عوامل كثيرة تجذبنا إلى هذا العالم المكون من لونين فقط فى ظل شاشات تذخر بألاف الألوان في الحاضر. وكأن أفلام الأبيض والأسود لا تزال تحفظ مكانتها في قلوب المشاهدين على مستوى العالم بعد سيطرة الألوان على الشاشة منذ ستينيات القرن العشرين.
مخرجين كثر سيطرت عليهم فكرة إنتاج أفلام بالأبيض والأسود، لأسباب متعددة أما لإضفاء حالة معينة على الأحداث أو للتعبير عن شخصيات العمل، أو عن حقبة زمنية ما، وحالات نفسية وجمالية وفنية، وربما لمداعبة ذكريات الجمهور التي لن ينتهي سحر "الأفلام الأولى" في مخيلتها.
في السنوات الأخيرة، هزّ فيلم The Artist عشاق السينما، في قصة عن الخلود إلى البساطة في شخصية البطل الذي سمعنا صرخته "الصامتة"، عندما صدمته تكنولوجيا الأفلام الناطقة، وذهب في نوبات اكتئاب رغبة فى البقاء بالماضي وقلق التقدم إلى المستقبل المحتوم، وغالباً ما تكون تلك هي الحالة التي تلتبسنا ونحن أسرى أمام فيلم عربي قديم تظهر فيه الشوارع خالية ونظيفة ويسير بها عدد محدود من البشر والسيارات، وتسحرنا فيه بساطة الموضة وأناقتها في ذلك الوقت.
[caption id="" align="alignnone" width="465"] The Artist[/caption]
فيلم The Arist فيلم فرنسي درامي رومانسي، ولكنه صامت كأفلام بداية القرن العشرين التي اشتهر بها تشارلي شابلن، وربما هي الميزة التي جعلت الفيلم يفوز بخمسة جوائز أوسكار ضمنها جائزة أفضل فيلم. تدور الأحداث في عام 1927، وهي عن حياة الممثل الشهير جورج فالتين.
لعب بطولة الفيلم بيجو برنيس وجان ديجاردان، وفاز عن دوره بجائزة الأسوكار أفضل ممثل كأول فرنسي يفوز بها.
الفيلم يقدم أيضاً مزيجاً من النوستالجيا تليق بحالة الأبيض والأسود وبشخصيات الفيلم الحالمة، كرقصات الكلاكيت والملابس، خاصة ملابس البطلات التى أحسن فريق العمل فى تصميمها وخلقت حالة مميزة بجانب أيضاً أحذية الرجال ذات اللونين الأبيض والأسود التي توافرت فقط حتى فترة الستينيات، وكأنها كانت مرتبطة بتقنيات الأبيض والأسود ظهرت معها واندثرت معها أيضاً مع بدايات السبعينيات وغزو الألوان للشاشة ولموضات الملابس أيضاً.
تقنيات الألوان والتصوير
رغم التجارب والابتكارات التي اهتمت بالتصوير منذ العالم الحسن بن الهيثم وصولا لليوناردو دافنشي وغيرهما، يظل الإنجاز الأهم فى اختراع السينما وظهور تقنيات التصوير المرئي بالأبيض والأسود للإخوان لوميير، بعد أن طورا ماكينة عرض الصور المتحركة المعروفة بـ"كونتو سكوب" التي اخترعها توماس أديسون، فأضافا للماكينة وحولاها إلى ألة سينماتوجراف. وعرض الأخوان لوميير وفقاً لموسوعة السينما العالمية أول فيلم لهما عام 1895 في باريس، قبل أن تمر صناعة السينما بالأبيض والأسود بمراحل مهمة تضخمت معها الصناعة حتى وصلت إلى مرحلة الألوان التي استخدم بشكل كامل في صناعة الأفلام عام 1939، على يد المخرج فيكتور فليمنج في فيلمه الشهير The Wizard of Oz، لكنها تستخدم إلى الآن في عدة أعمال فنية لأسباب كثيرة.سينما 30
