنعاء ظهر للرحالة الإيطالي تأثر اليمنيين بأوليائهم الأموات والأحياء، وهؤلاء يحصلون على تقديس منحتهم إياه معتقدات الجمهور، وغالباً ما كان، بحسب مانزوني، يتم العبث بهذه المعتقدات واستغلالها بشكل فاضح. ومما أثار دهشة الرحالة نظرة الناس إلى من أشار إليهم بـ"الحمقى والمعتوهين" غير المؤذين كرجال فضّلهم الله على غيرهم. فهؤلاء كان بإمكانهم انتهاك جميع التشريعات الدينية والأعراف الاجتماعية كأن يمشوا عراة في الشوارع دون أن يعترض أحد لأن الجميع يعتبر أن أرواحهم غارقة في تأمل الله. أما الدراويش فهم "إما أكثر تقوى وعبادة لدينهم من غيرهم، أو يتظاهرون بها، وأغلبهم من الترك والفرس الذين يثبتون قدسيتهم بالتظاهر بأنهم يأكلون الحجارة أو الزجاج أو المعادن، ويدّعون أنهم يخرقون أجسادهم دون الإحساس بالألم أو التسبب بأي جرح، ويربّون العقارب والأفاعي، ويضعون على أذرعهم جمراً مشتعلاً دون أن يحترقوا". "هم باختصار دجالون يعتاشون على الصدقات، التي إما يطلبونها أو تُعطى لهم دون الحاجة إلى طلبها، ورغم ذلك يهابهم عرب اليمن كثيراً إذ يعتبرونهم جالبين لشؤم رهيب"، ذكر مانزوني.  

بستان الطاووس

كثيرة هي البساتين وحقول الخضروات التي كانت تنتشر في أرجاء صنعاء، إلا أن أفضلها في رأي مانزوني بستان الطاووس المتميز باتساعه، والغني بالورود وأشجار الفاكهة والخضار على أنواعها، فقد كان مزروعاً بعناية. ومثّل البستان مكان النقاء للسادة الأتراك الذين قصدوا المكان حاملين معهم زجاجات "العرَق" (مشروب كحولي) وأكوابه، فيجلسون تحت ظلال الأشجار يحتسون ذلك الشراب، ويأكلون الفاكهة فتكون بمثابة وجبة مقبلات قبل الغداء، أو بمثابة فاتح للشهية على الطريقة التركية.

معتقدات مغلوطة وأفكار مسبقة

لم يكن كل ما جاء في كتاب مانزوني عن الصنعانيين إيجابياً، فقد ذكر أموراً رآها غريبة وغير منطقية، وبعض آرائه تنبع من آراء مسبقة حول الشعوب الأخرى اعتنقها هو وكثيرون من الرحّالة الغربيين الذين كتبوا عن مناطق زاروها وأظهروا في كتاباتهم نوعاً من ازدراء الثقافات الأخرى.

فمثلاً، يصف العامة من الناس بالانقياد الذليل لمَن يتفوّق عليهم، ويقول إنه كلما مرّ شخص مميز، كان الرجال يتوقفون عن التدخين والعمل ليقفوا باحترام منتظرين تحيته. وقال إنه من المعتاد أن يصف الشخص نفسه أمام الأعيان كتابة أو قولاً بـ"الخدام الوضيع جداً".

ويظهر حكمه على من يلتقيهم، إذ يقول: "حصل العديد من المرّات أن رأيتُ في اليمن قبائل كاملةً من الرجال والنساء قبيحي المظهر جداً، تقابلهم قبائل أخرى من رجالٍ وسيمين ونساءٍ فاتنات.

وفي إحدى زياراته، طلب منه معالجة المرضى، لأن سكان المنطقة اعتبروه طبيباً، فكان تفسيره تعميماً على كامل البلاد الإسلامية، إذ اعتبر أنه في جميع البلاد الإسلاميَة، يُفترض على الأوروبي أن يكون مُلِماً بكلِ شيء بمجرد أنَه يحسن القراءة والكتابة. ولذا فإن العربي برأيه جاهل، "فهو يَعتقدُ أن كل معارف البشرية يكمن أن يحتويها كتاب واحد، ومتى ما استطاع رجل قراءة تلك الصفحات فلا بدَّ أن يعرف كلِ شيء".

وكما يخبرنا الكتاب عن صنعاء كما اختبرها الكاتب، كذلك يعطينا فكرة عن المعتقدات التي كانت سائدة في الثقافة الإيطالية حول العالم الإسلامي، والتي تبين له أنها غير صحيحة، وفي البعض الأحيان مناقضة تماماً للحقيقة. يقول مثلاً إن شهر "رمضان" (أو "رمزان" حسب اللفظ التركي) ليس كما في الاعتقاد الشعبي لدى الإيطاليين، شهرَ الملذات بالنسبة للمسلمين، إنما هو وقت من الصوم القاسي الذي يصبح واجباً على كلِّ مسلمٍ يبلغ الرابعة عشرة من العمر.

برأي أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور عبد الوهاب شاكر، يجب التعامل بحذر مع كتب الرحالة لأنها شاهدة على توظيف أيديولوجياتهم الفكرية في رؤيتهم لتاريخ العرب والمسلمين، ولذلك تمتلئ مؤلفاتهم بالمغالطات التاريخية.

وساهم جهل الرحالة الأوروبيين بالدين الإسلامي وبالتراث الفكري داخل المجتمعات العربية، إضافة إلى ضعفهم في اللغة العربية وسوء الترجمة لهم من مرافقيهم، في انتزاعهم لبعض العادات والتقاليد من جذورها التاريخية، فنظروا إليها من منطلق ثقافتهم الغربية ومن ثم رأوها كعلامات تخلف عن الحداثة العصرية في ذلك الوقت، قال شاكر لرصيف22.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image