في العاشر من شهر محرم عام 61هـ، وقعت مذبحة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، وبضعة عشرات من أقربائه وأنصاره، على يد الجيش الأموي الذي قطع طريق رحلتهم إلى الكوفة.
كربلاء، التي ردد فيها الحسين جملته الخالدة "هيهات منا الذلة"، لم تكن مجرد موقعة حربية، مثل أي موقعة مشابهة في تاريخ المسلمين الطويل، بل إنها ومع مرور الوقت، قد استأثرت لنفسها بمكانة خاصة ومتميزة، فأضحت علامة فارقة في تاريخ الإسلام السياسي والمذهبي.
الشعر الكربلائي... تخليد الحسين في ديوان العرب
لما كان الشعر هو ديوان العرب، وميدان تفاخرهم وتنافسهم مع بعضهم البعض، حجزت كربلاء لنفسها مكاناً هاماً في قصائد وأبيات الشعراء العرب منذ مقتل الحسين وحتى اللحظة الراهنة.ووُجدت الكثير من الروايات التي أظهرت حرص الأئمة الشيعة على قرض وإنشاد الشعر في مصيبة كربلاء، ومن ذلك ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا لابن بابويه القمي، عن الإمام جعفر الصادق، من قوله "ما قال فينا قائل بيت شعر، حتى يؤيد بروح القدس"، وقوله "ما من أحد قال في الحسين شعراً، فبكى وأبكى له، إلا أوجب الله له الجنة، وغفر له".
وبقي إنشاد الشعر في كربلاء وبطلها ملمحاً فارقاً، يميّز جميع الدول الشيعية التي قامت في التاريخ الإسلامي، إذ تؤكد المصادر التاريخية على تشجيع الحكام البويهيين والفاطميين والصفويين على تذكر مصاب الحسين وأهل بيته، وعلى إغداقهم الأموال على الشعراء المتخصصين في ذلك المجال.
الدعم المادي والمعنوي الذي لاقاه الشعراء، نتج عنه مع مرور الوقت، ما يُعرف باسم الشعر الكربلائي أو أدب الطف، وهو عبارة عن نوعية معينة من الشعر المعني بمظلومية الحسين وتبيان حقه المهضوم. وفي كتابه المعنون بـ“المنتخب من الشعر الكربلائي"، يُحصي الباحث اللبناني حسن محمد نور الدين، أسماء ما يزيد عن 100 شاعر وضعوا قصائد متعلقة بالحسين وكربلاء.
المهم هنا أن السياق المذهبي لم يستأثر وحده بمظلومية الحسين، والدليل على ذلك يتمثل في كون الكثير من هؤلاء الشعراء لم يكونوا من الشيعة، بل كان بعضهم من أهل السنة والجماعة، ممَّن هزت مأساة كربلاء وجدانهم وحركت عاطفتهم وأفئدتهم، ومن هؤلاء البوصيري صاحب قصيدة البردة الشهيرة، والشبراوي شيخ الأزهر الأسبق، وشاعر الهند محمد إقبال.
وفي العصر الحديث أيضاً، استطاعت كربلاء أن تفرض نفسها على المبدعين والشعراء، فنرى بعضاً منهم، على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم الدينية والفكرية، يتعاطفون مع الحسين وقضيته. من هؤلاء الشاعر السوري الشهير نزار قباني، الذي لطالما عُرف بقائده الرومانسية الحالمة، إذ كان من أكثر الشعراء الذين تأثروا بمأساة الحسين في كربلاء، فنراه يستدعيها في كل حادثة أو موقف مهم يمر به.
ففي رثائه لجمال عبد الناصر عام 1970، قال مستحضراً المشهد الكربلائي الأليم:
قتلناكَ...
ليس جديداً علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا...
وكم من إمام ذبحناه
وهو يصلي صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنةٌ
وأيامنا كلها كربلاءُ
قتلناك.
وصل تأثير الملحمة الحسينية إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا، ودخلت في تشكيل الأدب الشعبي فيها
وعام 1985م، أنشد قباني قصيدته الذائعة الصيت، والمعنونة بـ“جلودنا مختومة بختم كربلاء"، والتي أعلن فيها عن رأيه بأن كربلاء تمثل رمزياً كل مشكلات العالم العربي المعاصرة، وقد جاء في تلك القصيدة: مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق... وموتى دونما كفن...
مواطنون نحن في مدائن البكاء
قهوتنا مصنوعة من دم كربلاء
حنطتنا معجونة بلحم كربلاء
طعامنا... شرابنا
عاداتنا... راياتنا
زهورنا... قبورنا
جلودنا مختومة بختم كربلاء.
