"برزت صبية إلى الوجود: عمرها سنتان ونصف السنة أو ربما ثلاث سنوات. ترى هل الطفولة نفق من الأحلام لامع هناك على خشبة مسرح حيث يعاد العرض، ولكن لك وحدك أنت يا صاحبة العين الجاحظة؟ هذه طفولتك تمتد لأي صفيّة وكاتمة أسرار ولأي ابنة عم عابرة تكون قد رأت دموعك تنهمر في خضم الشارع فيما مضى، أو نحيباً لا يزال يمزقك؟".
بهذه اللغة الفريدة، اللغة الفلسفية العصية، اللغة التي تخبئ أكثر مما تظهر، تبدأ "آسيا جبار" سرد نتفٍ من سيرة حياتها، فاتحة "بوابة الذكريات". تسمح لنا بالتلصص على أكثر لحظات طفولتها ومراهقتها حميمية، لتروي قصةً ذاتية لكنها، في الحقيقة، يمكن أن تكون قصة كل فتاة في العالم العربي. تتبّع الكاتبة سيرة حياتها، وهي التي نشأت بين أبٍ متعلّم لكنه خاضع لقوانين المجتمع الذكوري الذي يعيش فيه، وأمٍّ شابة تكشف لابنتها عالم النساء في الجزائر. عالم الأسرار والثرثرات والكبت، العالم المختبئ وراء جدران صلبة من المحظورات، متحوّلاً إلى سجن كبير، لا تجد فيه الفتيات متنفساً إلا في الأعراس النسائية، حيث يتركن أجسادهن ترقص بحرية لتعبّر عن رفضهن للقمع الذي يتعرضن له وهن يتقن إلى الخارج."في البدء، أرقص ببطء مثل الطاووس، ثم بخفة وحركات مفككة مثل رقصة عالمة، لأختمها مع اهتزاز كتفيّ، وأنا أبسط ذراعيّ العاريين على وشك الاستلقاء على الأرض، مع ذلك أستعيد بعض الارتفاع (...) وفجأة يبدو التقبب البطيء والكتوم لثدييّ المقلوبين باتجاه السماء، وهذا التثاقل، هذا الغثيان، هذا التعري، الانقباضات المنكمشة والممتدة لهذا الجسد الأنثوي الذي راح يولد، للعذراء الصامتة، للنار المتوقدة، للزهرة التي لم تتفتح بعد".
هكذا تجد نفسها مضطرة لاستخدام لغة المستعمر، كي يظنها الآخرون فرنسية، فتستطيع عيش حريتها...
لماذا، لماذا يجب عليّ أنا أن أجدني وجميع الأخريات بلا حيز في "منزل أبي"؟غير أن السلطة البطريركية الأبوية، وما تفرضه على الكاتبة/ البطلة من قيود، لن تكون الوحيدة، إذ ثمة مستعمرٌ فرنسي، يفرض قيوده أيضاً، ومن هذه القيود: اللغة. في المدرسة سيُرفض طلبها في أن تتعلم كلغة أجنبية: اللغة العربية، تعلماً أدبياً، وستبقى هذه اللغة، لغة أهلها ومجتمعها، لغةً تطمح في معرفة أسرارها، ولذلك فإن أول ما تطلبه من الشاب الذي تحبه في مراهقتها حين تعلم أنه يدرس هذه اللغة، أن يكتب لها الأشعار التي يدرسها باللغة العربية، وأن يكتب لها شرحها بالفرنسية. تعيش المراهقة منفى اللغة، فهي تتوق لاستخدام لغتها الأم في الشارع، لكن لو استخدمتها سيعرف الناس أنها منهم، وعندها لن يتساهلوا مع تحررها في اللباس وسيرها وحيدة، أو برفقة شاب. هكذا ستجد نفسها مضطرة لاستخدام لغة المستعمر، كي يظنها الآخرون فرنسية، فتستطيع عيش حريتها.
"لا أستطيع أن أتمتع بهذا الفسق إلا إذا أخفيت لغة الرضاعة وألصقتها بصدري وبين نهديّ إن اقتضى الأمر!".
هذا هو الجوّ الإشكالي الذي عاشته في كنف بلادٍ مستعمرة، ولأن الكتب التي صارت شغفها علّمتها أن تكون حرة، وأن تتمرد على السلطة البطريركية، فإنها ستكتشف الحب عبر مراسلة سرية مع شابٍ جنوبيّ، ومعه ستتذوق طعم الحب الأول ولذة القبلة الأولى. ولكن، أين تذهب كل المحرّمات، كل اللحظات التي عاشتها وهي تحاول ترويض خوفها من جسدها؟ أين تذهب صورة الأب حارس الحريم، والقوانين التي فرضها على جسد ابنته؟ هكذا، ستخترع المراهقة ذات الستة عشر ربيعاً عبارتها التي سترددها كثيراً في كل لقاء ترى فيه الحبيب: "إن علم أبي بذلك، سأنتحر!"، ولكثرة ما رددتها فإنها عند أول إخفاقٍ في علاقتها معه، ركضت باتجاه عربة التراموي لتقذف بنفسها على سكته.رواية "بوابة الذكريات" هي كشفٌ قاسٍ لحكاية جسد الأنثى في العالم العربي، حكاية تروى على وقع قرع طبول المحظور والممنوع والمكتوم، فيما أوتار الصمت تعزف الرغبة والعاطفة والتوق إلى الحرية والبوح والاعتراف. هي سيرةُ وعيٍّ يتشكل وينمو، ينبثق من عقل طفلة صغيرة رأت العالم بين دفتي كتاب، وقارنته مع عالمٍ خارجه، وأدركت أن قيمة الإنسان العظمى، داخل الكتاب كما خارجه، هي الحرية. إليها يسعى وإليها يجب أن يصل. "بوابة الذكريات" سيرة لروائية أصبحت عالمية، قررت أن الصمت إزاء الذات أخطر أنواع الصمت، ولذلك أرادت أن يكون سؤالها صرخةً تدوي في عمق هذا المجتمع المدجن والمسوّر بالمحرمات."لا أستطيع أن أتمتع بهذا الفسق إلا إذا أخفيت لغة الرضاعة وألصقتها بصدري وبين نهديّ إن اقتضى الأمر" رواية بوابة الذكريات
"هذا التساؤل ليس تساؤلك وحدك، بل هو تساؤل جميع النساء هناك على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط... لماذا، لماذا يجب عليّ أنا أن أجدني وجميع الأخريات بلا حيز في "منزل أبي"؟".
آسيا جبار (1936 - 2015)، كاتبة وروائية ومخرجة جزائرية. تم انتخابها في يونيو 2005 عضوة في أكاديمية اللغة الفرنسية. ترجمت مؤلفاتها إلى أكثر من عشرين لغة وتوّجت بالعديد من الجوائز الأدبية. ورشحت أكثر من مرة لنيل جائزة نوبل للآداب. قامت بإخراج عدد من الأفلام التسجيلية، وكتبت خمس عشرة رواية باللغة الفرنسية، تطرقت فيها للتاريخ الجزائري، ولوضع النساء، والصراع حول اللغات في الجزائر. ومن هذه الروايات: "نافذة الصبر"، "ظل السلطانة"، "بعيداً عن المدينة"، "وهران.. لغة ميتة"، "ليالي ستراسبورغ"، "الجزائر البيضاء". المترجم: محمد يحياتن الناشر: المركز الثقافي العربي/ بيروت – الدار البيضاء عدد الصفحات: 384 الطبعة الأولى: 2017 يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...