عرف العرب منذ القدم أن للموسيقى دوراً مهماً في علاج الأمراض النفسية والجسدية، واستخدموها في تطبيب المرضى النفسيين والمصابين بما أسموه "علل العته العقلي" بل وبأمراض عضوية.
وكان أبو نصر محمد الفارابي أول مَن استخدم الموسيقى في العلاج النفسي. وبلور هذا الفيلسوف والطبيب العربي رؤيته في مؤلفات عديدة، منها "كتاب الموسيقى الكبير" و"إحصاء الإيقاعات"، كما ذكر الدكتور عبد الباقي السيد أستاذ التاريخ الإسلامي لرصيف22.
كان الفارابي فيلسوفاً في الأساس، ولكن علوم عصره شهدت مزجاً بين الفلسفة وعلوم النفس والرياضيات والطب.
ولم تكن الموسيقى تُعزف للمرضى في البيمارستانات (المستشفيات) التي تستخدم هذا الأسلوب في العلاج بطريقة واحدة، بل كان العازفون يعزفون مقامات مختلفة بحسب حالة كل مريض، إذ هناك مَن يتأثر بمقام الحجاز وآخر بمقام الكرد وهكذا، كما شرح العازف والمغني الجزائري بدر الدين قطاف لرصيف22.
INSIDE_MusicTherapy_ibnsina آلة موسيقية يٌنسب اختراعها لابن سينا[/caption]
ذهب ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (980 – 1037م) في كتابه "القانون في الطب" إلى أن في الموسيقى علاجاً لعدد من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان، مثل المالنخوليا التي يصاب صاحبها بأعراض منها الإفراط فى التفكير، ودوام الوسوسة، والنظر الدائم إلى الشيء الواحد، وهذيان الكلام، والخوف من أشياء لا تخيف في العادة مثل سقوط السماء عليه، أو ابتلاع الأرض إياه.
وذكر ابن سينا قائمة من العلاجات لهذا المرض أهمها تطريب المريض بالسماع إلى الموسيقى والمطربات، باعتبارها أشياء مهمة يمكن أن تشغله عن الفراغ والخلوة والتفكير المبالغ فيه.
مرض آخر تحدث عنه ابن سينا ويسمى القطرب، وي جعل مَن يصاب به يفرّ من الناس الأحياء، ويحب مجاورة الموتى والمقابر، ويظهر ليلاً ويختفي نهاراً، ويكون في غاية العبوس والحزن. وشرح ابن سينا أن هذا المرض سمي بالقطرب لأن صاحبه دائم الهروب بلا نظام كما أن مشيه مختلف، ووصف قائمة لعلاجه منها السماع والطرب.
واعتبر ابن سينا أنه يجب تخصيص بعض النغمات لفترات معينة من النهار والليل، ففي الصبح الكاذب يجب عزف نغمة "رهاوي"، وفي الصبح الصادق "حُسينى"، وفي الشروق "راست"، وفي الضحى "بوسليك"، وفي نصف النهار "زَنكولا"، وفي الظهر "عُشّاق"، وبين الصلاتين "حِجاز"، وفي العصر "عِراق"، وفي الغروب "أصفهان"، وفي المغرب "نَوى"، وفي العشاء "بُزُرك"، وعند النوم "مخالف".
ورمى ابن سينا من خلال تقسيمه الزمني لاستعمال النغمات الموسيقية إلى أن الإنسان يمرّ بحالات نفسية مختلفة بل ومتناقضة أحياناً في اليوم الواحد تبعاً لظروف حياته ونمط معيشته من الاستيقاظ حتى النوم، حسبما ذكر الباحثان.
ولم يقصر ابن سينا نصحه بالغناء والموسيقى على المصابين بآفات عقلية أو نفسية، فقد أوصى بهما أيضاً لتسكين الأوجاع، والمساعدة على النوم، وعلاج حميات اليوم (العرضية)، والحمى الغضبة.