ومن الشعراء المصريين المعاصرين الذين أنشدوا الشعر في الحسين، كل من أحمد عبد المعطي حجازي وفاروق جويدة وأحمد بخيت، وغيرهم كُثر. وإن كان الشاعر المصري أمل دنقل قد اشتهر بقصائده القوية التي استحضرت حكايات الزير سالم وحرب البسوس، فإنه في الوقت ذاته لم يكن بقادر على أن يهمل مأساة الحسين بكل ما يحيط بها من ألم ومعاناة وشجن، فنراه في قصيدته (من أوراق أبي نواس)، يقول موضحاً دور المطامع المادية في المأساة الحسينية: كنتُ في كربلاء.. قال لي الشيخُ: إنّ الحسين ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءٍ وتساءلتُ: كيف السيوفُ استباحت بني الأكرمين؟ فأجابَ الذي بصّرته السماء إنه الذهب المتلألئ في كل عين ... ماتَ من أجلِ جرعةِ ماء.الأدب الحسيني... انتشار جغرافي وحضور في أوقات الأزمات
من اللافت للنظر أن ملحمة كربلاء استطاعت أن تخرج من الدائرتين الدينية والعرقية، واللتين تكونت فيهما أول ما ظهرت، وهو الأمر الذي صبغها بصبغة إنسانية عالمية، ووسع من مجال انتشار وتأثير أفكارها ومبادئها الرئيسة. فهناك عدد من الأدباء المسيحيين العرب الذين دونوا بعض المؤلفات المرتبطة بواقعة الطف، منهم على سبيل المثال، الشاعر اللبناني بولس سلامة الذي كتب ملحمة الغدير، وعبد المسيح أنطاكي الذي كتب الملحمة العلوية، وريمون قسيس الذي كتب ملحمة الحسين، وجرجي زيدان الذي كتب غادة كربلاء.كما وصلت أصداء كربلاء إلى عدد من البلاد الأوروبية والآسيوية والإفريقية، ودخلت في تشكيل الأدب الشعبي فيها، ففي القرن العاشر الهجري، ألف الشيخ حسين الكاشفي، كتابه "روضة الشهداء" باللغة الفارسية، واحتوى هذا الكتاب على قصة بطولة الحسين في كربلاء، وانتشر في أقاليم فارس بشكل واسع، ما دفع محمد بن سليمان فضولي البغدادي إلى ترجمته للغة التركية، وسماه "حديقة السعداء"، وقد ذاع هذا الكتاب بين الشعوب التي تتحدث باللغة التركية، وأثر كثيراً في تطور الأدب الشعبي التركي.
وفي ألبانيا، كتب الأديب الألباني المعروف نعيم فراشري، ملحمة كربلاء، في نهايات القرن التاسع عشر، واستطاعت تلك الملحمة، بما تحمله من مبادئ وقيم مستمدة من نهضة الحسين، أن تؤثر كثيراً في توحيد صف الشعب الألباني والتأكيد على الروح الوطنية، في الفترة التي أعقبت الانفصال عن السلطنة العثمانية، ما حدا بالنظام الشيوعي الحاكم وقتئذ إلى مصادرتها ووقف طباعتها.
وبحسب بعض المصادر الشيعية، وصلت تأثيرات الملحمة الحسينية إلى الهند، حيث ظهرت بعض الجماعات التي تؤمن بأن أحد الرهبان الهنود، كان قد سافر إلى العراق، حيث التقى بالحسين، وشارك معه في معركته المصيرية، وقتل أثناء الدفاع عنه.
ورغم المبالغة الواضحة في القصة، التي لا توجد لها أي شواهد علمية أو منطقية، إلا أنها تعبّر بشكل واضح عن مدى تأثير كربلاء في المخيلة الجمعية لبعض الشعوب البعيدة جغرافياً عن العراق، مثل الشعب الهندي.
السياق المذهبي لم يستأثر وحده بمظلومية الحسين، والدليل على ذلك يتمثل في كون الكثير من هؤلاء الشعراء لم يكونوا من الشيعة، بل كان بعضهم من أهل السنة والجماعة، ممَّن هزت مأساة كربلاء وجدانهم وحركت عاطفتهم وأفئدتهم
أما في مصر، فقد ورد ذكر الحسين في بعض من كبار الأعمال الأدبية المؤثرة، ففي مسرحيته المشهورة، مجنون ليلى، يقول أمير الشعراء أحمد شوقي، واصفاً الحسين: "كان الحسين بن علي كعبة القلوب والأبصار في جزيرة العرب بعد أن قُتل أبوه علي ومات أخوه الحسن. وكذلك ظلّ الحسين قائماً في نفوس الناس صورة مقدسة للإسلام تستمد أنضر ألوانها من صلته القريبة بجده رسول الله وبنوّته لرجل كان أشدّ الناس زهداً واستصغاراً لدنياه، وكذلك ظهرت بلاد العرب وقلبها يخفق باسم الحسين".
