"إن القوى الفاعلة في التاريخ لا تنقاد إلى وجهة ولا وفق آلية ميكانيكية ولكنها تخضع لصدفة الصراع نفسه. نعتقد أن حاضرنا يرتكز إلى ثوابت وقرارات عميقة... فنسأل المؤرخين أن يقنعونا بذلك. ويبقى المعنى الحقيقي للتاريخ يعترف بأننا نحيا دون مرجعيات ولا روابط ننتسب إليها في فيض من الأحداث الشاردة". بعد هذه القفلة الموحية بما ستتضمنه مشاهد الفيلم وبقوة رموز الحكاية، يفتح البطل سلسلة سرواله ويتبول فجأة على العالم مطلاً من شهقة ربوة سحيقة أمام شجرة جرداء لها غصون شديدة التفرع وشريرة المنظر... ثم يقفل سرواله بهدوء حتى تسودّ الشاشة ويظهر عنوان قد يبدو غريباً في البدء لكنه عتيق عتاقة أفلاطون نفسه: "أيدوس" (Eidos).
"لعلها محاولة للبحث في القوة الواحدة التي تجمع كل هذه الكثرة التي تحيط بنا. وربما هو توق لكسر هذه النزعة نحو اختزال الواقع في تلك القوة الواحدة (لعلها الإله) واندفاع شديد للإنسانية نحو تفتيت هذه المركّبات التي تملأ الفضاء ونثرها مرة أخرى أمام أعيننا علّنا نكتشف طريقاً ما للخلاص". هكذا صرح بطل الفلم هشام بوزيد لرصيفـ22، عندما سئل عن مغزى الشريط القصير "أيدوس" للمخرج رامي الجربوعي والذي تم عرضه في أيام قرطاج السينمائية ليحضى بانتباه النقاد، وإشادتهم بعمق الفكرة وطريقة طرحها في شريط قصير مدته 14 دقيقة. قال هشام إن فكرة الفلم كانت في البداية نقاشاً عميقاً بينه وبين المخرج رامي الجربوعي في إحدى حانات منطقة لافايات في العاصمة تونس وهي حلقة إيطالية عتيقة كانت فضاء مخصصاً للجالية الإيطالية في تونس، تحولت إلى ناد خاص. في ذلك المكان كوّن رامي فكرة تصوير شريط قصير "يحترم عمق المتفرج في السينما ويقدم رواية أخرى عن العالم قوامها التساؤل من جديد عن كل هذا الوجود".
عن العشوائية التي نواجهها في الحياة، خارج نظريات التاريخ وتحليل أحداثه
الشريط القصير "أيدوس" للمخرج التونسي رامي الجربوعي، الذي يتبول على العالم...
لكن الطريف في فلم رامي الجربوعي تمثل في الضحك على كل هؤلاء والسخرية منهم، خاصة عندما وقف البطل على ربوة مطلا على مشهد سريالي تمثل في مرور قافلة لفيلة سلفادور دالي قادمة من المجهول نحو المجهول. إذ لم ينتج عن مسار العقلنة الطويل سوى لامعقولية الواقع وتصدع الذات تحت وقع الدمار الذي خلفه الإجحاف في مركزية الأنا التي جنت بعقلها.
نجح المخرج رامي الجربوعي في لعب دور الوسيط بين مشاهديه وعالم آخر قد نغفل عن رؤيته بوضوح لأنه شديد الاقتراب من أعيينا ويغمرنا في كل اتجاه، وهو العالم المكون من أشياء كثيفة ومتعددة لعل الفراغ أحد أشكالها. كما نجح أيضاً في استنطاق شخصية البطل هشام بوزيد والذي قال:
"رامي مخرج مكنني من التعرف إلى نفسي مرة أخرى في شكل فكرة وليس فقط كممثل محترف وأدعو كل المخرجين الشبان إلى أن يسبروا أغوار الشخصيات بشكل أعمق وأكثف، فكلما اقترب المخرج من الممثل خاصة في حياته اليومية فإن استنطاقه لطاقة الممثل ستكون أفضل وأدق".
ليست لعبة الشطرنج الحركة الوحيدة التي صاحبت دوران الشريط القصير في كامل مراحله، بل إن قيام أحدهم بحفر قبر بانهماك كان يوازي الأحداث من جهة أخرى. فكلما تحرك البطل إلى مكان ما إلا وعاد إلى أحجار الشطرنج ليحركها، في حين أن أحدهم ـ لابسا الأسود القاتم ـ لا يتوقف عن حفر القبر بمجرفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
mahmoud fahmy -
منذ يوممادة قوية، والأسلوب ممتاز
Karami Meriam -
منذ يوميننيتمءتحءنخوماك الامام الخامنئي, ب58
Karami Meriam -
منذ يوميننيتمءتحءنخوماك الامام الخامنئي, ب58
Apple User -
منذ 4 أياماتمنى الرد يا استاذ ?
Apple User -
منذ 4 أيامهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟
Assad Abdo -
منذ 6 أيامشخصية جدلية