بعد أيام قليلة من انتشار صورة الطفلة الرضيعة سحر، متجعدة البشرة، تائهة العينين من التعب حيث استسلمت لمرارة الحرب السورية، عادت الغوطة الشرقية في سوريا، والتي تقبع تحت الحصار، إلى واجهة الحدث. الخبر ليس بجديد، فالغوطة الشرقية محاصرة منذ ما يقارب الأربع سنوات، أما الحصار المطبق على المنطقة، فناهز الستة أشهر. هناك، وسط الدمار والحرب والحصار، تبرز قصة مركز طبي، تمسّك كادره حتى اليوم بالقدرة على الاستمرار، إلا أن انعدام وجود الدواء والمواد الأولية الطبية الأخرى بات يهدد استمراريته. تأسس مركز "دار الرحمة لمعالجة أمراض الدم والأورام"، منتصف عام 2013 في الغوطة الشرقية، هو المركز الوحيد، والذي يعتبر مجانياً في منطقة سورية غير خاضعة لسيطرة النظام.
يتابع المركز ما يقارب الـ1200 حالة ويعالجها، من الأعمار المختلفة، بين عجزة وأطفال، رجال ونساء، إلا أن الحصار الأخير المطبق على المنطقة وضع حياة 559 مريضاً منهم في خطر شديد، حيث إن المخزون الدوائي الذي كان كافياً ومتوافراً منذ 3 أشهر شارف على النفاد، ومع انعدام وجود سبل وطرائق لإدخال أي نوع من الأدوية، تبقى حياة هؤلاء رهن الاتفاقات السياسية والمعابر المغلقة. يشرح المسؤول الإعلامي لمركز دار الرحمة عمار الدوماني أن مخزون الدواء الذي كان كافياً ليتم تقسيمه على جرعات سينفد قريباً من مخازن المركز: "نعرف جيداً أن علاجات مرضى السرطان يجب أن تكون مستمرة وغير منقطعة في حالات معينة كي تكون فعالة. إن توقفنا عن إعطاء مريض جرعة واحدة، نخاطر بفقدان التقدم الإيجابي الذي أحرزه خلال سنة كاملة، وبذلك تكون علينا إعادة إعطاء عدد معين من الجرعات عند توافرها، وهو أمر لا ينصح به الأطباء في الحالات الموجودة في المركز". ويقول: "شهدنا خلال 3 سنوات 120 حالة وفاة وهي أرقام منطقية لأن السرطان مرض قاتل ونحن نعيش حرباً دموية أيضاً، إلا أننا فقدنا 20 شخصاً خلال 3 أشهر فقط منذ إطباق الحصار علينا في الشهر السابع من العام الحالي، وهو رقم كبير مقارنة بالسنوات الماضية". على الرغم من الأوضاع الاقتصادية السيئة والحصار، إلا أن المركز حقق منذ تأسيسه عام 2013 نسبة شفاء وصلت إلى 37 في المئة.
حصار داخل حصار
فصائل معارضة عدة أحكمت سيطرتها على الغوطة الشرقية منذ انطلاق الحراك الثوري السوري عام 2012، إلا أن النظام والميليشيات التي تدعمه لم تتردد يوماً في إغلاق المعابر والطرقات التي قد تساهم في نقل أي عتاد أو دعم طبي أو إنساني إلى المنطقة، والسبب كان طبيعة المعارك الحاصلة، بحسب النظام. موقع الغوطة الشرقية الاستراتيجي أيضاً، والذي تحيط به ثكنات عسكرية عدة جعل المنطقة في خطوط النار الأولى، ما يجعل الحصار محكماً أكثر من المحاور كافة. يقول سراج محمود، مدير مكتب الدفاع المدني (الخوذ البيض) في ريف دمشق أن السكان اسخدموا خلال السنوات الماضية طرائق مبتكرة عدة لنقل ما تحتاج إليه المنطقة من مواد، وتحديداً في مناطق القابون وبرزة اللتين شهدتا معارك مستمرة "الأنفاق كانت شريان الغوطة الأساسي"، يؤكد محمود الموجود اليوم في الغوطة الشرقية. حصار الغوطة الخانق بدأ يوم دخول بنود اتفاقية "خفض التصعيد العسكري" حيّز التنفيذ في تموز (يوليو) 2017، وهو أمر لم يحصل حيث إن استهداف المدنيين والقصف مستمران حتى اليوم، بحسب مكتب الدفاع المدني المحلي.حملة جديدة لكسر الحصار