ولم يقتصر الحضور الكربلائي في الأدب الشعبي المصري، على ما ورد في النص السابق، بل استمر هذا الحضور طاغياً، واستُدعيت تلك الملحمة بكل ما تحمله من دلالات وإشارات عميقة المغزى، في بعض من أشد لحظات التاريخ المصري الحديث حرجاً وخطورة. على سبيل المثال، كانت نكسة حزيران 1967م، وانكسار الجيش العربي أمام القوات الصهيونية، سبباً في كتابة عبد الرحمن الشرقاوي، لرائعتيه "الحسين ثائراً" و"الحسين شهيداً".
وكتب الشرقاوي في صفحة الإهداء، مفسراً لاختياره شخصية الحسين تحديداً، لبطولة أحداث روايته، دوناً عن باقي الشخصيات التي يزخر بها التاريخ الإسلامي الطويل: "إلى ذكرى أمي أهدي مسرحيتي 'الحسين ثائراً' و'الحسين شهيداً'. لقد حاولت من خلالهما أن أقدم للقارئ والمشاهد المسرحي أروع بطولة عرفها التاريخ الإنساني كله دون أن أتورط في تسجيل التاريخ بشخوصه وتفاصيله التي لا أملك أن أقطع فيها بيقين. إلى ذكرى أمي التي علمتني منذ طفولتي أن أحب الحسين ذلك الحب الحزين الذي يخالطه أغلب الإعجاب والإكبار والشجن ويثير في النفس أسى غامضاً وحنيناً إلى العدل والحرية والإخاء وأحلام الإخلاص".
كربلاء على الشاشة... حضور إيراني قوي وتواجد عربي هامشي
جرت العادة، في الأوساط الشيعية، أن يتم تمثيل مشاهد واقعة الطف، في يوم العاشر من محرم، فتُسترجع تلك اللحظات الأليمة بكل ما يحيط بها من قداسة ومهابة وإجلال. وفي الوقت ذاته، أُنتج العديد من الأفلام والمسلسلات التي تناولت أحداث كربلاء، إما بصورة مباشرة أو بشكل غير مباشر. أغلب تلك الأعمال، أُنتجت في إيران، وبعضاً منها أُنتج في بعض الدول العربية التي يمثل الشيعة بها أغلبية أو حضوراً عددياً كبيراً ومؤثراً.من أبرز تلك الأعمال، مسلسل مختار نامة، الذي أذيع على الشاشات الإيرانية عام 2011، ولاقى نجاحاً جماهيرياً كبيراً، داخل إيران وخارجها. ويتناول المسلسل قصة انتقام المختار بن أبي عبيدة الثقفي من قتلة الحسين. وخصص المسلسل حيزاً كبيراً لعرض ما وقع في كربلاء، وذلك من خلال مشاهد مؤثرة تم اقتطاع بعضها ومُنع من العرض.
هناك أيضاً، فيلم يوم الواقعة، الذي أُنتج عام 1994م، ويروي قصة شاب مسيحي يدعى عبد الله النصراني يسمع أثناء مراسم زواجه بثورة الإمام الحسين، فيقرر الالتحاق بركبه في كربلاء ولكنه يصل متأخراً ليشاهد الرأس الشريف للإمام مرفوعاً على أسنة الرماح.
وهنالك فيلم ضياء الفجر، الذي أُنتج عام 2001، ويعرض بعض جوانب معركة كربلاء.
وهنالك فيلم السفير الذي يتناول المرحلة التاريخية التي سبقت مقتل الحسين في كربلاء، والتي أرسل فيها بقيس بن مسهر إلى الكوفة للتأكد من نوايا أهلها، وعزمهم على الوقوف معه في ثورته.
ومن الأعمال التي أرّخت لأحداث تلك الملحمة فيلم القربان أو رستاخيز، وهو فيلم إيراني أُنتج عام 2014، وشاركت في بطولته نخبة من الممثلين الإيرانيين والعرب، وعُرض بشكل محدود في إيران والعراق، وإن لم يتم طرحه في دور العرض السينمائي بشكل موسع في باقي الدول العربية.
ومن الجدير بالذكر، أن هناك بعض المحاولات التي عملت على إنتاج عمل فني مصري يتناول فاجعة كربلاء، وكان أهمها على الإطلاق محاولة تجسيد مسرحية "الحسين ثائراً وشهيداً"، وهو الأمر الذي تعرض للرفض من جانب الرقابة المصرية، بدعوى عدم الموافقة على ظهور شخصيات أهل البيت والصحابة على الشاشة.
*صورة المقالة عن معركة كربلاء من مقتنيات متحف بروكلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...