أحدث التجارب التي تمت فى الوطن العربي لعرض أعمال فنية بالأبيض والأسود كانت "سينما 30"، والمثير أن العمل ليس فيلماً بل مسرحية من تأليف وإخراج محمود جمال والذي اعتمد في إظهار العرض باللونين الأبيض والأسود على الإضاءة والديكور وملابس الممثلين في تجربة تقدم على المسرح لأول مرة. ويرى محمود جمال أن المسرحية معايشه لحقبة بدايات القرن العشرين بكامل تفاصيله، داخل قرية مصرية هادئة ومتوسطة المعيشة والتعليم، فأحداث المسرحية تظهر أحلام أهل الريف خلال تلك الفترة، بداية من المزارع لابن شيخ القرية وعمدتها، وكيف كانت تسير الحياة متكئة على الإيمان بالخرافات وعدم الاعتماد على العلم فى تسيير شؤون الحياة، وطبائع استبداد السلطة. ويرى جمال أن هدفه من صناعة تلك المسرحية هو العودة بالمشاهد إلى زمن لم يعشه ولكن ليس من خلال شاشات السينما بل بالعروض الحية على خشبة المسرح حيث التفاعل الكامل بين الممثل وعناصر العرض مع الجمهور، الذي تبهره قدرة الإضاءة على تصوير العرض وكأنه بالأبيض والأسود. استغرق تجهيز ذلك نحو 3 أشهر من العمل والتجارب حتى وصل فريق العمل إلى هدفه فيما يخص الألوان. مصطفي طارق رئيس فريق التمثيل قال لرصيف22، إن أحداث المسرحية لم تنفصل عن صناعة السينما، فالبطل الرئيسي للعرض مخرج سينمائي وصل إلى مصر بعد أن أتم رحلة لدراسة السينما فى فرنسا، ويستقر في إحدى قرى الريف المصري، "ضي القمر"، لتصوير أول فيلم مصري ناطق ويطلق عليه عنوان "غرام في بلاد الريف". ويحاول المخرج إقناع الفلاحين بالمشاركة بالفيلم ولكنهم يرفضون في البداية، ثم تتغير الأمور وتتشابك مع سطلة المختار، ويحكم على المشاركين في الفيلم عقوبات تصل إلى التعذيب البدني. يعتبر عرض "سينما 30" الظهور الأول لتقنيات الأبيض والأسود على المسرح في مصر، فبأزياء معينه وحسابات دقيقة للإضائة تمكن صانعو العرض من إضفاء أجواء أفلام الأبيض وأسود على خشبة المسرح، فظهرت الديكورات والممثلون وكأنهم داخل قرية مصرية فى حقبة الخمسينيات، كما تصورها أفلام كثيرة أنتجت في فترة الستينيات بمصر وسط تركيز المنتجين والمخرجين وقتها على إظهار الريف المصري بعاداته وتقاليده التي أصبحت فيما بعد مغذياً لبعض قيم المدينة في مرحلة الهجرة من الريف إلى الحضر في نهاية فترة السبعينيات وبداية الثمانينات.فيديو كليب
بعض مخرجي أغاني الفيديو كليب للمطربين العرب فضلوا اللجوء إلى تقنيات الأبيض والأسود بدافع الحنين تارة ولتصوير زمن مختلف فى أحداث الفيديو تارة أخرى. كثر استخدام المخرجين لتلك التقنية فى أغاني المطربين اللبنانيين على وجه الخصوص ومنهم المخرج جو بو عيد فى كليب أغنية نانسي عجرم الأخير "حاسة بيك"، والمخرجة شيرين جبرايل خوري فى كليب "غافي" لمريام فارس، غير أعتماد المطرب وائل كافوري على فيديو بالأبيض والأسود لأغاني ألبومه الجديد "صرنا صلح"، وجميعها من إنتاج أخر عامين، وهو ما يوحي بوجود توجه على الأقل لدى مخرجي الفيديو كليب اللبنانيين لصناعة أعمالهم بالأبيض والأسود.في فيديوهات الأغاني، والسينما وأيضاً في المسرح، لماذا تسحرنا عوالم الأبيض والأسود؟السينما المصرية لم تنقطع عن أفلام الأبيض والأسود بشكل تام، رغم مرور 51 سنة على ظهور فيلم "دليلة" أول فيلم مصري ملون لعب بطولته عبد الحليم حافظ وشادية وأخرجه رائد الإخراج فى السينما المصرية محمد كريم.