وبحسب الباحثين، "كان ابن سينا يرى أن في النبض طبيعة موسيقية، وأنه ذو نسبة إيقاعية في السرعة والتواتر، لذا حدد لكل وقت من أوقات الليل والنهار نغمته الخاصة به".
ووفقاً للباحثين، فإن داود الإنطاكي (1534 – 1592)، وكان عالماً بالطب والأدب، أكد أهمية استخدام الموسيقى في علاج الجنون والحميات الحارة، وفي علاج الاختلاج (مرض خاص بالجهاز العصبي ويصاب صاحبه بخلل في الحركات الإرادية) والارتعاش.
بيمارستان قلاوون في القاهرة
INSIDE_MusicTherapy_qalawoon
بيمارستان النوري في دمشق
في سنة (549هـ/ 1154م) شيّد نور الدين بن زنكي (حكم حلب بعد وفاة والده سنة 541 هـ، وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي) بيمارستاناً في دمشق أوقفه على الفقراء دون الأغنياء، إلا إذا لم يجد الأغنياء دواءً لعللهم في غير هذا البيمارستان. وذكرت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة في محاضرة ألقتها قديماً في فناء هذا البيمارستان، أن المريض فيه كان يحظى بعلاج خاص، في عيادات متخصصة شديدة المراقبة، أو في أقسام الأمراض العصبية التي كانت المعالجات فيها دقيقة وحكيمة، تجرى من قبل أخصائيين، بوسائل أقرب إلى وسائلنا العصرية، كالخضوع للمنوم الصحي، واستخدام الموسيقى، حسبما ذكر الدكتور أحمد فؤاد باشا في بحثه المعنون "المؤسسات العلمية والتعليمية في عصر الحضارة الإسلامية" والوارد في كتاب "المؤسسية في الإسلام".بذل العرب قديما جهدا أكاديميا مميزا في العلاج بالموسيقى، فقسموا النغمات والأوتار حسب تأثيرها على أعضاء الجسم
الفكرة السائدة أن العلاج بالموسيقى موضة عصرية، ولكن العرب قديماً استخدموا الموسيقى في المستشفيات
بيمارستان أرغون الكاملي في حلب
INSIDE_MusicTherapy_argun
أنشأه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي سنة 755هـ. وذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه "تاريخ البيمارستانات في الإسلام" أنه كان يحتوي على حجرة مخصصة لعلاج المجانين، وكان القائمون عليه يأتون بآلات الطرب وبالمغنين فيداوون المرضى بها.
بيمارستان سيدي فرج في فاس
INSIDE_MusicTherapy_sidifrej
بيمارستان مراكش
أنشأه منصور الموحدي (ثالث حكام الموحدين في بلاد المغرب وحكم بين عامي 1184- 1199هـ). وبحسب السيد استخدمت فيه الموسيقى لعلاج المرضى والترويح عنهم.جهد أكاديمي قديم
قسّم يعقوب بن إسحاق الكندي (801 - 873م) النغمات والأوتار والإيقاعات، وفقاً لتأثيرها على أعضاء الجسم، وقال إن بعضها يجلب الفرح والسرور إلى النفس، ويساعد في علاج أمراض بعينها مثل تقوية المرارة الصفراء، وإذابة البلغم، وتقوية وتلطيف الدم، حسبما ذكر أستاذ تاريخ الطب بجامعة حلب الدكتور عبد الناصر كعدان والباحثة في الموسيقى العربية ميس قطاية في دراستهما المعنونة بـ"العلاج بالموسيقى في الطب العربي".INSIDE_MusicTherapy_kindi
INSIDE_MusicTherapy_farabi
إخوان الصفا وأوتار العود
INSIDE_MusicTherapy_ekhwansafaa
ابن سينا والمالنخوليا
[caption id="attachment_114288" align="alignnone" width="700"]
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.