عرف العرب منذ القدم أن للموسيقى دوراً مهماً في علاج الأمراض النفسية والجسدية، واستخدموها في تطبيب المرضى النفسيين والمصابين بما أسموه "علل العته العقلي" بل وبأمراض عضوية.
وكان أبو نصر محمد الفارابي أول مَن استخدم الموسيقى في العلاج النفسي. وبلور هذا الفيلسوف والطبيب العربي رؤيته في مؤلفات عديدة، منها "كتاب الموسيقى الكبير" و"إحصاء الإيقاعات"، كما ذكر الدكتور عبد الباقي السيد أستاذ التاريخ الإسلامي لرصيف22.
كان الفارابي فيلسوفاً في الأساس، ولكن علوم عصره شهدت مزجاً بين الفلسفة وعلوم النفس والرياضيات والطب.
ولم تكن الموسيقى تُعزف للمرضى في البيمارستانات (المستشفيات) التي تستخدم هذا الأسلوب في العلاج بطريقة واحدة، بل كان العازفون يعزفون مقامات مختلفة بحسب حالة كل مريض، إذ هناك مَن يتأثر بمقام الحجاز وآخر بمقام الكرد وهكذا، كما شرح العازف والمغني الجزائري بدر الدين قطاف لرصيف22.
بيمارستان قلاوون في القاهرة
تعددت البيمارستانات العربية التي شهدت هذه الوسيلة العلاجية. جاء في الجزء العاشر من كتاب "وصف مصر" الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية (1798 – 1801)، أن القاهرة كان بها منذ خمسة إلى ستة قرون الكثير من المستشفيات المخصصة لإيواء العجزة والمرضى أو "المعتوهين" (الاسم الذي كان يعطى لأصحاب الأمراض العقلية)، ولكن لم يكن متبقياً منها أثناء تلك الحملة سوى بيمارستان قلاوون الذي يضم أصحاب الأمراض العقلية من الجنسين. وبحسب الكتاب كانت تكلفة كل واحد من المرضى في اليوم قطعة من الذهب (ديناراً)، وكان في خدمته شخصان، وكان المرضى الذين يعانون من الأرق ينقلون إلى قاعات منفصلة، وهناك يسمعون موسيقى متآلفة الأنغام، أو يقوم قصاصون متمرسون جيداً بالترويح عنهم بأقاصيصهم. وحالما يبدأ المرضى في استرداد صحتهم يتم عزلهم عن الآخرين، ويتاح لهم الاستمتاع بمشاهدة الرقص، وتُعرض أمامهم ألوان من الكوميديا.
بيمارستان النوري في دمشق
في سنة (549هـ/ 1154م) شيّد نور الدين بن زنكي (حكم حلب بعد وفاة والده سنة 541 هـ، وقام بتوسيع إمارته بشكل تدريجي) بيمارستاناً في دمشق أوقفه على الفقراء دون الأغنياء، إلا إذا لم يجد الأغنياء دواءً لعللهم في غير هذا البيمارستان. وذكرت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة في محاضرة ألقتها قديماً في فناء هذا البيمارستان، أن المريض فيه كان يحظى بعلاج خاص، في عيادات متخصصة شديدة المراقبة، أو في أقسام الأمراض العصبية التي كانت المعالجات فيها دقيقة وحكيمة، تجرى من قبل أخصائيين، بوسائل أقرب إلى وسائلنا العصرية، كالخضوع للمنوم الصحي، واستخدام الموسيقى، حسبما ذكر الدكتور أحمد فؤاد باشا في بحثه المعنون "المؤسسات العلمية والتعليمية في عصر الحضارة الإسلامية" والوارد في كتاب "المؤسسية في الإسلام".بذل العرب قديما جهدا أكاديميا مميزا في العلاج بالموسيقى، فقسموا النغمات والأوتار حسب تأثيرها على أعضاء الجسم
الفكرة السائدة أن العلاج بالموسيقى موضة عصرية، ولكن العرب قديماً استخدموا الموسيقى في المستشفيات
بيمارستان أرغون الكاملي في حلب
أنشأه الأمير سيف الدين أرغون الكاملي سنة 755هـ. وذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه "تاريخ البيمارستانات في الإسلام" أنه كان يحتوي على حجرة مخصصة لعلاج المجانين، وكان القائمون عليه يأتون بآلات الطرب وبالمغنين فيداوون المرضى بها.
