في أحد مراكز الاحتجاز الليبيّة، كان ثمة مكنسة مثبّتة على الحائط. لم تكن جزءاً من الديكور. كان للمكنسة وظيفة في إخضاع المعتقلين.
"إذا كنت ترغب في تناول الطعام، عليك أن تخلع ملابسك، ترجع إلى الخلف عارياً باتجاه المكنسة ولا تفارقها حتى يرى السجان تدفق الدم منك... بعدها يمكن الحصول على الطعام". هذه الشهادة لرجل اعتُقل أربع سنوات في سجن في تومينا، في إحدى ضواحي مصراتة.
يروي أحمد، تحت اسم مستعار، وسائل "إخضاع الرجال" من خلال الاغتصاب. هكذا "لا يمكن للرجل أن يرفع رأسه مجدداً"، يقول أحمد الذي كان محتجزاً مع 450 رجلاً، بينما يعمد السجانون إلى توثيق عملية الاغتصاب على هواتفهم المحمولة.
شهادة أحمد هي واحدة من بين شهادات عدة وثقتها مجموعة عمل مقرها تونس، بالتعاون مع الصحافية في "لوموند" الفرنسية سيسيل أليغرا، مبيّنة استخدام فصائل ليبيّة لاغتصاب الرجال كوسيلة ممنهجة للهيمنة خلال الحرب.
اتُهم نظام القذافي باللجوء إلى هذه الوسيلة خلال ثورة العام 2011، لكن لم تتوفر سابقاً أدلة ملموسة تدعم صحة هذا الاتهام.
الأدلة الجديدة
"لقد لجأ مناصرو القذافي إلى اغتصاب خصومهم خلال الأحداث... وبعد سقوط النظام خضع هؤلاء للعنف نفسه الذي مارسوه"، يقول "رمضان" (اسم مستعار) الذي بقي لثلاث سنوات يجمع أدلة حول اغتصاب الرجال، بالتعاون مع شخص آخر يسمي نفسه "عماد". لاحقاً، سافر عماد ترافقه مراسلة "لوموند" إلى ليبيا، وهناك التقيا بـ"منى" (اسم مستعار) التي كانت قد جمعت عشرات الأدلة حول الموضوع نفسه. أحد الأدلة كان فيديو لأحد مناصري القذافي يقول فيه إنه تعرض للاغتصاب بالمكنسة المعلقة على الحائط، ويوجد الكثيرين ممن تعرضوا للعنف نفسه. ومن بين وسائل الاغتصاب الأخرى، الموثقة ممن تابعوا الملف، شهادة عن شاب أسود مهاجر جرى رميه في إحدى زنازين الاحتجاز، بينما طُلب من الموجودين اغتصابه تباعاً، وإلا يموتون جميعاً. وفي فيديو آخر، يظهر شاب صغير على الرمال، يطأطئ رأسه مرعوباً. يعمد أحدهم إلى تعريته ثم يحشر قاذفة صواريخ تصل إلى الأرداف في مؤخرته، قبل أن تتحول الكاميرا بعيداً. وتشير صحيفة "الغارديان" إلى أنه لا يمكن التحقق من الفيديو بشكل مستقل، كما يستحيل تحديد مجموعة الميليشيات أو مكان وقوع الاغتصاب. لاحقاً، ظهرت أدلة أخرى. سلمت مجموعة كانت تعمل بدورها على الملف في مبنى صغير بالقرب من طرابلس العاصمة، لعماد 650 وثيقة مرتبة حسب الأحرف الأبجدية. احتوى العديد من هذه الوثائق على ادعاءات بالاغتصاب قام بها أشخاص من قبيلة تاورغاء، وهي قبيلة أفريقية اتهمت بدعم القذافي، واغتصاب أعدائه خلال الثورة. هؤلاء تعرضوا للانتقام بأبشع الطرق. دُمّرت مدينتهم وتوزع أكثر من 35 ألفاً منهم على العديد من المخيمات.لجأ مناصرو القذافي إلى اغتصاب خصومهم خلال الأحداث.. وبعد سقوط النظام خضع هؤلاء للعنف نفسه الذي مارسوه
شهادات وأدلة جديدة تبيّن استخدام فصائل ليبيّة لاغتصاب الرجال كوسيلة ممنهجة للهيمنة خلال الحربفي أحد المخيمات، جنوبي طرابلس، يروي علي ما شهده قائلاً "بعضنا كان يبقى محتجزاً في الغرفة عارياً لمدة ليلة كاملة مع مجموعات من المهاجرين. ولا يطلق الحراس سراحهم حتى يغتصب بعضهم بعضاً". وفي مخيم آخر، جنوبي طرابلس، قالت فتحية، إن النساء تعرضن لانتهاكات جسدية وكذلك الرجال. تعترف أن عائلتها بأكملها قد انتهكت من قبل ميليشيا من مصراتة، وتم استهداف الرجال عمداً. تضيف "سحبوني في الشارع أمام الجميع. قالوا أننا اغتصبنا نساءهم وسيردون بالمثل". أما الأسوأ بالنسبة لفتحية فهو ما حدث معها لاحقاً، تقول "اغتصبوني أمام ابني الأكبر، ومنذ ذلك الحين، لا يريد أن يتكلم معي". وعند سؤالها عن السجناء الآخرين، تعلّق فتحية "لم أسمع سوى أصوات الرجال. كانوا يصرخون ليلاً ونهاراً".
ما الذي تقدّمه هذه الأدلة من جديد؟
ما تقدّم من أدلة موثقة، أتى ليؤكد ما كان ناشطون عدة قد تحدثوا عنه سابقاً. من هؤلاء كانت ناشطة السلام الليبية أسمى خليفة التي وصفته كأداة حرب أساسية في المعركة الليبية. في المقابلة التي أجرتها مع "بي بي سي"، قالت إن الاغتصاب استخدم ليس فقط للانتقام، وليس لغايات جنسية فحسب، بل وسيلة إخضاع وتفتيت للنسيج الاجتماعي لا سيما في ظل ما يلحق المتعرض للاغتصاب من تبعات اجتماعية. وفي العام الماضي، طلبت مدعية المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا من مجلس الأمن الدولي الحصول على مزيد من الأموال لتعزيز تحقيقاتها وتوسيعها في ما يخص جرائم الحرب الليبية. وفي 15 أغسطس الماضي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف دولية بحق محمود الورفلي، المتهم بارتكاب جرائم حرب، ومساعد اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي كان يسيطر على شرقي ليبيا لسنوات. لأول مرة، اعترفت المحكمة الجنائية الدولية بـأشرطة الفيديو المنشورة على شبكة الإنترنت كأدلة على عمليات الإعدام التي جرت بإجراءات موجزة (من دون محاكمة)، ويتهم الورفلي بالوقوف وراءها. من هنا، ترى أليغرا، التي كانت قد بدأت تحقيقها في أكتوبر العام 2016 ثم تعاونت مع من أسمتهم مجموعة من الشجعان المدافعين عن حقوق الإنسان في تونس وليبيا، أن الشهادات الجديدة الموثقة ستكون صالحة قانونياً إذا ما تم رفع قضايا جرائم الحرب ضد مرتكبي الاغتصاب المنهجي. كما يتوقع العاملون بهذا الشأن ظهور المزيد من الضحايا من السجون السرية في شرق ليبيا. هؤلاء لن يكونوا الشاهدين الوحيدين على "أكثر مظاهر الحرب رعباً... وأبرز وجوهها ظلامية"، حسب "الغارديان"، بل يمتدون من السودان والصومال إلى العراق وسوريا وبلدان كثيرة أخرى أنهكتها الحروب.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...