تعلمنا روح الفنّ، مرة بعد مرة، أن الإبداع يجد مكاناً في كل شيء، حتى في صميم اليأس والخراب. فالحرب وغياب العدالة الاجتماعية والكوارث الاقتصادية، هي أكبر المصائب التي تعرض لها لبنان، ولكن الشباب يتفاعل مع هذه الظروف بطرق متنوعة، ويتخذها البعض فرصة ومادة للإبداع الفني.
تتابع المقالة أحد أبرز هذه التجارب، التي خلقت روحاً إيجابية في ظروف الفوضى، وهي فرقة "زقاق" المسرحية، التي تنظر إلى مشاكل الواقع كـ"جنة فنية"، وتجمع في مشروعها بين الفن، والمسرح العلاجي والنشاط الاجتماعي.
زقاق: مكان للقاء مباشر دون حواجز
اختارت الفرقة اسمها لتقول أنها ستقدم منظوراً جديداً، فهي تريد أن تكون مغايرة للساحات المفتوحة، (وللشوارع العامة والأوتوسترادات)، وأن تخلق مكاناً يمكنك أن تجلس فيه، وتتحدث مع الآخرين، وتمضي وقتاً ممتعاً، وهذا ما تود الفرقة أن تقوم به، لأن التغيير الحقيقي، بحسب رأيها، يحدث في فرص التفاعل المباشر. تمثل فرقة زقاق المسرح اللبناني المعاصر الذي يركز على مواضيع اجتماعية وسياسية من الشارع اللبناني والعربي، كما أنها واحدة من عدة تجارب تقدم المسرح كمجال فعّال في مقاربة التغيير الاجتماعي والسياسي. بدأت الفرقة عملها بستة أعضاء مؤسسين، وهي اليوم تضم مؤسستها مايا زبيب، وعمر أبي عزار، وجنيد ساريدين، ولميا أبي عزار، وهشام عدنان، وسمية برّي ومحمد حمدان. يعاني المسرح اللبناني، كما هو حال المسرح في العالم العربي، من هيمنة التلفاز والسينما على المشهد الفني. ولقد شهدنا إقفال العديد من المسارح وتحويل بعضها الى مشاريع تجارية ربحية، رغم القيمة التاريخية لتلك المسارح. ومع ذلك، فضلت فرقة زقاق المسرح لأنه بحسب رأيهم، "يمتلك سحراً خاصاً لا يوفره أي شيء آخر". فكان يتسحق المغامرة، لأنه "لقاء الفنان بالجمهور مباشرةً دون حواجز في زمان و مكان ما".فلسفة عمل زقاق: المسرح ملك للجميع
ممارسة العمل المسرحي، في ظروف اليوم، خيار جريء ومميز، ليس فقط في لبنان، بل في العالم بأسره. ولأن المسرح، وكل أشكال الفن، لا يمكن أن تزدهر بدون مصدر دعم مالي، بدأت الفرقة عملها بدون تمويل، وقررت القيام بعروض على شكل أعمال تطوعية في مجال الدراما العلاجية، مما وسع انتشارها، وأثار اهتمام جهات مختلفة، كان من ضمنها مؤسسات بارزة مهتمة بمجال المسرح العلاجي، وهذه المشاريع ساعدت على تمويل المشروع واستمراره.فرقة زقاق المسرحية التي تؤمن بدور المسرح في تفعيل العدالة والمساواة والسلام
كيف قلبت فرقة زقاق المسرحية معادلة التمويل: لنعمل أولاً ونحصل على التمويل لاحقاً
