يقول أدونيس، في مقدمة كتابه "ديوان النثر العربي"، إن النثر لم يستطع أن يثبت نفسه ديواناً للعرب، لكون بنية النثر "أقرب تاريخياً إلى مفهوم الكتابة"، أي بعيد عن الشفاهة، وما تسمح به قوالب وتفاعيل الشعر من حفظ وتناقل، ويرى أن "النثر العربي، خصوصاً في جوانبه الفنية، لا يزال قارة شبه مجهولة".
المفارقة في كتاب أدونيس الصادر سنة 2011، أنه تقريباً الكتاب الوحيد الذي يجمع نصوصاً نثرية في دليل إصدارات دار الساقي، والحال ذاتها تتكرر لدى دار نوفل مثلاً، التي يحتوي دليل منشوراتها على حوالي 46 رواية، مقابل 6 كتب تجمع نصوصاً نثرية فقط، فهل النصوص النثرية آخذة في الانقراض، أم أنها تتخلى عن النشر الورقي لصالح النشر الإلكتروني، الذي يشمل كافة الأجناس الأدبية القصيرة حالياً؟
أصغر من كتاب
كان ماجد اليمن (24 عاماً) أحد الكتاب الذين ساهموا في دحنون وبلوكة وهفنغتون بوست والعربي الجديد بدءاً من 2014، من خلال نصوص نثرية وقصص قصيرة، وقام منذ عام بتأسيس مدونته الشخصية، الأمر الذي يقول أنه "لتحريض نفسي على الكتابة"، إضافة إلى ميزة أخرى للنشر على المدونة الشخصية، هي إمكانية إزالة النصوص بعد نشرها. يقول ماجد أن النشر الإلكتروني بشكلٍ أو بآخر يصحح الاختلال الناتج عن المقاييس غير الفنية المؤثرة في سوق النشر الورقي، فالنشر والشهرة "أولاً وأخيراً مرتبطان بالعلاقات العامة، وارتباطك مع دور النشر وصداقاتك في الأوساط الثقافية...إلخ"، إضافة إلى ميل معظم دور النشر اليوم إلى الرواية مقابل الأجناس الكتابية الأخرى. كما يحمل النشر الإلكتروني ميزاتٍ تتعلق بالتفاعل مع الجمهور لا يوفرها الكتاب الورقي، إذ يوفر الإنترنت على الكاتب، في ناحية النصوص القصيرة خصوصاً، الكثير من "البهدلة في التعامل مع دكاكين النشر العربية التي غايتها الربح فقط"، حسب تعبير ماجد، ويضيف "نعم، نستطيع عبر الإنترنت أن نوصل ما نريد قوله بشكل أسرع للقارئ"، ورغم ذلك لا ينكر دور عوامل غير فنية في رواج النصوص المنشورة إلكترونياً، مثل كمية صداقات الكاتب وثقته بنصوصه. ناحية أخرى تساهم في رواج النشر الإلكتروني، وهي الاستقلالية التي يمنحها للنص الواحد، بدلاً من الاضطرار لجمعه مع نصوص أخرى لا يوجد ما يجمعه بها، سوى المدة الزمنية أو الأوراق التي طبع عليها الكتاب، يقول ماجد أنه لا ينوي حالياً جمع نصوصه المنشورة في كتاب، "ببساطة لعدم وجود روابط بينها تبرر جمعها في كتاب واحد، ربما أفعل ذلك حين أكتب مجموعة نصوص مرتبطة بالفعل ببعضها البعض".تنجح النصوص النثرية المنفردة على الإنترنت أكثر من شكلها المطبوع، هنا ما يقوله المدونون
ماذا يقول مؤسسو مواقع ومدونات للنثر العربي، عن علاقة النثر بالمنشور الورقي والرقمي؟
وسيلة جديدة، قراء جدد
إضافة إلى الصفحات المخصصة للنصوص الأدبية في بعض الصحف مثل العربي الجديد والسفير، أو في وسائل الإعلام الإلكترونية الجديدة مثل ألترا صوت وكانفاس، تتزايد المواقع المختصة بنشر النصوص الأدبية بشكل عام، أو التي تعتمد عليها بشكل أساسي ضمن عدة خطوط نشر أخرى. في عام 2012، أسس مجموعة من الشباب السوريين المقيمين في الإمارات موقع "دحنون"، الذي يصف نفسه بأنه "منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس"، ليكون "منصة تتلقف ارتدادات السوريين الإبداعية للحدث (السوري)" كما يخبرنا سامر المصفي، أحد مؤسسي الموقع وأعضاء هيئة تحريره، وتراجع دور المقالات ومواد الرأي في الموقع، خصوصاً السياسية منها، مع الزمن، لتصبح الفنون اليوم، وخصوصاً الكتابية العمود الفقري للموقع، "نعم هناك تغيير وأعتقد أنه طبيعي وضمن السياق من حيث تطور أي تجربة أدبية، كما إن التحليل السياسي لم يكن هاجساً للمدونة". وعن التحديثات الأخرى يقول "هناك تصنيفات وأبواب لكل نوع، وخضعت هذه المسألة لعدة تحديثات غالباً لأسباب