فاجأ انسحاب قوات البيشمركة الكردية من المواقع التي كانت تتخذها مقارّ لها في كركوك الجميع. وأكثر الذين صُدموا بذلك هم عناصر في هذه القوة الكردية التي تعني "الفدائيين"، فظهر بعضهم وهو يبكي ويتهم قيادته بـ"الخيانة" لأنها أعطت أوامر بالانسحاب.
كانت توقعات كثيرة تشير إلى حدوث صدام عسكري بين القوات الأمنية الاتحادية وبين البيشمركة التابعة لإقليم كردستان، في حال تجاوزت الأولى أطراف مدينة كركوك المُتنازع عليها، لكن ذلك لم يحدث.
ورغم أن الانسحاب مثّل فاجعة بالنسبة لمقاتلي البيشمركة، فإن قيادات في القوة الكردية اعتبرت أن الانسحاب لم يكن قراراً خاطئاً.
وتبادلت الأطراف الكردية، وتحديداً البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني وتلك التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، الاتهامات في ما بينها.
بيشمركة بارزاني اتهمت نظيرتها الطالبانية بـ"الخيانة"، وردّت الأخيرة باتهام مسعود بارزاني بأنه "يريد الحرب من أجل البقاء مسيطراً على حقول النفط".
ويأتي ذلك في ظل شيوع معلومات غير واضحة عن وجود تنسيق بين الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، وبين الحكومة الاتحادية لاتخاذ إجراءات مضادة لبارزاني، ويُقال إن الوسيط في ذلك هو قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني.
ويعلق سعد الحديثي، المتحدث باسم المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي على دخول القوات الاتحادية إلى كركوك، قائلاً: "وجود القوات الاتحادية في كركوك طبيعي جداً، ولم يكن خارج أطر الدستور العراقي".
ويقول لرصيف22: "القوات الاتحادية ذهبت إلى كركوك بغية فرض سلطة القانون والحفاظ على ثروات العراقيين، ولم تذهب لمعاداة أيّ عراقي".
في المقابل، يرى النائب عن الحزب الديموقراطي الكردستاني محما خليل وجود تقصير من الحكومة الاتحادية في هذه الأزمة، ويقول لرصيف22 إن "إجراءات بغداد عمّقت الأزمة ولم تُسهم في حلها".
ويعتبر المحلل السياسي العراقي إحسان الشمري أن "الحكومة العراقية لم تتجاوز على أحد في الإقليم ولا غيره، بل طبقت القانون وعززت وجود قواتها في كركوك".
ويتوقع في حديث لرصيف22 أن "لا تتراجع الحكومة الاتحادية في بغداد عن موقفها بفرض القانون داخل كركوك واتخاذ موقف من التصرفات التي قام بها مسعود بارزاني مؤخراً بإجراء استفتاء رفضته حتى المحكمة الاتحادية".
ما هي نتائج الصدام العسكري؟
عندما وصلت أرتال القوات الأمنية العراقية في 13 أكتوبر إلى مشارف كركوك وأمهلت البيشمركة حتى الساعة 12:00 من ليل الأحد في 15 أكتوبر للانسحاب، دب القلق في نفوس أغلب العراقيين، تحديداً سكان كركوك الذين لم يرسموا أي سيناريو في مخيلتهم سوى الصدام العسكري وانتشار الجثث في الشوارع.رغم أن انسحاب البيشمركة من كركوك مثّل فاجعة لمقاتليها، اعتبرت قيادات كردية أنه قرار صحيح
أزمة كركوك... المؤشرات تدل على خسارة مسعود بارزاني الكبيرة، وانتصارات لخصومه في السليمانية وبغدادوقاد نائب رئيس إقليم كردستان العراق كوسرت رسول قوات البيشمركة في كركوك وعددها بحسب ما أعلن في وسائل الإعلام بين ثلاثة آلاف وعشرة آلاف مقاتل، استعداداً لمواجهة القوات الاتحادية. وفي المقابل، كانت القوات الاتحادية القادمة من بغداد مكونة من الجيش العراقي، الشرطة الاتحادية، جهاز مكافحة الإرهاب، قوات الرد السريع، بالإضافة إلى قوات من الحشد الشعبي، وهذا ما يرجّح كفتها إذا ما حدثت معارك، من ناحيتي العدة والعدد. ولكن الاصطدام بين القوتين كان محدوداً. ولحقت بقوات البيشمركة التي