لم تتوقع أسماء الراشد أن تتغير مجريات حياتها لحظة وصولها إلى مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن عام 2012، هي التي تبلغ من العمر اليوم 24 سنة، بعدما نجحت بالموازنة بين حياتها المهنية والأمومة.
"أنا والدة لثلاثة أطفال، عندما وصلت مع زوجي إلى المخيم عام 2012، كان الوضع مأسوياً، لم تكن الأرض مجهزة لإيواء أي نازح، كانت هناك خيم متفرقة، وبعض الكرافانات التي تديرها منظمات دولية لتسيير التواصل بين اللاجئين والموظفين"، تقول أسماء.
الوالدة التي انتقلت إلى الزعتري من درعا، وجدت صعوبة بالاستقرار بسبب الأحوال الإنسانية: "لم أحتمل العيش في المخيم، لم يكن هناك ما يكفي من الاوكسيجين، قررت أن أغادر مع زوجي بطريقة غير شرعية. كنت أعلم أن العودة إلى المخيم تتطلب دفع مبالغ مالية لاحقاً، ولكنني أصررت أن نختبر حظنا في مكان آخر للعيش".
الانتقال لم يكن موفقاً بحسب أسماء، التي وجدت نفسها مع عائلتها في قبو تعاني جدرانه من الرطوبة "قيل لي إن عائلة أُخرى كانت تسكن في القبو وتسببت الرطوبة بوفاة أحد أفرادها، لم أفهم لمَ كان محكوماً على اللاجىء أن يعاني من ظروف غير انسانية، والأهم، لمَ لا يكتب أحد عن هذه التحديات؟".
الكتابة أعادتني إلى الحياة
بعد سنة من مغادرة مخيم الزعتري، عادت العائلة لتجد المخيم في هيئة جديدة مختلفة كلياً: "لم يكن مثالياً بالتأكيد ولكنه اختلف عما قبل، إذ بات مهيئاً بعدة طرق. "بعدما حصلنا على خيمة رضيت بالأمر الواقع". بدأت أسماء بتفريغ الطاقة بالكتابة في دفتر مذكرات صغير "دونت كل ما يجول في خاطري، كتبت عن القبو المميت والرطوبة، عن العجز الذي نشعر به، وعن مغبة اللجوء". بُعيد استقرارها في الزعتري للمرة الثانية، اكتشفت أسماء أنها حامل بطفلها الثالث، ولكن فرحتها لم تكتمل، إذ عانت من مضاعفات أدت إلى إجهاض الجنين. تقول "على الرغم من صعوبة الموقف، ومن حزني وحزن العائلة، فإن ما حصل كان نقطة تحول في حياتي لأنني تأكدت يومها أنه على أحد ما توثيق معاناتنا كسوريين". "مضاعفات فقداني الجنين والنزيف وانتقالي من مشفى إلى آخر، أمور دفعتني لإعادة التفكير بالجدوى من حياتي بعد فترة، وعندما تحسنت حالتي الصحية، قررت أن أستغل القوة التي أشعر بها لتغيير مجريات حياتي"، تضيف. كانت أسماء محبطة وتشعر بأن الشهادة الجامعية هي طريقها الوحيد نحو التغيير. "الظروف الاجتماعية وثقافتنا لم تسمح لي بمتابعة دراستي، اضطررت لترك المدرسة قبل الحصول على شهادتي الإعدادية" تقول، ومع ذلك قررت أن تحضر تدريباً على القراءة كانت قد دعيت إليه. "عندما عرفت أن حضوره لا يتطلب امتلاك شهادات مدرسية أو جامعية، ازداد اهتمامي به". لم تتوقف الشابة عن تدوين يومياتها قبل التدريب وبعده، استمرت بتوثيق ما تراه على الرغم من المطبات التي مرت بها.لم تتوقع أسماء الراشد أن تتغير مجريات حياتها لحظة وصولها إلى مخيم الزعتري...