بيمارستان سيدي فرج في فاس
كان يقيم به المرضى العقليون. ويقول عيسى أن السلطان أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بناه عندما تولى الملك سنة 685هـ/ 1286م ليضم مرضى المسلمين الذين لا ملجأ لهم أو مأوى يأوون إليه، وسمي البيمارستان بسيدي فرج لأن المرضى كانوا يجدون فيه ما يفرج كربهم. وفي سنة 900هـ، أقام أهل الأندلس من المسلمين في فاس، فتولى رئاسة البيمارستان طبيب من بني الأحمر (أسرة حكمت غرناطة في أواخر العصر الإسلامي) يسمى فرج الخزرجي، فأصلح فيه وجعل الموسيقيين يلحنون أمام المرضى، حسبما ذكر عيسى.
بيمارستان مراكش
أنشأه منصور الموحدي (ثالث حكام الموحدين في بلاد المغرب وحكم بين عامي 1184- 1199هـ). وبحسب السيد استخدمت فيه الموسيقى لعلاج المرضى والترويح عنهم.جهد أكاديمي قديم
قسّم يعقوب بن إسحاق الكندي (801 - 873م) النغمات والأوتار والإيقاعات، وفقاً لتأثيرها على أعضاء الجسم، وقال إن بعضها يجلب الفرح والسرور إلى النفس، ويساعد في علاج أمراض بعينها مثل تقوية المرارة الصفراء، وإذابة البلغم، وتقوية وتلطيف الدم، حسبما ذكر أستاذ تاريخ الطب بجامعة حلب الدكتور عبد الناصر كعدان والباحثة في الموسيقى العربية ميس قطاية في دراستهما المعنونة بـ"العلاج بالموسيقى في الطب العربي".ويشير الباحثان إلى ما روي عن أن الكندي عالج غلاماً كان قد تعرض لسكتة فجائية بالموسيقى، فجاء بأربعة من تلاميذه الحاذقين بضرب العود وعزف الألحان المحزنة، والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس، وأمرهم أن يديموا العزف عند رأس المريض، حتى أخذ يقوى نبضه، وترجع إليه نفسه تدريجياً، إلى أن تحرك، ثم جلس وتكلم. وبعد فترة غفل عازفوا الموسيقى عن تلك الطريقة وفتروا، فعاد الصبي إلى الحال الأولى، وغشيه السكات. كذلك، قسّم الفارابي (874 – 950مـ) الألحان من حيث غاياتها إلى ثلاثة أصناف. وذكر في "كتاب الموسيقى الكبير" أن الأول هو المُلِذة التي تكسب النفس راحة ولذة في المسموع، والثاني المُخّيلة التي تدفع النفس للتخيل والتصور والتأمل، والثالث هو الانفعالية ويثير في الإنسان انفعالات الفرح أو الحزن.
وشرح الفارابي أن "الإنسان إذا لحقه أسف أو رحمة أو غضب أو غير ذلك من الانفعالات صوّت أنحاء من الأصوات مختلفة، وأمثال هذه الأصوات والنغم إذا اسُتعملت ربما حصل عنها انفعال ما أو ازدياده، وربما زال الانفعال أو انتقص".
