وسط الكمّ الهائل من المنتجات المعروضة في السوبرماركت، يقف المرء حائراً أمام الماركات المختلفة، وتبدأ الأسئلة الكثيرة تحتشد في ذهنه: أي مسحوق غسيل يزيل البقع المستعصية؟ أي ماركة معلبات هي "الأطيب"؟ أي كيس طحين أو سكر أو أرز هو "الأنسب"؟ أي نبيذ هو "الأفضل"؟
للوهلة الأولى قد تمتدّ يد المستهلك الى المنتج الأرخص بغية توفير المال خاصة أن الأوضاع المعيشية باتت صعبة في هذه الأيام، إلا أن البعض سرعان ما يبّدلون رأيهم ويتمسكون بالمنتج الأغلى ثمناً ظناً منهم أنه "الأفضل" و"الأضمن".
لماذا "نخشى" السلع الرخيصة؟ وما هي الفلسفة الكامنة وراء الحرص على شراء المنتج الأغلى ثمناً؟
كيف نتغلب على هذا السلوك الشرائي؟
السلع الرخيصة أقل شأنا من غيرها؟
بالرغم من طغيان منطق التنافس في السوق التجاري ووجود منتجات عديدة ذات جودة عالية وبسعر مقبول، فلا تزال هناك "شهية" ملحوظة لدى غالبية الناس لشراء المنتج الأعلى سعراً من غيره وكأن القطاع الفاخر يتحدى بذلك المنطق الاقتصادي. فلنفترض مثلاً أننا نريد شراء أثاث جديد وتوفرت لدينا الأموال الكافية لابتياع ما يحلو لنا من القطع المنزلية، فسنجد أنفسنا أمام خيارين: شراء قطعة بـ100$ أو أخرى تحمل المواصفات نفسها بـ200$. بعيدا، عن الحسابات العقلانية والمنطقية، فإن الغالبية ستختار القطعة الأغلى ثمناً ظناً منها أنها تشتري بذلك "راحة البال"، مع العلم أن البضاعة الأرخص قد تكون ذات جودة أعلى من البضاعة الأخرى. ولا يقتصر المنطق الشرائي هذا على السلع الفاخرة أو "اللوكس" إنما قد يطبق على أمور حياتية يومية: تفضيل المطعم الأفخم والاعتقاد المسبق بأن التجربة فيه ستكون ألذ من المطعم المتواضع، شراء قنينة "نبيذ" باهظة الثمن والشعور بلذة لا تضاهى مع كل رشفة منها، ابتياع الخضار والفاكهة من التاجر المعروف بأسعاره النارية بحجة "الطبخ عالأصول". ويوضح موقع "بي بي سي" أن منطق تفضيل الأمور بحسب سعرها قد ينطبق أيضا على الشق الصحي ويؤثر على الحالة النفسية للمريض، فأمام دواءين لديهما نفس التركيبة يصرّ المريض على شراء الدواء الأغلى ثمناً لاعتقاده بأنه سيتماثل الشفاء بوقت أسرع. من هنا يبرز السؤال التالي: لماذا نربط الأسعار الرخيصة بانخفاض الجودة؟ من الصعب تجاهل مسألة إقران سعر البضائع بقيمتها، فإذا تعمقنا في تاريخ البشرية، نجد أنه لطالما كان هناك ارتباط قوي بين الكلفة والقيمة: كلما كان السعر مرتفعاً، كانت السلعة أفضل. هذا الأمر كان مبرراً في الماضي لأنه بكل بساطة لم يكن من الممكن العثور على سلع رخيصة ذات جودة عالية، فالبضائع "الجيدة" كانت تصنع يدوياً من قبل حرفيين مع حرصهم على استخدام المواد الخام التي كان يصعب نقلها. وقد استمرت هذه العلاقة بين السعر والقيمة حتى الثورة الصناعية إذ استفاد الناس من التكنولوجيا والأساليب الجديدة لتنظيم القوى العاملة وقاموا بإنتاج سلع عالية الجودة بأسعار رخيصة، ومع ذلك لم يتغير السلوك الشرائي ولا الأفكار النمطية."الأناناس" يغير المنطق الشرائي