قصة ملهمة لشابة من مخيم الزعتري، وتجربة مجلة هي الوحيدة التي يتم تصميمها والعمل عليها وطباعتها في المخيم
حكواتية مخيم الزعتري
كانت أسماء تجلس في التدريب وتراقب من حولها باستمرار، وكأنها في حالة دهشة. "الحاضرون كانوا من ذوي الخبرات، أشخاص يمتلكون شهادات جامعية، لكنهم لم يكونوا مهتمين بالتدريب بل عاملوه باستخفاف" تقول، مشيرةً إلى أنها على عكسهم، كانت منغمسة بالمشاركة وكتابة الملاحظات. "كنت أسأل المشاركين باستمرار: هل أنتم متأكدون أن الشهادة الجامعية ليست ضرورية للحضور؟ كانوا يبتسمون بدل الاجابة". شعر القيمون على مبادرة "أنا أحب القراءة"، وهو التدريب الذي حضرته أسماء، بضرورة متابعة الشابة نشاطها، وشجعوها على قراءة قصص وكتب لأطفال المخيم كي لا تتوقف عن تحسين أدائها. بدأ النشاط بدعوة طفلين إلى منزلها الصغير في المخيم، وسرعان ما ازداد العدد. تقول أسماء: "تهافت الأطفال لحضور ساعة من القراءة، كنا نختار القصص معاً، وكان زوجي يغادر المساحة الصغيرة كي يتمكن أكبر عدد ممكن من الأطفال من المشاركة". شجعت أسماء الأطفال على متابعة القراءة بعد النشاط، واستطاعت إقناع عدد منهم بالذهاب إلى مدارس المخيم، ليستطيعوا قراءة القصص بأنفسهم يوماً ما. "بعد أشهر من انطلاق نشاط القراءة، وبعد أن استضافت نحو 100 طفل، بات لقبي حكواتية المخيم، على الرغم من خبرتي القصيرة في الرواية".كي لا يكونوا "أطفال مخيمات"
تقول أسماء تعليقاً على عملها مع الأطفال "آمل أن أكون قد دعمت الجيل الجديد بطريقة ما، هذا الجيل البعيد عن أرضه وبلده، والذي لم يعرفهما حتى اليوم، أردت استثمار وجودي خارج الوطن بطريقة ما، وأن أمنح للأطفال هواية مفيدة تشغلهم عما قد يتعرضون له من إغراءات سلبية تبعدهم عن الدراسة، كي لا يكونوا أطفال مخيمات عاديين". وقد حصلت الشابة على دعم من مبادرة "أنا أحب القراءة" لكي تقدم الارشاد والدعم لفتيات اخترن عدم الذهاب إلى المدرسة: "الهدف دفعهن إلى استكشاف آفاق جديدة، فالحياة ليست مجرّد زواج، بل هناك أكثر من ذلك، لذلك أشجعهن على القراءة والاطلاع على مواضيع ثقافية مختلفة، وأناقش تجربتي معهم، كي يشعروا بأن لا شيء مستحيل" تقول أسماء.مجلة الطريق: أفق جديد للاجئات الزعتري
مشروع أسماء لا يتوقف هنا، فقد رغبت في أن تطور مهارتها في كتابة القصص. لم تحبذ فكرة كتابة القصص الخيالية بسبب الواقع المحيط بسكان المخيم: "هناك الكثير من الدروس التي يمكن أن يتعلمها الجميع، صغاراً وكباراً، عن حياة المخيم، أردت أن أكتب عن تلك التفاصيل" تقول. اختارت كتابة القصص لإحدى المجلات الصادرة في المخيم، مجلة "الطريق"، وهي تأمل أن تجمع القصص التي كتبتها في كتاب واحد يوماً ما. القصة التوعوية الأولى التي كتبتها كانت عن الجرذان في الزعتري وكيفية الوقاية منها عبر المحافظة على النظافة، وأدخلت تفاصيل يومية بقصتها القصيرة، لتكون حكاية ودرساً في الوقت عينه. لا يتوقع المتابعون لشؤون اللاجئين أن تكون خيمة في مخيم الزعتري، الذي هو واحد من أكبر المخيمات في العالم العربي، مقرّ ورشة صحافية متكاملة الأركان. مشروع صغير انطلق قبل نحو ثلاثة أعوام، يعتبر اليوم واحداً من المشاريع