إخوان الصفا وأوتار العود
في رسائلهم، ذكر إخوان الصفا (52 رسالة عن مختلف العلوم كتبتها جماعة مجهولة ظهرت قديماً في البصرة نحو القرن العاشر الميلادي) أن الموسيقى بها تأثيرات روحانية وتترك أثراً عظيماً في النفوس، لدى تغيرها من حال إلى حال، ولذا استخرج منها الأطباء ألحاناً استعملوها في البيمارستانات لشفاء كثير من الأمراض والعلل. شرح إخوان الصفا أن كل وتر من أوتار العود يصدر نغمة تؤثر في أمزجة طباع المستمعين لها، "فنغمة وتر الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها، وتضاد خلط البلغم وتلطفه، ونغمة المثني تقوي خلط الدم، وتزيد في قوته وتأثيره، وتضاد خلط السوداء وترققه، ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم، وتزيد في قوته وتأثيره، وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها، ونغمة البم تقوي خلط السوداء، تزيد في قوتها وتأثيرها، وتضاد خلط الدم، وتسكن فورانه". وقالوا: "إذا ألُفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، واستعملت في أوقات معينة من الليل والنهار، خففت على المرضى آلامهم، لأن الأشياء المتشاكلة في طباعها إذا كثرت واجتمعت قويت أفعالها وظهرت تأثيراتها وغلبت أضدادها".
ابن سينا والمالنخوليا
[caption id="attachment_114288" align="alignnone" width="700"] آلة موسيقية يٌنسب اختراعها لابن سينا[/caption] ذهب ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (980 – 1037م) في كتابه "القانون في الطب" إلى أن في الموسيقى علاجاً لعدد من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان، مثل المالنخوليا التي يصاب صاحبها بأعراض منها الإفراط فى التفكير، ودوام الوسوسة، والنظر الدائم إلى الشيء الواحد، وهذيان الكلام، والخوف من أشياء لا تخيف في العادة مثل سقوط السماء عليه، أو ابتلاع الأرض إياه. وذكر ابن سينا قائمة من العلاجات لهذا المرض أهمها تطريب المريض بالسماع إلى الموسيقى والمطربات، باعتبارها أشياء مهمة يمكن أن تشغله عن الفراغ والخلوة والتفكير المبالغ فيه. مرض آخر تحدث عنه ابن سينا ويسمى القطرب، وي جعل مَن يصاب به يفرّ من الناس الأحياء، ويحب مجاورة الموتى والمقابر، ويظهر ليلاً ويختفي نهاراً، ويكون في غاية العبوس والحزن. وشرح ابن سينا أن هذا المرض سمي بالقطرب لأن صاحبه دائم الهروب بلا نظام كما أن مشيه مختلف، ووصف قائمة لعلاجه منها السماع والطرب. واعتبر ابن سينا أنه يجب تخصيص بعض النغمات لفترات معينة من النهار والليل، ففي الصبح الكاذب يجب عزف نغمة "رهاوي"، وفي الصبح الصادق "حُسينى"، وفي الشروق "راست"، وفي الضحى "بوسليك"، وفي نصف النهار "زَنكولا"، وفي الظهر "عُشّاق"، وبين الصلاتين "حِجاز"، وفي العصر "عِراق"، وفي الغروب "أصفهان"، وفي المغرب "نَوى"، وفي العشاء "بُزُرك"، وعند النوم "مخالف". ورمى ابن سينا من خلال تقسيمه الزمني لاستعمال النغمات الموسيقية إلى أن الإنسان يمرّ بحالات نفسية مختلفة بل ومتناقضة أحياناً في اليوم الواحد تبعاً لظروف حياته ونمط معيشته من الاستيقاظ حتى النوم، حسبما ذكر الباحثان. ولم يقصر ابن سينا نصحه بالغناء والموسيقى على المصابين بآفات عقلية أو نفسية، فقد أوصى بهما أيضاً لتسكين الأوجاع، والمساعدة على النوم، وعلاج حميات اليوم (العرضية)، والحمى الغضبة. وبحسب الباحثين، "كان ابن سينا يرى أن في النبض طبيعة موسيقية، وأنه ذو نسبة إيقاعية في السرعة والتواتر، لذا حدد لكل وقت من أوقات الليل والنهار نغمته الخاصة به". ووفقاً للباحثين، فإن داود الإنطاكي (1534 – 1592)، وكان عالماً بالطب والأدب، أكد أهمية استخدام الموسيقى في علاج الجنون والحميات الحارة، وفي علاج الاختلاج (مرض خاص بالجهاز العصبي ويصاب صاحبه بخلل في الحركات الإرادية) والارتعاش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...