تقنية، وتسهيل الوصول للمادة". تختلف طبيعة الجمهور القارئ للكتب المطبوعة عن ذلك الخاص بالمدونات والمواقع الأدبية، ويقول المصفي أنه "لا يمكن الجزم بما يخص صفات القراء الديمغرافية باعتقادي، ولكن يمكن القول أنهم يشملون كل من لديه حساب على فيسبوك كونه الأكثر شهرة ومتابعةً". ولا ينتمي قراء دحنون برأيه لقراء الكتب، "أعتقد أن القراء هم من مستخدمي الإنترنت العاديين أكثر منهم قراءً للكتب"، ويقول أن قراءات النص الواحد تصل أحياناً لعشرات الآلاف، الأمر الذي يعني انضمام أعداد كبيرة من العرب إلى مجتمع القراءة والكتابة العربيين بعيداً عن الكتب المطبوعة، "مسألة الكتاب المطبوع شائكة وليست في متناول اليد لظروف عديدة، فقد يكون النشر في مدونة كدحنون وسيلة لقول ما لديهم بأريحية، وتجريب وضع نصوصهم في الفضاء العام". لا يرى سامر المصفي أثراً كبيراً للنشر وتلقي ردود الأفعال المباشرة على تطور الكتاب، "في الحقيقة – وهذا رأيي الشخصي – غالباً يكون التطور بطيئاً وبالكاد ملحوظاً، كما يصعب تقبل رفض النص بالنسبة للكثير من الكتاب"، وعن الآثار التي يتركها هذا النوع من النشر على المؤلفين، خصوصاً مقارنة بمنشورات فيسبوك الأكثر قدرة على حصد التفاعل، يقول أن "هناك تأثير لمزاج الجمهور على الكاتب وشكل التفاعل بين نص أدبي على مدونة أو منشور فيسبوكي، ولكن بالطبع هناك كتاب قادرين على إدهاشك كل مرة".تمهيد للمطبوع أم موازٍ له؟
كما في معظم المواقع التي تنشر نصوصاً أدبية، يساهم الكثير من أصحاب الكتب المطبوعة في مدونة "أنبوب" التي يغلب الطابع الجنسي على مواضيع نصوصها، وتنفي أسرة تحرير الموقع أن يكون الفرق في الرقابة هو سبب اتجاه هؤلاء الكتاب إليهم في النشر، فالكثير "من الروايات المنشورة باللغة العربية تحوي مضموناً فاحشاً ولم يؤثر ذلك على عملية نشرها ورقياً"، ويضيف عمار المأمون، محرر في الموقع، أن نصوص الكتاب لا تختلف بين أعمالهم الورقية والإلكترونية، "لأن من يكتب دون قيد لا تفرض عليه منصة النشر شكلاً محدداً أو رقابة محددة، إلا تلك المتعلقة بسلامته الشخصية والتي يراعيها أنبوب في بعض الأحيان". معظم المواقع التي تنشر هذه النصوص تستخدم رخصة "المشاع الإبداعي" التي تسمح بإعادة نشر النصوص ما دام المصدر مذكوراً والرخصة مشابهة، وبعضها لا يورد حتى نوع الترخيص، كما هي الحال في "أنبوب"، الأمر الذي يتيح للكاتب لاحقاً جمع النصوص ورقياً، ويرى فيه المأمون إشكالية، "فأحياناً طبيعة النشر الرقمي وتقنيات التصفح تجعل جمع هذه النصوص كارثة في الكثير من الأمثلة"، ويضيف أن الأمر "مرتبط بصناعة النشر، إن كانت فعلاً قادرة على مواكبة الفضاء الإلكتروني المفتوح، وهو سؤال اقتصادي". لم يعد اليوم النشر الورقي مقياساً لاعتبار أحدهم كاتباً "فما هو ورقي لا يعني أنه يمتلك قيمة أدبية أو جمالية، المعيار في صناعة النشر ليس مرتبطاً دائماً بالأدب كقطاع، فهناك ما ينشر بوصفه جماهيرياً أو 'بضاعة جيدة'"، ويرى المأمون أن "العقلية التقليدية المرتبطة بالنشر الورقي هي التي ترى أن على الكاتب أن يمتلك كتاباً ورقياً، في حين يكتفي البعض بالتدوين بوصفه منصة للنشر، وأيضاً هنا المعيار ليس جمالياً". ما زال الطول الذي تتسم به الرواية والجهد الطويل الذي يحتاجه تأليفها، وكذلك الدواوين الشعرية، يحول دون خروجها من نطاق المطبوع إلى الرقمي، ولكن حين يتعلق الأمر بالنصوص النثرية المنفردة، فإن الإلمام بكامل مؤلفات كاتبٍ ما، بات بحاجة إلى محرك بحثٍ أو إعجابٍ بصفحات متعددة على فيسبوك للمنصات المتعدة التي ينشر فيها، ما يفتح تحدياً جديداً أمام سوق النشر العربي، لمنافسة هذا التسارع المحموم للنشر الإلكتروني الذي لا ينتظر دورات النشر السنوية للمطبوع، ويحافظ على نشاطه بشكلٍ يومي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين