تُعدّ صناعة الأفلام منذ الأخوين "لوميار" موضوعاً مثيراً للجدل، من خلال كثرة المسائل التي يطرحها هذا الفنّ، والمجالات التي يعالجها. والحقيقة أنّه، مع مرور الزمن وتطوّر التقنيات، أضيفت إلى هذه المواضيع، مجموعة من الإشكالات المعرفيّة بالأساس، والتي تجعل المتلقي يتساءل عن كنه الفيلم وأهدافه ليصنّفه.
التصنيف هنا، نعني به الإحاطة بمجموعة المعايير والتقنيات التي نلاحظها وندقّق فيها، لنتمكّن من وضع المادّة المرئيّة، التي نحن بصدد مقاربتها، ضمن خانة معيّنة. نتحدّث هنا عن أنواع سينمائيّة مختلفة: تجاريّة أو بديلة.
ولعلّ السينما البديلة في العقود الأخيرة احتلّت مكانةً هامّة في البلدان العربيّة. وفي تونس، لا يختلف الوضع كثيراً. فقد اِنشدّ الوسط الثقافي إلى مجموعة من الأعمال السينمائيّة التي أطلق عليها "البديلة". إنّ إشكاليّة هذا الصّنف من السينما تكمن في مدى تأثيره في المشاهد، وكيفيّة تقييمها وأهمّ خصائصها.
نوادي السينما: نواة السينما البديلة في تونس
تنشط في تونس مجموعة من نوادي السينما، خصوصاً في العاصمة وفي مدينة قليبية. وتعتبر هذه الأماكن المحطّة الأولى لنشر ثقافة السينما، وإعطاء فرص متعدّدة مع فتح آفاق أمام السينما البديلة. تتمّ عمليّة إنتاج وتوزيع الأفلام التونسيّة، بإمكانات بسيطة ضمن تظاهرات تحقّق نجاحاً باهراً، والهدف الرئيسي منها هو الاقتراب من المناطق الداخليّة، وعرض مجموعة من الأفلام السينمائيّة البديلة في الأرياف. هذا هو الهدف الأساسي من السينما البديلة، التي تطرح في أحد تعريفاتها المتعدّدة الجمهور كعنصر فاعل في تقييم العمل الفني. يتمّ هذا كلّه تحت إشراف الجامعة التونسيّة لنوادي السينما، التي أسّست في تونس 1950، وكان أوّل رئيس لها هو الطاهر شريعة. وقد كان لهذه الجامعة دور كبير في تأسيس مجموعة من المؤسسات الوطنيّة والعالميّة، التي تهتمّ بنشر ثقافة السينما عموماً، والسينما البديلة خصوصاً. كما أنّ الجامعة تعتبر النواة الأولى التي يتكوّن فيها المخرجون والنقاد.من العشرينات إلى الألفيّة الثالثة: السينما البديلة وسيلة مقاومة
ظهر أول فيلم تونسي "زهرة"، وعلى الأرجح الأول في القارة الأفريقيّة عام 1922، وهو من إخراج ألبير الشكيلي (1872-1934). والحقيقة أنه منذ هذا التاريخ، بدأت مجموعة من الأفلام تظهر بنسق بطيء لم يتغيّر، حتى مع دولة الاستقلال، التي أولت الثقافة مكانةً هامّةً منذ عام 1956. ارتباط السينما بالواقع وتأثرها بالمتغيرات، هو ما ساهم في انقسام على مستوى التصنيف السينمائي، فأصبحنا، منذ الثمانينات، نتحدّث عن سينما بديلة، قائمة أساساً على إنتاج مجموعة من الأفلام، التي لا تمرّ عبر الوسائل الرسميّة خشيةً من آلة الرقابة التي وقع إرساؤها في الحقبة البورقيبيّة، واشتدّت وتنامت مع فترة حكم بن علي (بداية من انقلاب 1987). كانت السينما البديلة في تونس مسايرة لهذا المسار التاريخي السياسي الذي تشهده البلاد. فرغم ضعف الإنتاج، يمكن أن نسجّل مجموعة من المحاولات لشبان من مختلف التوجهات الفكريّة. عام 2008، مع فيلم "مايكنغ أوف" للنوري بوزيد، يمكن اعتبار ذلك العام بداية تبلور مفهوم السينما البديلة وبروزه أكثر فأكثر، خصوصاً في ظل الحصار الذي ضربه النظام على الحريات. كانت الأفلام بمثابة المرآة العاكسة لهذا الجو الخانق، والملقي بثقله على المواطن، الذي كان ضحيّة بطش السلطة من جهة، وصعود سطوة التيارات الدينيّة المتشدّدة من جهة أخرى، ما تجسد في فيلم في بلاد الشاق واق لنصر الدين السهيلي (2010) الذي عالج المسألة بطريقة كوميديّة ساخرة. كانت السينما البديلة في تونس وسيلة لمقاومة الديكتاتوريّة، وطريقة لجذب انتباه المشاهد والشباب، خصوصاً إلى الصورة الحقيقة للسينما، بعيداً عن الأفلام التجاريّة، والأفلام التي تخدم بروباغندا النظام. وهو ما تؤكّده الناقدة والناشطة في المجتمع المدني أسماء موسى، التي ترى: "السينما البديلة في تونس لم تظهر بصفة لافتة إلا مع نهاية التسعينات، أي تزامناً مع تصاعد الاحتقان في الشارع، وحالة السخط على الأوضاع. يمكن القول إن هذه الأفلام كانت ردّة فعل على الواقع، فنوادي السينما في المعاهد والجامعات كانت بمثابة فضاءات لتكوّن الوعي السياسي لدى الشباب المولع بهذا الفن، والذي اختار التغريد خارج السرب. لذلك وقع إنتاج وتقديم مجموعة من الأعمال بتمويل ذاتيّ. أنا أرى أنّ السينما البديلة في تونس هي وسيلة للمقاومة، وهي أيضاً سبب في عدم انصهار الكثير من الشباب مع القطيع". أما عن وضع السينما البديلة بعد الثورة، تضيف أسماء: "ساهم توسيع مجال الحريّة في إعطاء حيّز أكبر لكتاب السيناريو والمخرجين. وقد أملنا في ازدياد عدد الأفلام وهو، مع الأسف، ما لم يتحقّق، فقد ظلّ الإنتاج محتشماً، لكن الأعمال ظلّت حمالة طرح محترم وجديّ، مقارنةً بالسينما السائدة أو التجاريّة كما يسميها البعض".ضعف الإنتاج لا يمنع تعدّد الرؤى
لعلّ المتمعّن في الساحة الثقافيّة التونسيّة يلاحظ بسهولة ضعف الإنتاج السينمائي، العائد إلى أسباب عديدة، أبرزها على الأطلاق قلّة قاعات السينما في البلاد، وعزوف التونسي عن مشاهدة السينما. ولكن رغم كل هذه الظروف، تحافظ العديد من الأعمال التونسيّة على طابع خاص، من خلال اعتمادها على وجهة نظر مخرجها. فالسينما البديلة، على عكس التجاريّة، تهدف إلى وضع المشاهد أمام عالم المخرج، الذي يتخيّله ويجسّده على أرض الواقع. ههنا تتحوّل السينما البديلة إلى فرصة للغوص في أفكار ورؤى متعدّدة تختلف باختلاف سيناريوهاتها ومخرجيها، ولا فرق في ذلك بين الأفلام القصيرة والأفلام الطويلة. والحقيقة أنه يوجد العديد من المخرجين التونسيين الذين قدّموا أعمالاً سينمائيّة بديلة. فأمين ميهوب في فيلمه هوس (2009) يروي قصّة شاب تونسي يقع ضحيّة هلوساته، وينعزل عن بقيّة العالم مفضّلاً الإبحار في عالم الخيال. إنّ الدارس لأهمّ جوانب هذا الفيلم القصير يكشف عن رسائل مضمّنة عديدة، أبرزها الصراع الداخلي الذي ينهش الإنسان الحديث، ويجعله ممزّقاً بين خيارين: الانعزال عن صخب العالم أو الاندماج في صلبه والانصهار حدّ فقدان الإنسانيّة. محمّد علي النّهدي أيضاً من المخرجين الذين اهتموا بهذا النوع من السينما وقدموا أعمالاً مهمّة. ففيلمه "كان يا مكان في الفجر" هو تسليط للضوء على شواغل الشباب من خلال التعرّض لزوايا من حياتهم اليوميّة ومشاهد من مشاكلهم العائليّة. أبرز الأفلام السينمائيّة البديلة في السنوات الأخيرة هو فيلم "كحلوشة" لنجيب بلقاضي، الذي يمزج مشاهد من الواقع بمشاهد تمثيليّة تاركاً المشاهد في حالة تيه بين عالمين، بل يتجاوز الأمر ذلك ليتخيل المتلقي إجابات وتفاعلات الشخصيات، لأنّ بلقاضي ركزّ على حيّز الصمت واكتفى بالصورة في أكثر من مناسبة. والحقيقة أن السينما البديلة أيضاً كانت حاضرة لتؤرّخ أهمّ الأحداث التي كانت بمثابة محطات محوريّة في تاريخ البلاد. فاعتصام الكامور الذي نظمّته مجموعة من العاطلين عن العمل بجنوب البلاد (تطاوين)، كان موضوع فيلم من إخراج 5 شبان بتقنيات بسيطة. تمكّن هؤلاء الشباب من خلال فيلمهم "صوت الكامور" من تخليد لحظات ثوريّة حاسمة، قادها المعتصمون ضدّ النظام، الذي همّشهم لعقود. الصورة كانت موغلة في الواقعيّة مع مقاطع ومقتطفات من ألحان العود وأبيات للشاعر أولاد حمد. طرح هؤلاء المخرجون من خلال أعمالهم نظرة جديدة للسينما. فبإمكانات بسيطة وطاقم تقني صغير قدّموا أفلاماً تستثير عقل المشاهد وتجعله في حيرة متواصلة. ربّما كانت هذه هي الميزة المشتركة لجميع الأعمال السينمائيّة البديلة في تونس، أي ذلك الغموض الذي يحفّ بالشخصيات والمشاهد التي توضع في تسلسل زمني لا يتماشى ونسق القصّة. نجحت السينما البديلة في تونس من الوصول إلى المتلقّي بإمكانات متواضعة. وقد حافظت رغم ذلك على البعد الجمالي الذي يميّزها عن السينما السائدة. فكانت المتعة في المغامرة التي يخوضها المشاهد التونسي أمام أفلام تستعصي على الفهم، وتوغل في الألغاز في بعض الأحيان. بدأت السينما البديلة تحتلّ مكانةً هامّة وتستحوذ على الاهتمام، وذلك عائد إلى تطور وسائل الاتصال الحديثة من جهة، وخروجها عن السائد والمألوف، وابتعادها عن المواضيع المستهلكة من جهة أخرى.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...