"الموسيقى دواء لأمراض الجسد والروح والعاطفة"، قالها الفيلسوف وعالم الرياضيات اليوناني فيثاغورس منذ قرون قبل الميلاد. لم يكن يعرف أن فلسفته ستترجم يوماً ليصبح العلاج بالموسيقى مهنة أكاديمية تعرفها كثير من بلدان العالم.
ولأن الموسيقى همزة الوصل بين الشعوب، التي لا تعرف الحدود أو السياسات، نجحت بنات البحر الكاريبي، العازفات البنميات، في نقل خبراتهن للمرة الأولى في مجال العلاج الموسيقي لحفيدات إيزيس، لتتلاحق الثقافات وتتجدد على أرض مصر.
100 فتاة مصرية تلقين ورشة عمل عن العلاج بالموسيقى، على هامش مشاركة فرقة بنما في مهرجان القاهرة الدولي لموسيقى الجاز في دورته التاسعة.
في أجواء مدهشة، امتزجت فيها الألحان البنمية مع أغاني التراث المصرية مثل "بتناديني تاني ليه"، وقرعت إحدى الفتيات الطبلة بمصاحبة غناء المطربة البنمية لـDespacito .
https://youtu.be/mhMBvzisISo
مناضلات رغم قسوة الظروف
"الستات المصريات بطلات رغم الظروف الصعبة وضغوط المجتمع عليهن، بدءاً من طريقة اللباس والكلام والعمل. يكفي التحرش الجنسي المنتشر بالشوارع، فهن مبتسمات دائماً، مناضلات رغم قسوة الحياة، صانعات للبهجة والأمل. لذا احترمهن كثيراً"، بلكنة مصرية تونسية اكتبستها لسنوات عمل قضتها بين البلدين، تبدأ هايدي ريتا بياريال الملحق الثقافي لسفارة بنما بالقاهرة، حديثها لرصيف22. وتضيف "فكرة مشروع دعم وتمكين 100 امرأة مصرية بالموسيقى، تعود لخبرة العازفات البنميات اللواتي شاركن في مهرجان القاهرة الدولي للجاز عبر مشروع الجاز الأفريقي panafricanjazz، فتتبع فرقة بنما للموسيقى جمعية دانيلوبيرز، الناشطة في مجال التنمية الاجتماعية والتغيير عبر الموسيقى والفن منذ 15 عاماً". وتوضح: "العازفات البنميات نجحن فى تقديم ورش عمل ومحاضرات، بل قمن بالعلاج الموسيقى في جامعات عديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، كولومبيا، كوبا، وآسيا. وتم اختيار مصر هذا العام بمناسبة مهرجان الجاز، ولتحقيق تبادل ثقافي وربط الموسيقيات البنميات بنساء مصر".الفن الأقل تكلفة والأكثر تأثيراً للتغيير
تقول الدكتورة هدى بدران رئيس الاتحاد العام لنساء مصر: "أصبحنا نفكر خارج الصندوق، ونختار الأقل كلفة والأكثر تأثيراً، وهو الفن ودوره المهم في التنمية المستدامة، إذ كشفت الدراسات أن هناك ميزانيات ضخمة أنفقت على التوعية من خلال المؤتمرات والنقاش بالقاعات المكيفة، ولكن لم تعط أي نتيجة إيجابية كما أثبته الفن كأداة للتغيير، من خلال مسرحية أو أغنية، تلف المحافظات والقرى وتؤثر في الملايين من المواطنين". تُكمل: "ولأن الموسيقى إحدى أدوات الفن السريعة التغيير، نتعاون هذا العام مع فرقة بنما ومؤسسة دانيلوبيرز في مشروع (الموسيقى تدعم النساء)، في ضوء عمل الاتحاد على برنامج الثقافة والمسرح ضد التمييز، قبل ثلاثة أعوام بالشراكة مع وزارتي الثقافة والشباب والرياضة المصرية، وجامعة القاهرة". وتضيف: "المشروع يحفز الشباب لاستغلال هواياته الفنية، في تغيير الأفكار الخاطئة الشائعة بشأن العنف والتمييز ضد النساء، وتبرير التحرش الجنسي، بالإضافة إلى قضايا نسائية أخرى".ما معنى تمكين النساء بالموسيقى؟