الريادية في مخيم تحيط به ظروف إنسانية واقتصادية واجتماعية صعبة. “الطريق" مجلة خاصة بالمخيم، أطلقتها مجموعة من المتطوعين والصحافيين والهواة السوريين بتمويل من منظمة الطوارىء اليابانية "JEN". صدر العدد الأول من "الطريق" في شهر مايو عام 2014، عقب أشهر من التحضير، وبعدما تمكنت الصحافية الأردنية هادا السرحان من جمع فريق عمل طموح. الإصدار ليس محصوراً بمجلة ورقية يتم طبعها وتوزيعها في المخيم، إذ تملك المجلة موقعاً الكترونياً يوثق الصور والمقالات المنشورة أيضاً، باللغة الانكليزية. فريق عمل "الطريق" متنوع، تبرز فيه عدة نساء، بعضهن ربات منازل، أو شابات في العشرين من العمر، إلا أن عدد النساء بحسب القائمين على المشروع ليس بكبير، وهو أمر طبيعي بسبب عادات المجتمع المحيط، بالإضافة إلى ظروف مخيم الزعتري. تصدر "الطريق" عن اللاجئين، وإلى اللاجئين، وهي بحسب القائمين عليها، الوحيدة التي يتم تصميمها والعمل عليها وطباعتها في المخيم نفسه. أما اسم المجلة، فمستوحى من الوضع القائم في المخيم الذي يعتبر طريق مرور لكل شخص، وليس مكان استقرار دائم للجميع. لم تتوقع أسماء نشر قصصها في المجلة وتشجيعها على كتابة المزيد: "منحني فريق تحرير الطريق صفحتين لقصصي، واستعنت بموهبة ابن أخي لرسم كاريكاتور مرفق بكل قصة كي يكون الدرس بالأحرف والألوان أيضاً". "الطريق" منحت أسماء وعدة نساء أخريات فرصاً تدريبية عديدة كورش صحافية وورش عن التصوير. وذلك على الرغم من الصعوبات التي واجهها فريق العمل لكونه مختلطاً، يضم شباناً وشابات من مختلف الأعمار.ليس "الطريق" معبّداً بالورود
تقول هادا السرحان، رئيسة تحرير مجلة الطريق والمشرفة على المشروع لـرصيف22 إن التحديات المتكررة شجعت فريق العمل على الاستمرار "أعتقد أن الإنجاز الحقيقي هو أن المشروع مختلط يجمع شباناً وشابات في ميدان عمل مشترك، على الرغم من كون المكان الذي نعمل فيه متواضعاً، فنحن نجتمع في خيمة الاجتماعات والكرافان هو مكتبنا". تتكرر كلمة "حرام" خلال توصيف فريق العمل بحسب السرحان، لأن عدداً من أهالي المشاركين في الفريق يعترض باستمرار بسبب العمل المختلط، على الرغم من احتوائه عدداً أكبر من الشبان. "أعتبر أننا في خضم مشروع تعليمي كبير، فنحن نتعلم كل يوم، والعلم عملية مستمرة لامتناهية" تشرح السرحان، مشيرةً إلى أن دائرة فريق العمل قد اتسعت، إذ غادر كثيرون المخيم، ومنهم من استمر في الكتابة وإرسال المواد الصحافية. تروي بفخر قصة شاب كان قد شارك في عدة دورات تدريبية نظمتها الطريق، وقرر أن يغادر إلى أوروبا في البحر "كتب عن تجربته بعد وصوله، وهو اليوم يعمل مع صحيفة محلية في ألمانيا". مع كل صباح، تبرز قصة جديدة في المخيم الذي يضم نحو 80,000 لاجئ سوري بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. علماً أن شبكة الهواتف الضعيفة في المخيم، وغياب الاتصال بالأنترنت في مواقع معينة، والمناخ القاسي وقلة الموارد هي يوميات شبة "عادية" ترافق فريق عمل "الطريق" الذي يطمح إلى أن تصل المجلة يوماً ما إلى مخيم الأزرق والمخيمات الأخرى في تركيا.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...