يشرح محمود هدف الحملة التي انطلقت عبر شبكات التواصل منذ أيام ويرجّح أن تستمر، ويقول: "نطالب اليوم بفتح ممرات آمنة للمدنيين الذين يحتاجون إلى علاجات معينة بات أطباء الغوطة الشرقية غير قادرين على تأمينها"، ويضيف: "موضوع الحملة ليس فقط المطالبة بإدخال الأغذية الضرورية ووقف القصف والاستهداف، بل هو لأهداف طبية أيضاً، الدفاع المدني بات عاجزاً عن سد الثغرات وتأمين الحاجات الطبية كافة في المنطقة. إضافة إلى ذلك، كيف لسياراتنا أن تتحرك لنقل المصابين في حين أن المنطقة تفتقد المحروقات، والتي هي مادة أساسية لها"، يتساءل محمود. ويؤكد أن قدرة أطباء المنطقة على إجراء عمليات جراحية في ظل انعدام وجود مواد أولية طبية، بات أمراً شبه مستحيل، بخاصة أن القصف لم يتوقف، وانعدام وجود المحروقات يعيق تحرك الدفاع المدني لإنقاذ المدنيين. يأمل القائمون على حملة #الأسد_يحاصر_الغوطة بتحقيق مطالب إنسانية عدة أبرزها فتح ممرات آمنة لنقل الحالات الطبية المستعصية، إيقاف القصف والسيطرة على النزوح الداخلي الذي يحصل من مناطق معرضة للقصف إلى مناطق آمنة، ما يخلق أزمة سكنية في ظل انعدام وجود المنازل المهيأة لإيواء العائلات مع اقتراب فصل الشتاء.لا نريد التهجير لا نريد المغادرة
لم يغادر أبو يوسف دوما منذ الحصار الأول، وهو اليوم يحاول أن يتابع عمله بشكل طبيعي في ظروف غير طبيعية تحيط به وبعائلته، وعلى الرغم من ضيق الأحوال المادية إلا أن الرجل الستيني يصرّ على البقاء في مدينته: "لا أجد جدوى من مغادرة المنطقة اليوم، يكفي أن يتم إدخال المواد الغذائية والحاجات الأساسية لنا، ونحن قادرون على العيش في الغوطة بشكل عام، ودوما تحديداً". يقلق عدد كبير من سكان الغوطة الشرقية اليوم من إمكان إتباع النظام السوري خطة تهجير جديدة وتغيير ديموغرافي كامل تحت عنوان "فك الحصار ونقل المدنيين"، كما حصل خلال السنوات الماضية في مناطق سورية عدة أبرزها الوعر في حمص، وأحياء حلب المحررة المحاصرة، ومضايا والزبداني. يؤكد القائمون على مكتب الدفاع المدني في الغوطة أن التهجير الديموغرافي مرفوض وإصرارهم في الحملة على فك الحصار يتضمن إخراج المدنيين المرضى إلى مستشفيات في دمشق للعلاج، والتزام المنظمات الدولية بوعودها في إدخال المساعدات والدعم الإنساني. يقول محمود: "أهالي الغوطة أطلقوا الحملة لأسباب إنسانية، ولم يطلقوها ليغادروا الغوطة الشرقية أبداً".موقع استراتيجي وخيرات كثيرة
تقبع الغوطة الشرقية في دمشق تحت حصار منذ أكثر من 4 سنوات وعلى الرغم من مرور حوالى 3 أشهر على توقيع اتفاق مناطق خفض التصعيد الذي يشملها، إلا أن سكانها البالغ عددهم 350 ألف مدني لا يزالون يعانون من تدني مستوى الخدمات وانعدام وجود مواد غذائية. بحسب السكان المحليين الذين تواصل معهم موقع رصيف22 في الأشهر الماضية، لا يتعدى اليوم مستوى دخل الفرد الواحد 25 دولاراً شهرياً في الغوطة، أما سعر ربطة الخبز فهو 1200 ليرة سورية أي ما يعادل الـ3 دولارات أميركية، ووزنها لا يتعدى الكيلوغرام، وهي لا تحتوي حتى على المواد الغذائية الكاملة، حيث إنها تخلط بمواد أخرى مثل الشعير والذرة. قوافل المساعدات الإنسانية التي دخلت المنطقة في الشهر التاسع من العام الحالي، لم تصل نسبتها إلى 10 في المئة، وهي لم تسد الحاجات السكانية، كما أنها لم تصل إلى منطقة دوما كلّها، بحسب مدير مكتب الدفاع المدني في ريف دمشق. قافلة الهلال الأحمر والأمم المتحدة التي دخلت يومذاك وصلت إلى مديرا ومسرابا وحرستا، وهي عبارة عن 42 سيارة، وتحوي قرابة 5000 وجبة غذائية وطحيناً تم تقسيمها على الشكل الآتي: 2300 وجبة لمدينة حرستا، 1900 لمدينة مسرابا و600 وجبة لبلدة مديرا.لطالما اشتهرت الغوطة بكونها سهلاً ممتداً يحوي بساتين مليئة بالأشجار المثمرة والمزروعات، وتعتبر أرض الغوطة من أكثر الأراضي خصوبة. وتشتهر بجودة المياه التي تغذيها مجموعة من الأنهار الصغيرة من فروع نهر بردى، وتشتهر بفاكهتها الموسمية. إلا أن تلك الخيرات لم تكن كافية لسد حاجات السكان خلال السنوات الماضية مع حصار النظام واستهدافه بالمدفعية الحقول التي يمكن أن تنتج غذاء للسكان يؤمن استمراريتهم. اليوم، نسبة 80 في المئة من مرضى الغوطة، نساء وأطفال بحسب مركز الدفاع المدني المحلي، وهي حالات إنسانية لا علاقة لها بالحرب، ليست من المقاتلين، وهي اليوم بحاجة إلى علاج وغذاء وممرات آمنة، وهي حلول تأمل حملة #الأسد_يحاصر_الغوطة بإتمامها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...