كانت بالقرب من مداخل محافظة كركوك، خسائر بشرية وصلت إلى 40 عنصراً بين قتيل وجريح بعد مواجهات مع قوات الحشد الشعبي التي دخلت مع القوات الاتحادية، في وقت تحدثت مصادر كردية عن تدمير آليات ومقتل عناصر من الحشد الشعبي. ولو استمرت الاشتباكات ولم تنسحب قوات البيشمركة، لكانت كركوك قد دخلت في أزمة عسكرية لم تدخلها من قبل، ولكانت الخسائر البشرية كبيرة من الطرفين. تتعدد أشكال الصراع في كركوك. فهناك صراع عربي-كردي، وتركماني-كردي، وسُني-شيعي، وتُركماني مع قوات حزب العمال الكردستاني PKK، وبيشمركة-حشد شعبي، ولو وقع القتال بين أي طرفين، فإن النار ستصل إلى بقية الأطراف. وبحسب ما هو متوافر من أعداد وأرقام، فإن الغلبة في أي قتال بين حكومتي المركز والإقليم ستكسبه الأولى. فالجيش العراقي يتكوّن من 17 فرقة عسكرية كل واحدة منها أربعة ألوية، وتنقسم هذه القوات إلى جوية وبرية وبحرية. أما قوات البيشمركة فمجموعها 375 ألف مقاتل، ولا تمتلك قوة جوية. هذا كله من دون احتساب أعداد جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي. ولكن طبعاً، ذلك ليس حاسماً، فالبيشمركة قوة عقائدية لها تجربة طويلة في القتال، وفي منطقة محددة جغرافية، لا تدخل كل هذه الأعداد في المعركة. المؤكد الوحيد أن أيّة معركة كانت لتكون قاسية ولن تتوقف قبل سقوط مئات القتلى.
هل تدخلت دول أخرى لتأمين انسحاب البيشمركة؟
لعبت الضغوط الإيرانية والتركية على حكومة إقليم كردستان العراق، دوراً في عملية الانسحاب من كركوك، بالإضافة إلى دور حكومة المركز. يتواجد قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني منذ أيام في إقليم كردستان، ويدور الحديث عن قيامه بوساطات لدفع الإقليم باتجاه الرضوخ لأوامر الحكومة الاتحادية والانسحاب من المناطق التي طلبت الانسحاب منها. وبحسب سامان نوح، وهو كاتب ومحلل سياسي من إقليم كردستان العراق، فإن "انسحاب قوات البيشمركة الكردية من مناطق سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني، تتم عبر اتفاقات وتفاهمات سريعة حول إدارة مشتركة لها، مثل جلولاء وخانقين ومناطق أخرى". ويضيف لرصيف22: "أما الانسحابات من مناطق سيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني، فتتم بلا تفاهمات وبلا اتفاقات على الإدارة المشتركة، مثل قضاءي سنجار ومخمور وربما في الساعات المقبلة سهل نينوى أيضاً". ويتحدث نوح عن "خطوط حمراء" وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص المناطق المتنازع عليها. لكن بحسب قوله، فإن "انهيار الأكراد وانقساماتهم وعدم وجود قيادة تسبب بانهيار تلك الخطوط". وجاء تحذير الولايات المتحدة لكلا الطرفين من التصعيد، بعد أن انسحبت قوات البيشمركة من المواقع التي حددتها الحكومة الاتحادية، وكأنها راضية ضمناً عن عودة القوات العراقية إلى المناطق المتنازع عليها، ولا تقبل بأي تجاوز إلى داخل حدود إقلم الكردستان التي يحددها الدستور العراقي. وبرأي إحسان الشمري "لا يعطي المجتمع الدولي ضمانات لبارزاني ولم يُعطه ضمانات أساساً، لأن كل الدول كانت ضد قرار الاستفتاء الذي اتخذه منفرداً" وسرعان ما دخلت تركيا على الخط بعد ساعات من دخول القوات الاتحادية إلى كركوك، بإعلان استعدادها للتعاون مع الحكومة العراقية للقضاء على مسلحي الـPKK، وذلك بعد تداول خبر عن استقدام البيشمركة لقوات من حزب العمال الكردستاني إلى كركوك، وهو ما اعتبرته بغداد "إعلان حرب".هل أضعفت بغداد موقف أربيل؟