فيلم "ديكور"
التجربة الأحدث في عالم الأبيض والأسود في السينما المصرية كانت فيلم "ديكور" للمخرج أحمد عبد الله، وهو من إنتاج عام 2012 بطولة حورية فرغلي وماجد الكداوني، وخالد أبو النجا. تدور أحداث الفيلم حول شخصية "مها"، مهندسة الديكور الرومانسية التي تقوم بدورها حورية فرغلي، والتي تمتلك جاليري للتحف وترتبط بقصة حب كبيرة مع شريف الذي يجسد دوره الفنان خالد أبو النجا، وتتزوجه ولكن لا تخلو حياتهما من المشاكل فيقرران الانفصال، وتقوم مها بالابتعاد نهائياً عن مدينتها وحياتها والذهاب إلى مدينة أخرى للعمل كمدرسة وتتعرف علي زميلها "مصطفي" وهو الفنان ماجد الكدواني، وتجمعهما قصة حب تتوج بالزواج وتنجب منه طفل ولكن المشاكل تبدا بينهما لتنهي علاقتهما بالطلاق. فتقرر "مها" أن تذهب إلى مدينة جديدة بابنها الوحيد، وهناك تتعرف علي زوجها الثالث وتصالحها الحياة مرة أخرى بحياة هادئة جميلة، ولكن تكتشف في نهاية الفيلم أنه مجرد حلم طويل تفوق فجأة منه لتبدأ حياتها الواقعية. أحداث الفيلم التى تميل إلى الصدمات التى تتعرض لها البطلة طوال الفيلم ودخولها فى نوبات اكتئاب متتالية، جعلت لاختيار الأبيض والأسود معنى سردياً، ففي مشاهد الفيلم مداعبة لفكرة الحلم وعوالم الخيال، وكذلك حساسية لتأثير حالات العزلة والاكتئاب التي تعيشها البطلة، الشفافة الشخصية. أما نهاية الفيلم، مع أنها تفاجئ المشاهد، تلملم معاني قصص الفيلم، وتكتمل بها محاولة محاكاة صناعة السينما نفسها، وتداخل الماضي والمتخيل والمعاش، وتداعب تعلقنا بهذه المفاهيم كلها من خلال استخدام تقنية الأبيض والأسود. خمسة تجارب من السينما الأمريكية تستحق الذكر هنا لتفوقها في تقديم تقنية الأسود والأبيض بشكل جديد، وبتوسيع الإمكانات السينمائية من خلال هذه التقنية.Nebraska
الفيلم الدرامي الأمريكي الذي تم تصويره بالأبيض والأسود، وهو إخراج الكسندر باين وبطولة بروس ديرن وويل فورث، وتدور أحداثه حول رجل عجوز يعتقد أنه حصل علي جائزة قيمتها مليون دولار ويصر على الذهاب إلى ولاية نبراسكا لتحصيلها، رغم نصيحة ابنه أن الجائزة مجرد إعلان تحاول مجلة أمريكية ترويجه لكسب الكثير من الزبائن. ويظهر الفيلم العديد من المواقف بين الأب وابنه، وعلاقة الأب مع أصدقائه القدامى وعائلته الذين يكثر ظهورهم خلال أحداث الفيلم، وهو ما ساعدت على تقديمه تقنية الأبيض والأسود طوال الأحداث تعبيراً عن حلم لا يتحقق يوصل الشخصية الرئيسية إلى مكانة جديدة بالنسبة للمحيطين بها، وكأنها تستكشف تشابك الخيال مع التوقعات، ومع الحقيقة المعاشة.Schindler's List
هذا الفيلم بحالة الترقب والقلق والإثارة التي تغلب عليه، ربما كان يتناسب عميقاً معه تقنيات الألوان، فالمرحلة التى تدور فيها الأحداث أيام الحكم النازي لأوربا فترة الحرب العالمية الثانية، فرضت حالة من الكآبة عبر عنها مخرج الفيلم ستيفن سبيلبيرغ، من خلال الأبيض والأسود، والفيلم من إنتاج العام 1993. الشخصية الأساسية في الفيلم، أوسكار شندلر، رجل الأعمال الألماني الذي يلعب دوره ليام