هل يمكن لشخص واحد أن يحدث تغييراً في العالم؟ فرقة زقاق تعتبر نجاحها جواباً على ذلكلم تتوجه زقاق إلى النخبة فقط، بل سعت للوصول إلى مختلف طبقات المجتمع، لأن الفرقة آمنت بأن المسرح يجب أن يكون للجميع، ووجدت أن المسرح العلاجي في صميمه يخدم أهدافاً اجتماعية لا تعني بالضرورة طبقة المثقفين. تميزت العروض باستخدام لغة سهلة قريبة من الشارع، مما جعل الفرقة قادرة على طرح مواضيع أكثر تنوعاً. فمثلاً، تعاملت الفرقة مع مجتمعات محافظة، وقدمت عروضاً في مخيمات اللاجئين، وعملت على مراعاة خصوصية المكان واحترام القواعد الاجتماعية فيه. تقول الفرقة عن هذه التجربة "عند عملنا مع اللاجئين، لم يكن هدفنا فرض سيناريوهات معينة عليهم، بل عملنا على جعل نص العرض نابعاً من داخل حياتهم واهتماماتهم. هكذا ضمنّا تقبل الجمهور وتفاعله، لأنه كان من الواضح أنهم جزء من العرض، وأنه ليس مفروضاً من قبلنا". فكانت التجربة بمثابة حوار ونقاش بين أنداد. وعن مدى فعالية هذه السياسة، تقول الفرقة " لقد عملنا مع مجموعة فتيات من اللاجئين. في بادئ الأمر، كنّ مترددات، وخجولات، وغير واثقات بمدى أهمية وفعالية هذه التجربة". وتتابع الفرقة: "ولكن عند نهاية ورشة العمل، كان واضحاً أن هناك تغييراً حقيقياً قد حصل. كان بالإمكان التعرف إلى شخصياتهم بضوء جديد. أصبحن أكثر ثقةً وأعلى صوتاً وحتى أن بعضهن أصبحن جاهزات لتدريب فتيات أخريات بأنفسهن". المسرح بحد ذاته لديه هذا التأثير على الإنسان، لأنه كفن أدائي يعطي هامشاً من الحرية قلما نجده في أي مكان آخر، وخاصةً في المجتمعات المحافظة. ولكن هذا الهدف هو جزء من مشروع الفرقة التي تصف مهمتها بـ"الفن في خدمة التغيير".
أبرز عروض زقاق
قامت الفرقة بالعديد من العروض الناجحة، نستعرض أبرزها."اليسانة": احتفال بالتعديدة والمدنية
كان العرض مستوحى من مسرحية لهنريك إبسن، الذي يعتبر من أهم أسباب ظهور الدراما الواقعية المعاصرة، والذي يلقب بـ"أبو المسرح الحديث". عرض زقاق جاء كجزء من مشروع قدمته الفرقة بالتعاون مع "جائزة إبسن" النروجية. قامت الفرقة باقتباس قصة الملك جوليان الذي حكم في بداية المسيحية (في القرن الرابع الميلادي)، والذي قرر في لحظة تاريخية حاسمة، الرجوع للوثنية، هذا القرار الذي كان نابعاً من إيمانه بوجب فصل الدين عن الدولة، والذي ما كان ليتحقق، برأيه، إلا من خلال تعدد الالهة."جنة، جنة، جنة": صراع السيطرة على سرديات التاريخ
جاء هذا العرض كجزء من سلسلة عروض حول "التاريخ" قدمتها الفرقة، لأنّ التاريخ اللبناني حتى يومنا هذا موضع نقاش وخلاف. فليس هناك اتفاق على سردياته ومعانيها، ولا حتى على أحداثه وتداعياتها ودور الفرق والشخصيات والطوائف المختلفة فيه. حاولت الفرقة إعادة تشكيل هذا التاريخ من خلال قصص شخصية لأعضاء الفرقة، وسمي العرض "مشرح وطني". كانت الفكرة من ورائه هي تشريح "جثة التاريخ اللبناني"، حيث يلعب ممثل من الفرقة دور "الجثة"، ويقوم ممثلان آخران بدور طبيبتين تتنازعان على تشريح الجثة، وذلك من خلال إقحامها في قصص مختلفة، تمثل أحداث التاريخ اللبناني. العرض التالي في السلسلة هو "جنة، جنة، جنة"، وهو عرض مسرحي على الخشبة، لم يكن تفاعلياً، بل قدم من خلال ثلاث نساء، رواية للتاريخ من خلال قصصهن الشخصية."هو الذي رأى": عن الموت والخلود
جاء هذا العرض ضمن سلسلة عروض حول "الموت والخلود". قررت الفرقة أن تعمل على موضوع أسطورة جلجامش من حضارة ما بين النهرين. وفي قصة الملحمة، بعد أن يفقد بطلها الحاكم نده وصديقه إنكيدو، يبدأ رحلة بحث عن نبتة الخلود، ومعنى الحياة والفقد والفناء. تأخذه الرحلة إلى الغرب، أو ما وراء الشمس. في خلقها فرصة لإسقاط حركة الناس من الشرق الأوسط إلى الغرب، على رحلة بحث جلجامش المحمومة، تدعونا المسرحية للتفكير بالواقع اليوم من منظور جديد، له بعدٌ تاريخي وثقافي محليّ، وكأنها بذلك ترد على مقاربة موضوع الهجرة التي تقدم حركة الناس من الشرق إلى الغرب ضمن إطار مبسط يضع الغرب في مثابة الحلم، ويتناسى أبعاد الهجرة الأعمق.الجواكر
سيقدم العرض لأول مرة في مدينة بوردو الفرنسية قريباً، وفي كانون الأول سيعرض في بيروت. يناقش العرض الفئات التي تتعرض للتميز والتهميش بسبب كونها مختلفة عن الصورة النمطية للمجتمع، وكيف يمكن أن يدفعها ذلك إلى اتباع سلوك وأساليب حياة تعبر عن نفسها بلغة وممارسات عنيفة. بعد سلسلة من المشاريع الناجحة، حصلت الفرقة على عدد من الجوائز. منها جائزة " Praemium Imperiale "، وهي جائزة تمنح للفنانين تقديراً للتأثير الذي يقومون به في المجال الفني، ولدورهم في إغناء المجتمع العالمي. لقد منحت هذه الجائزة للكثير من الأسماء البارزة في عالم الفن من مختلف البلدان. وفي عام 2017، أسست جائرة للفنانين الشباب، وكانت من نصيب فرقة زقاق. أيضاً، أبلغ الملحق الثقافي للمركز الفرنسي في لبنان إيريك لوبا، الفرقة بحصولهم على جائزة جاك شيراك، وهي جائزة فرنسية تمنح للفرق الفنية التي تعمل من أجل السلام، وهو أحد الأهداف التي تبنتها الفرقة وسعت إلى دعمها منذ بداياتها، وفي مختلف أعمالها. أما مؤخراً فقد حصلت الفرقة على منحة "الفنانين الشباب" التي تقدمها رابطة اليابان للفنانين. من مجموعة شباب اختاروا المسرح، تحولت زقاق إلى قوة فاعلة في لبنان، ونجحت في تقديم عروض تفاعلية، فتحت أبواب نقاش تشاركي عن التغيير والعدالة والحريات والسلام. تجربة فرقة زقاق تحمل معان عديدة لأعضاء الفرقة، أبرزها أن الالتزام بالفن، وبالمسرح خاصة، يتطلب صلابة في الشخصية والإرادة. حياة الفنانين هي حياة ممتعة بدون شك، ولكنها حياة شاقة أيضاً، هذه حقيقة رافقت الفنانين على مر العصور. ولكن الفرقة تؤمن أن سرّ نجاحها وقوتها، الذي جعلها تستمر على مدار 11 عاماً هو العمل الجماعي وإيمان أفرادها بأن لكل شخص قدرة على المشاركة في التغيير، وبأنّ الفنّ، بإمكاناته الإبداعية، يمكنه أن يخلق مستقبلاً أجمل. صور المقالة: من Good Chance Theatre، فرقة زقاق المسرحية، رندا ميرزا، CIFCET
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...