لن تعود العلاقة بين القوات الأمنية الاتحادية وقوات البيشمركة مثلما كانت، رغم أنها لم تكن مثالية، فتقبّل كل من الطرفين وجود الآخر في نقاط التقائهما في المناطق المتنازع عليها كان على مضض. وبرزت قوة القوات الاتحادية بعد انسحاب البيشمركة من كركوك، واتضح تضعضع صفوف "الفدائيين الأكراد"، وما حصل أعاد التذكير بمشهد بكاء بعض الجنود العراقيين عندما انهزم الجيش العراقي على يد الولايات المتحدة الأمريكية في الكويت عام 1991. يقول المحلل السياسي الكردي هوشيار مالو لرصيف22 إن "الحكومة العراقية لم تكن موفقة في التعامل مع هذه الأزمة، وكنا نتمنى أن يكون العبادي مختلفاً عن سلفه، لكنه يتخذ مبررات مشابهة لتلك التي اتخذها (رئيس الحكومة العراقية السابق) نوري المالكي عندما تعامل مع السنة في أيام حكمه". قد يكون موقف الحكومة الاتحادية في المستقبل أقوى مما كان عليه حتى في التوقعات، وربما لن يقف أثر ذلك عند الحد العسكري بل سيتجاوزه إلى الاقتصاد والسياسة. فما ظهر عليه بارزاني وبعض قادة الأكراد من قوة خلال الفترات السابقة، حدث ما يخالفه الآن. تقول النائبة الكردية عن الاتحاد الوطني الكردستاني، ريزان الشيخ، إن "بارزاني أخذ الإقليم إلى مرحلة الضعف، وأدخله في أزمات يُفترض الابتعاد عنها، وحطّم آمال وأحلام الأكراد بالدولة الكردية". وتضيف لرصيف22 أن "التصعيد الذي مارسه بارزاني أظهر ضعفه وليس قوته، وهذا كله انعكس على الإقليم بشكل عام". ويقول الباحث في الشأن العراقي يوسف إبراهيم لرصيف22 إن "العبادي أظهر ضبط نفس عالٍ خلال الأيام القليلة الماضية، وحتى خلال دخول القوات العراقية إلى كركوك، ولا مصلحة له بتصعيد كبير قد يؤدي إلى الاشتباك مع قوات من البيشمركة". كثيرون يرون أن الحكومة الاتحادية التي يترأسها حيدر العبادي تتعامل بروية وهدوء مع أزمة الإقليم، ولا يتوقعون منها أن تتخذ خطوات تصعيدية تقضي على "حلاوة التراجع الكردي". فلكل تفصيل في مواجهة بغداد وأربيل حساباته وأي تهوّر ينطلق مما حصل في كركوك لكسب المزيد قد يقلب المشهد ويذيق الحكومة "مرارة الانكسار".نشوة "الانتصار" والمناطق المتنازع عليها
نشوة "الانتصار" المتحقق لدى القوات الاتحادية العراقية وإجبارها على دفع قوات البيشمركة للعودة إلى الخلف، لن تنتهي الآن ولا حتى بعد سنوات، فالجميع سينظرون إلى الأولى على أنها منتصرة وإلى الثانية على أنها مهزومة. ستكون البيشمركة موجودة في نقاط التقاء مع القوات الاتحادية على حدود محافظات الإقليم، وربما لن تكون لدى البيشمركة الجرأة على اعتبار نفسها نظيرة أو خصماً للقوات الاتحادية، مثلما كان الحال في السابق. وبعدما ضعف دور أربيل في هذه الأزمة، صارت وجهة الحكومة الاتحادية نحو السليمانية، عاصمة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني التي ستتخذ دور المفاوض في ما يخص المناطق المتنازع عليها، وستحصل على إدارة مشتركة لما تريد من مناطق ما يساهم في إضعاف نفوذ خصمها مسعود بارزاني. خسر مسعود بارزاني السيطرة على نحو 18 وحدة إدارية كان قد سيطر عليها في مناطق سهل نينوى بعد تحريرها من تنظيم داعش، وهذه المناطق كانت ضمن خارطة الدولة الكردية المنتظرة، لكن القوات الاتحادية استعادتها مجدداً. ووفق ما يتوافر من مؤشرات، كانت خسارة مسعود بارزاني كبيرة، وقابلتها انتصارات لخصومه الأكراد في السليمانية وفي حكومة بغداد، وهذا ما سيخلق تحالفاً جديداً بين الأحزاب الشيعية والاتحاد الوطني الكردستاني الذي تقوده زوجة الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني ونجلاه قوباد وبافل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...