اعتادت عقولنا على التفكير دوماً بأن السلع الثمينة هي التي تتميز بنوعية أفضل وتضاهي السلع الأخرى جودةً ومتانة. غير أن هذا المنطق الشرائي الذي كان سائداً قبل الثورة الصناعية لم يعد ينطبق في عصرنا الراهن، وفق ما يؤكده موقع "ابارتمنت ثيرابي". ولشرح هذه النظرية، نشر الموقع فيديو قصيراً عن رحلة فاكهة "الأناناس" وتطور نظرة الناس إليها مع مرور الوقت. ويكشف الفيديو كيف أن كريستوف كولومبوس هو أول شخص أوروبي سعى الى إحضار هذه الفاكهة التي أسرته بطعمها المميز، فبعد أن وصل الى منطقة الكاريبي حصل "اللقاء" الأول بين الأوروبيين والأناناس في نوفمبر 1493. ولكن الفرحة لم تكتمل إذ اتضح وجود مشكلة أساسية تكمن في صعوبة نقل هذه الفاكهة أو حتى زرعها نظراً للكلفة المترتبة، وبالتالي حظيت الطبقة الحاكمة فقط على فرصة تذوق "الأناناس" الذي وصل سعره الى 5000 جنيه إسترليني (6500$)، فأضحت هذه الفاكهة رمزاً للمكانة الإجتماعية. وفي منتصف القرن الثامن عشر، وصل الجنون والهوس بالأناناس الى ذروته، إذ تم تنظيم أمسيات أرستقراطية حول هذه الفاكهة، وقام البعض بتأليف قصائد تتغنى بهذه الفاكهة، إضافة الى تشييد عدة عمارات هندسية لتكريم الأناناس. ولم يستمر "تأليه" الأناناس لوقت طويل، فمع نهاية القرن التاسع عشر تم زرع أراض شاسعة من الأناناس في هاواي، وبفضل التقدم الكبير الذي أحرزته تكنولوجيا السفن البخارية، انخفضت كلفة الإنتاج والنقل، وبات "الأناناس" بمتناول العامة خاصة أن سعره قد انخفض الى 1.5 جنيه إسترليني، مما ساهم في تغيير نظرة الناس إليه: صحيح أن طعم "الأناناس" لم يتغيّر بين الأمس واليوم، إلا أن هذه الفاكهة فقدت بريقها في العالم نتيجة انخفاض سعرها. ومن خلال مسيرة "الأناناس" عبر التاريخ يتوضح السلوك الشرائي لدى الأفراد ومفهوم انجذاب الناس نحو السلع الثمينة دون سواها، إضافة إلى التداخل الغريب ما بين الحب والاقتصاد: عندما ندفع مبالغ طائلة على شيء معيّن، فإننا نقدره الى أقصى حد، ولكن مع انخفاض سعره في السوق تتلاشى فوراً رغبتنا فيه. بالرغم من أن سعر المنتج لا يعتبر أفضل مؤشر لقيمته، ومع ذلك لم نزل نسمح لأسعار المنتجات أن تتحكم بعقولنا وتحدد لنا طريقة تفكيرنا تجاه الخيارات المعروضة في السوق، خاصة أنه كلما كانت أسعار المنتج أعلى، ازدادت حماستنا لابتياعه من باب تعزيز مكانتنا الاجتماعية.كيف نحسّن السلوك الشرائي ؟
يمكن القول إن مأساة علاقتنا بالمال تتلخص في ترجيح كفة الأشياء الثمينة، ففي الكثير من الأحيان نصاب بخيبة أمل كبيرة جرّاء عدم تمكننا من ابتياع سلع باهظة الثمن ونشعر حينها أن حياتنا حزينة ومملة، وننسى كل الأشياء الجميلة التي هي بمتناول يدنا ولا نلاحظها إلا بعد زوالها. وللخروج من هذه الدائرة الضيقة، يجب بذل المزيد من الجهد لتحديد تقويمنا الخاص للأشياء بغض النظر عن سعرها وكلفتها المادية، فإذا كنتم تجدون مثلاً أن أريكتكم المتواضعة تؤدي عملها بشكل مطلوب وتمنحكم الراحة اللازمة، فعندها يجب أن تنظروا إليها على أنها بنفس قيمة الأريكة الثانية التي سعرها يفوق سعر القديمة بـ10 مرات. باختصار إذا أردتم أن تغيّروا نظرتكم إلى الأمور، فيجب أن تضعوا أنفسكم في عقل طفل صغير لا يتجاوز عمره الـ4 سنوات، طفل بإمكانه أن يمرح باللعب والقفز تحت المطر وتغمره فرحة لا توصف وكأن أموال العالم لا تساوي شيئاً تجاه الملذات التي يشعر بها. إذا راقبتم تصرفات الأطفال جيداً لوجدتم أنهم لا يهتمون على الإطلاق بأسعار الألعاب، إنما تعنيهم اللذة التي قد يحصلون عليها من هذه اللعبة أو تلك. فقد يعجبهم غلاف لعبة "مفذلكة" ومصنوعة في أفخر المدن، أكثر مما تعجبهم اللعبة بحد ذاتها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...