وتؤكد بدران: "أثبتت الدراسات أن سماع أنواع معينة من الموسيقى، بتوصية الطبيب والمعالج الموسيقي، يساهم في تقليل التوتر والتأثير على كيماويات الدم، ويقلل من تعاطي النساء للأدوية. فالعلاج بالموسيقى من أبرز الوسائل لتخيفض حالات الطلاق، لأن الموسيقى تقلل من التوتر والانفعال، وبالتالي تختفي معه المشكلات الاجتماعية المصاحبة، من العنف الأسري وضرب الزوجات والأطفال. العلاج بالموسيقى خصوصاً للنساء اللواتي يواجهن ضغوطاً في الحياة ويتحملن مسؤوليات متعددة، يساعدهن على صحة نفسية سليمة، خالية من الاكتئاب والعنف النفسي والجسدي". https://youtu.be/yNL8n2UlSaw تكشف بدران لرصيف22 أنها تخاطب الجهات الرسمية كوزارة الصحة والسكان، لنقل خبرات التجربة البنمية في العلاج بالموسيقى في مصر للمرة الأولى، من خلال المستشفيات ووحدات العلاج الصحي، وأن يصبح الفن والموسيقى جزءاً من الخدمات الصحية للمواطن، خصوصاً النساء الأكثر معاناة، كإحدى الوسائل المهمة في التنمية المستدامة والاجتماعية والاقتصادية". وتؤكد أن الفن لصيق بالاقتصاد، فكلما كانت الصحة النفسية للفرد سليمة، زادت إنتاجيته في العمل، فالعلاج بالموسيقى دعوة للحياة والعمل والأمل للجميع.نساء بنما ومصر يعانين السيطرة الذكورية
تقول أليدا، الناشطة النسوية في مؤسسة "دانيلوبيرز": "جئنا إلى مصر لنقل خبرات نساء بنما في تحدي صعوبات المجتمع، من خلال العازفات، إذ يشبه المجتمع البنمي المصري جداً فى السيطرة الذكورية والعادات والتقاليد، التي تعتبر الرجل هو الراعي الأول للأسرة، والمسؤول عن الإنفاق والعمل". وتضيف: "مؤسسة دانيلو بيرز مهتمة بتمكين النساء بواسطة الفن، خصوصاً الموسيقى للتغلب على المشكلات التي تواجههن. فالموسيقى تساعدنا كنساء للعبور في الحياة للأفضل، ونتغلب على نقص العدالة الاجتماعية التى تعاني منها نساء دول العالم الثالث".أن تكونى أماً وزوجة وعازفة موسيقية أمر صعب في بنما ومصر
"أستطيع أن أقول بكل ثقة إن عمري 47 سنة، والموسيقى جعلتني شخصية أفضل، وأنتبه لكل ما هو جميل فيها. قرار دارسة الموسيقى كان صعباً، ولكن نجحت في تجاوزه، حتى التحقت بصفوف السيمفونية الوطنية في بنما بسن 13 عاماً. ثم اقتناص منحة لكلاسب الثاني توماس جيفرسون، والحصول على درجة الماجيستير في أداء الكمان والتربية من جامعة إلينوي في الولايات المتحدة الأمريكية". https://youtu.be/ipdViiwxshU تحكي غراسيلا نونيز، إحدى عازفات الكمان من المشهد الموسيقي البنمي، وعضوة في فرقة بنما: "عزف امرأة على آلة الكمان كان جديداً في بنما، فهو تخصص للرجال دائماً، ولكن إصراري على التعلم والتدريب المستمرين، وتحدي هذه الصورة النمطية، ساعدني لتمثيل بنما في مهرجانات دولية عديدة بأمريكا، وكولومبيا، وكوستاريكا، وأن أكون محاضرة ومعلمة كمان في جامعة بنما الوطنية، وعدد من الجامعات الأمريكية". تؤكد نونيز أن الموسيقى وسيلة مهمة لتمكين ونجاح النساء، رغم مسؤولياتهن بين تربية الأطفال ورعاية الأسرة، فالموسيقى هي التي تمنحهن الهدوء والاسترخاء النفسي لاستكمال نضالهن اليومي خارج وداخل المنزل. قدمت نونيز خلال ورشة العمل، التي حضرتها 100 امرأة مصرية، عدداً من التمارين المرتبطة باستخدام الموسيقى للعلاج من الضغوط اليومية التي تواجههن في حياتهن، من خلال تدريبات على الاسترخاء وتنظيم حركة التنفس، والاستماع والتفاعل مع المقطوعات الموسيقية فقط.الموسيقى تعطي النساء قوة