نيسون، يقرر حماية اللاجئين اليهود والبولنديين من بطش الحكومة النازية، بكل ما في ذلك من مخاطرة، وينجح بالفعل في إنقاذ نحو 1000 شخص منهم، في قصة مقتبسة عن رواية للكاتب توماس كينلي. التذكير بالماضي بشكل أقوى وأكثر جدية، وربما هو الهدف الذي دفع سبيلبيرغ إلى استخدام تقنيات الأبيض والأسود والتي ساعدت على غرق المشاهد فى تفاصيل تلك المرحلة القاسية من عمر البشرية، التى خرجت منها بخسارة 55 مليون نفس خلال 6 سنوات دارت خلالها الحرب العالمية الثانية. لكن استخدام الأبيض والأسود لم يكن وحده الموضوع المثير للنقاد والمشاهدين، حيث أثار العرض المختلف عليه لوقائع محرقة النازيين لليهود جدلاً واسعاً، دفع بعض الدول العربية والإسلامية لمنعه.American History X
فيلم التاريخ الأمريكي X من إنتاج عام 1998 ومن إخراج توني ماي وألان سميثي أثار ضجة كبيرة بسب تطرقه لموضوع العنصرية ضد السود في المجتمع الأمريكي من خلال بطل الفيلم الذي جسد شخصيته إدوارد نورتون والذي ترشح عن دوره لجائزة أوسكار أفضل ممثل. موضوع الفيلم الذي يتناول العلاقة بين البيض والسود فى المجتمع الأمريكي عبر عنه بقوة استخدام تقنية الأبيض والأسود، فمثلت رمزية قوية للمعاني التي يريد المخرج معالجتها، وهو استخدام إبداعي للألوان خدم الأحداث والفكرة العامة للعمل. تبدأ أحداث الفيلم بخروج ديريك من السجن فيفاجأ بانضمام شقيقه داني إلى مجموعة من النازيين الجدد بهدف اضطهاد السود في مدينتهم، ويظهر فى نهاية الفيلم سبب كره الأخوان للسود هو مقتل أبيهم الإطفائي عن طريق الخطأ من قبل شخص أسود خلال مشاركته في إطفاء حريق في أحد البنايات. مشاهدة اللونين الأبيض والأسود طوال أحداث الفيلم تغذي الإحساس بالتناقض والتوتر بين أغلب أبطال العمل ويمثل سياق خصب لمشاهد العنف التي قدمها المخرج بشكل يغلب عليه الدموية.Memento
فيلم أمريكي ينتمي إلى فئة الإثارة والتشويق إنتاج عام 2001، من كتابة وإخراج كريستوفر نولان عن رواية أخيه جونثان نولان، جسد دور البطولة فى الفيلم الممثل الأمريكي جاي بيرس في دور ليونارد شلبي وهو محقق جرائم تأمين سابق يبحث عن قاتل زوجته التى قتلت خلال عملية اغتصاب، ويصاب بفقدان للذاكرة بسبب ضربة تلقاها على رأسه خلال محاولته إنقاذ زوجته. تنقسم أحداث الفيلم بين الألوان و الأبيض والأسود، حيث تعبر المشاهد التي تدور بالأبيض والأسود عن قصة الفيلم الرئيسية فيسرد فيها الأحداث كاملة وتفاصيل إصابة ليونارد وعملية اغتصاب زوجته وجزء من حياته قبل ذلك اليوم، أما المشاهد الملونة فتدور حول عملية بحث ليونارد عن قتلة زوجته، قبل أن تتوحد مشهد الفيلم فى ذروة الأحداث لتصبح بالألوان فقط.Sin City
فيلم جريمة وإثارة أمريكي إنتاج عام 2005 من كتابة وإنتاج وإخراج فرانك ميلر وروبرت رودريغز. مقتبس من رواية مصورة تحمل نفس الاسم لفرانك ميلر. قدمت أغلب أحداث الفيلم بالأبيض والأسود وحصل بفضل تلك التقنية على جائزة التقنية الكبرى فى مهرجان كان السينمائي عام 2005.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين