"دعوني أكون واضحة معكم…"، كانت لوقت غير بعيد عبارة مسجّلة في قاموس رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. كررتها في مناسبات عدة كالحديث عن البريكست والمفاوضات، عن راتبها أو أي مشكلة جدليّة حول بريطانيا وعلاقاتها الخارجية.
قاموس الوضوح لدى ماي، "الأبعد ما يكون عن الوضوح" بحسب وصف خصومها، ضمّ كلمة جديدة مؤخراً هي "الفخر"، وتحديداً الفخر بوعد بلفور الذي يتم مئويته الأولى اليوم.
قبل أيام من حلول الذكرى قالت ماي أمام مجلس العموم البريطاني "إننا نشعر بالفخر بالدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر".
في ذلك التصريح المقتضب، وردت كلمة "الفخر" مرتين، وفي تلك الكلمة مختصر ما آل إليه الصراع الذي بدأت بذوره حتى قبل تلك الرسالة التي بعثها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد اليهودي ليونيل وولتر دي روتشيلد، معلناً فيها دعم بريطانيا لإقامة دولة لليهود في فلسطين. وهو ما سميّ لاحقاً بـ"وعد بلفور".
[caption id="attachment_126467" align="alignnone" width="700"] الرسالة التي بعثها بلفور إلى روتشيلد، معلناً فيها دعم بريطانيا لإقامة دولة لليهود[/caption]
عشاء القصر المذهّب
في العام الماضي، وقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة ليطالب بريطانيا بالاعتذار عن تلك الرسالة التي مهدت للاحتلال الإسرائيلي. في سبتمبر الماضي، جدد المطالبة نفسها أمام الجمعية، مطالباً السلطات البريطانية منح تعويضات للفلسطينيين الذين خسروا أراضيهم. لكن ماي تفتخر ولن تعتذر. وقد وصل نظيرها الإسرائيلي إلى لندن للاحتفال بذكرى "أحد أهم الرسائل في التاريخ"، كما وصفتها. اختارت ماي دعم الموقف الإسرائيلي "بفخر"، وها هي تحضر الليلة مأدبة عشاء بالقاعات ذات الطلاء الذهبي بقصر لانكستر هاوس في لندن، احتفالاً بالمناسبة وبالضيف. ماي تفتخر ولن تعتذر، ولو أن بعض مقتطفات من كلمتها الليلة نشرت وجاء فيها أن "الوعد يطالبنا بأن نتحلى بعزم متجدد لدعم السلام الدائم الذي هو في مصلحة الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء وفي مصلحتنا جميعاً". بعد مئة عام، جرى خلالها مراجعة الوعد مراراً وتكراراً، وتحدث البعض عن ضرورة إعادة صياغته ليلائم متطلبات السياسة والأمن التي تبدلت مع الوقت، اختصر المشهد البريطاني الحال. صاحبة الوعد غير مستعدة للاعتذار، فكيف بنسف الوعد، ولو أن بعض الجهات السياسية تتخذ موقفاً أكثر نقدية تجاه مخلفاته. فلسطين الغارقة تحت الاحتلال تطالب بالاعتذار ولا من مجيب. إسرائيل تحتفل في قصر ذهبي متجاهلة الخوض في تفاصيل الوعد والحديث عن مخالفة روحيته، متمسكة بـ"التأييد الجلي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين".عن الوعد الذي يتحمل مسؤولية أكبر صراعات المنطقة العربية وما يثيره من جدل اليوم
100 عام والوعد باق، وفلسطين ومعها العالم يشهدون على كل المذابح التي مهد بلفور الطريق لها
من يُخرج الوعد من تحت السرير؟
يصيب الوعد الذي يتحمل مسؤولية أكبر صراعات المنطقة العربية حي وايت هول، حيث مكاتب الوزراء في لندن، بصداع كبير. هكذا يقول طوني غرين في مقاله المطول في الذكرى المئوية لـ"وعد بلفور". لا يستغرب كذلك أن يرغب الوزراء في الاختباء أسفل السرير ومعهم الوعد "إلى أن ينتهي كل ذلك الضجيج". ولكنها مئة عام، والوعد باق وفلسطين ومعها العالم يشهدون على كل المذابح التي مهد بلفور الطريق لها. مئة عام تغيّر خلالها الشرق الأوسط وتغيّر المجتمع الإسرائيلي، ولم يتغير فيها وجود الشعب الفلسطيني. [caption id="attachment_126474" align="alignnone" width="700"] اللورد بلفور يتوسط هربرت صموئيل وإدموند ألنبي، 1925[/caption] لم يتغيّر الكثير في الأعوام الماضية، لكن للأرقام سلطتها ورمزيتها، ورقم 100 عام يرخي بثقله على كل ما حملته رسالة بلفور المقتضبة للورد دي روتشيلد، بمقاطعها الثلاثة، من رمزية.بوريس جونسون
على عكس "فخر" ماي، حاول وزير الخارجية البحث عن نوع من التوازن. عبّر عن نية بلاده الاعتذار "من المؤكد أننا سنفعل ذلك، نريد أن نفعل ذلك، ولكن لم يحن الوقت بعد"، لكنه قال إن ذلك "لن ينهي بمفرده الاحتلال أو يحقق السلام". كذلك احتفى جونسون بالوعد، لكنه قال إن المشكلة ليست فيه بل في عدم احترامه. كيف ذلك؟ أوردت رسالة بلفور فقرة أساسية جاء فيها أن "إقامة دولة لليهود لا ينبغي أن يأتي بشيء ينتقص من الحقوق المدنية أو الدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة".توبياس إلوود
بشكل أكثر براغماتية، رأى الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا توبياس إلوود أن بريطانيا لا يجب أن تحتفل ولا أن تعتذر. برأيه "لا يمكن إعادة صياغة رسالة عمرها قرن من الزمن لتهدئة الحساسيات السياسية اليوم، يشوه الصورة التاريخية". والحل حسب إلوود "بدلا من إعادة كتابة الماضي، يجب على بريطانيا أن تسلّط الأضواء بشكل يعيد فهمه ويعزّز رؤية إيجابية للمستقبل، وذلك باستخدام مفردات تراعي المشاعر المتضاربة على جانبي النزاع.جيريمي كوربين
زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربين، الذي يزعج ماي دائماً، أعلن أنه لن يشارك في مأدبة العشاء مساء اليوم، حسب صحيفة "التلغراف". وأشارت الصحيفة إلى أن تغيّب كوربن تعتبره الجالية اليهودية في بريطانيا تجاهلاً متعمداً، وهو ما يدعو إلى مزيد من التساؤل بشأن موقفه إزاء إسرائيل، حسب "التلغراف" التي لفتت إلى أن كوربن لديه صلات بجماعات فلسطينية تنكر حق إسرائيل، كما أنه وصف جماعات مناهضة لإسرائيل مثل "حماس" و"حزب الله" بالأصدقاء.بانكسي
على الضفة المقابلة للقاء ماي ونتنياهو، المصحوب بوفد إسرائيلي رفيع، وما يُحكى عن نقاش ملفات أبعد من الوعد ومنها محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي إقناع بريطانيا بتعديل موقفها من الاتفاق النووي الإيراني، كان الفنان البريطاني الشهير بانكسي يعتذر في فلسطين على طريقته. في احتفالية نظمها في بيت لحم، شارك فيها العديد من الأشخاص، كشف بانكسي عن عمله الجديد، لوحة تظهر الملكة إليزابيت الثانية إلى جانب كلمة واحدة "Sorry"."بلفور لن يرضى بذلك"
في حديثه لوكالة فرانس برس، عبّر رودريك بلفور، المنحدر من سلالة صاحب الوعد الشهير، قال إن منع الفلسطينيين المستمر من إقامة دولتهم "لن يرضي سلفه بلفور الكبير". "أنا واثق أن آرثور كان سيقول: هذا غير مقبول، لا بدّ أن يكون هناك المزيد من المساعدة للفلسطينيين"، أضاف رودريك. يحاجج البعض أن الوعد وحده لم يبن الدولة اليهودية، محاولين تخفيف المسؤولية عن اللورد بلفور، وبالتالي بريطانيا. يقولون إن عراقيل كثيرة أعقبت الوعد، عراقيل فلسطينية وبريطانية وحتى إسرائيلية. لكن جوناثان شنير، الباحث الذي ألف كتاباً حول رسالة الوعد، يقول إن الوعد يبقى في إطار المسؤولية عما وصلت إليه الأمور، حتى يومنا هذا. "الحركة الصهيونية ترى فيه حجر أساس لقيام دولة إسرائيل المعاصرة. وهم على حق في ذلك. الفلسطينيون والعرب يرون فيه حجر أساس لما تعرضوا له من سرقة وقهر... كل شيء ينبع من وعد بلفور"، حسب شنير. وغير بعيد عن ذاك الوعد، كانت جين كوربين تبحث عن آثار جدها لوالدتها ليوبولد إيمري في كتابة التاريخ. تقول جين إن جدها شارك في صياغة وعد بلفور، وتحديداً في الشق المتعلق بحماية حقوق الأغلبية الفلسطينية المدنية والدينية. تقول "بينما تواصل العنف في الأربعينيات، وبينما سعت بريطانيا إلى التخلص من المأزق الفلسطيني، كان على ليو أميري أن يتقبل حتمية تقسيم البلاد. ولكنه كان يعكف على حل للمشكلة، حسبما اكتشفت في متحف في القدس". وجدت جين في ذلك المتحف خارطة رسمها عام 1946 - تحمل عنوان خطة أيمري - تهدف إلى تقسيم فلسطين إلى قسمين يهودي وعربي. وكانت الخارطة تشبه إلى حد بعيد تلك التي جاءت بها خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947 والتي انتهى بموجبها الانتداب البريطاني وإنشاء دولة إسرائيل. برأيها "لم يظن ليو (إيمري) أن العنف سيندلع بالضرورة في فلسطين، وكان يعتقد أن ذلك نتج عن قرارات سياسية خاطئة وما يحمله التاريخ من أحداث دموية وغير متوقعة - كما اكتشفت بنفسي عقب التوقيع على اتفاقيات أوسلو".وعد الفيلسوف... وتجديد العهد
لم تكن لبلفور اهتمامات سياسية في بداية حياته، فقد انصرف في بداية مسيرته إلى الشعر والموسيقى، وذاع صيته في البداية باعتباره فيلسوفاً مهماً بعد نشره "دفاعاً عن فلسفة الشك" و"أسس الإيمان" و"التوحيد والإنسانية". عند دخوله المعترك السياسي، اعتبره كثر هاوياً، لكن الوعد الذي صاغه عاش طويلاً وكرسه كأبرز سياسي القرن الحالي. مات بلفور في العام 1932، قبل أن تبصر "دولة اليهود" النور بشكلها الحالي، لكن بلاده تحتفل بمئوية وعده اليوم بينما أكثر من 5 مليون فلسطيني مهجّرون في الشتات. وبينما كانت بريطانيا الرسمية تجدّد العهد بالبقاء على الوعد، نشرت صحيفة "الغارديان" رسالة للرئيس الفلسطيني يطالب فيها بالاعتذار، يقابلها رد للسفير الإسرائيلي في بريطانيا مارك ريجيف يحمل فيها العرب مسؤولية تجاهل كلام الشريف حسين عن ضرورة استقبال اليهود. كما يحملهم ريجيف مسؤولية "طمعهم" حين "رفضوا الاقتراح البريطاني في العام 1937، بإعطاء اليهود 15 في المئة من الأرض"، حسب قوله. هكذا سيستمر الجدل حول وعد بلفور، وسيحافظ الموقف البريطاني البراغماتي على دعوته المضي قدماً بمسيرة السلام، بينما تتابع تيريزا ماي زياراتها إلى دول عربية حليفة لإقناعهم بشراء الأسلحة من بلادها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...