"الموسيقى هي وسيلتنا للوصول إلى السماء، تخلق حالة روحية كبيرة بين أنفسنا وكل ما يحيط بنا من الطبيعة والأشخاص والعالم، الموسيقى تعطي النساء قوة في كل مكان، هي التي ساعدتني لأصبح إنسانة، مدفوعة لمساعدة كل من يحيط بي، إذ كل ما يريده الشخص أن يتعلم الموسيقى ويشارك الآخرين ويتأثر بها"، تقول ليواز زاراتي، مغنية السوبرانو وعازفة الغيتار بفرقة بنما للجاز. وتضيف: "لم أكن أتوقع هذا الشغف لفتيات محجبات مسلمات من المنيا والاسكندرية يلعبن الموسيقى، ويحملن آلات ويصدحن بالغناء بانطلاق واندفاع، وهي صورة مختلفة تماماً عما توقعت عن وضع النساء بمصر، وأن هناك محاذير وعادات وتقاليد تمنع انخراطهن في المجال الفني الموسيقي لاعتبارات دينية أو أخلاقية". وتوضح: "النساء يتحملن مصاعب كثيرة في أن يصبحن قويات، أنا شخصياً لم أجد دعماً كافياً لأصبح موسيقية مشهورة الآن، وأشارك في حفلات مع موسيقيين عالميين، فالمجتمع البنمي ذكوري ويشبه المصري إلى حد كبير، يرفض النساء الناجحات، يضع علينا وحدنا مسؤولية تربية الأولاد وأن نكون زوجات صالحات وطاهيات مميزات، أن تكوني أماً وموسيقية في الوقت نفسه صعب جداً، يحتاج هذا لكفاح طويل وصبر". على أنغام غيتارها وغنائها، تنطلق زاراتي: "رسالتي كامرأة لسيدات مصر... لا تتوقفن أبداً، لا تدعن أحداً يسيطر على طموحاتكن، تمسكن بموهبتكن، اتبعن أحلامكن كفراشات في عنان السماء".هن الحلقة الاضعف في المجتمع والموسيقى طوق النجاة
أما عن دور الموسيقى في تمكين النساء، فترى باتريشيا زاراتي، مديرة مهرجان بنما للجاز وعازفة الساكسفون، أن المراة هي دوماً الحلقة الأضعف التي تقع عليها الضغوط، سواء في العمل أو البيت. العلاج بالموسيقى يخفف من توتر النساء والانفعال المصاحب لمسؤوليات متعددة، لإرضاء الأطفال والزوج، ونمارس العلاج بالموسيقى مع كل الفئات من النساء سواء المهتمات بالموسيقى أو ربات البيوت، في قاعات درس أو الشارع أو الحديقة، لمدة محددة من الاستماع للموسيقى بطريقة متخصصة. تؤكد زاراتي أن المعالج الموسيقي لا يشترط أن يكون عازفاً، ولكن يجب أن يطّلع على كل العلوم كالطب والموسيقى، وأن يتعاون مع طبيب متخصص في مهمته، مشيرةً إلى أن العلاج بالموسيقى طريقة غير دوائية للحد من الألم النفسي أو العضوي، وتقلل الإجهاد، وتحفز الحواس، وتعمل على طمأنة الشخص وتساهم في نجاح علاقاته الاجتماعية بالآخرين. وتُكمل أنها فوجئت بالفتيات المصريات منفتحات على الفن والغناء، ما ساعد على نجاح ورشة العمل الخاصة بتمكينهن بالموسيقى من خلال عزف أغانٍ مصرية ولاتينية في هارموني شديد الإبداع، عزفن على الغيتار والكمان موسيقى مصاحبة لأغنية تراثية مصرية اسمها "بتناديني تاني ليه"، وكذلك الأمر، عزفت إحدى الفتيات على الطبلة بمصاحبة "ليواز" لأغنية despacito الأشهر خلال الفترة الأخيرة. وتقول علياء (22 عاماً)، إحدى المشاركات في ورشة العلاج بالموسيقى، وهي من المنيا، محافظة تقع جنوب مصر، إنها تعلمت الكثير من العازفات الموسيقيات مثل الثقة بالنفس والإيمان بموهبتها، وأن تخوض معركتها مع عائلتها التي ترفض انخراطها في الغناء، نظراً للأصول والعادات الصعيدية التي تنتمي إليها. "الغناء يمنحني طاقة إيجابية، حين أغني أشعر أنني قوية وموجودة. ورغم كل الرفض الذي نعانيه من أن صوت المرأة عورة، والغناء حرام، لا أشعر بخطأ ما أفعله، أتمنى أن يدرك المجتمع المصري أن الموسيقى أصبحت علاجاً، حتى تنتشر التجربة البنمية في الجامعات والمستشفيات، تقول أمنية فاضل (21 عاماً)، طالبة في الفرقة الثالثة حقوق جامعة القاهرة. أما سها علي، وهي معلمة رياض أطفال من المنيا، فتقول: "شعرت بطاقة إيجابية وإحساس بالطيران بعد انتهاء ورشة العمل مع الفرقة البنمية، سأكرر التجربة مع عائلتي لنكون أفضل وفي حالة مزاجية مستقرة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...