"لا تضيع صدر النهار، ولا تفسد ساعة المتعة"، لم يجد المصريون القدماء أفضل من هذه الحكمة البليغة لوصف منهجهم في الحياة ونظرتهم لها.
فعلى الرغم مما وصل إلينا عن الحضارة المصرية، أنها عبارة عن مقابر ومعابد وبناء أهرامات، كانت هناك حياة أخرى أكثر رحابة وبهجة تملأ الشوارع والجدران.
أعياد واحتفالات و"جعة للجميع"
بحسب المؤرخ الشهير هيرودوت، سبق المصريون غيرهم في إقامة الأعياد العامة والموائد العظيمة، ومنهم تعلمها اليونانيون. وبحسب دراسة آثارية حديثة، عرفت مصر القديمة 282 عيداً، تنوعت بين أعياد قومية ودينية، فضلاً عن أخرى مرتبطة بالزراعة والحصاد وفيضان النيل. ويوضح رئيس قطاع الآثار في وزارة الآثار د. أيمن عشماوي، أن الرخاء والاستقرار اللذين كانت تمر بهما الدولة المصرية قديماً صنعا بدورهما حالة من السعادة للمجتمع، حتى اعتاد إقامة الولائم وحفلات السهر، وكانت هناك أيضاً جلسات سمر خاصة بالنساء فقط، وهو ما ورد في قصة يوسف عليه السلام، حين أعدت امرأة العزيز متكئاً لنسوة المدينة. في منطقة تل بسطة بمحافظة الشرقية، كان يجتمع 700 ألف من الرجال والنساء، بخلاف الصبية، للاحتفال بعيد القطة "باستت"، وهو أكبر أعياد مصر القديمة. وكان الرجال والنساء يذهبون إلى مكان الاحتفال بالقوارب، ويسلون رحلتهم بالرقص والغناء، ويشربون في هذه الاحتفالية من الجعة، المشروب الرسمي في مصر حينذاك، أكثر مما يشربون في عام كامل، بحسب عشماوي. ويشير عالم المصريات بسام الشماع إلى أنه بحسب النصوص الموجودة في معابد الكرنك، كان لمصر 54 عيداً في السنة، بينما تكشف النقوش في أحد معابد مدينة هابو، أن المصريين كانوا يحتفلون بـ60 عيداً، من أبرزها عيد المصابيح، الذي كان يخرج جميع أبناء الدولة للاحتفال به، خصوصاً في منطقة سايس "صا الحجر" بمحافظة الغربية، وتتركز طقوسه في وضع زيت وملح وفتيل في أطباق مسطحة، وتوزيعها على شكل دائرة حول كل منزل، لتشتعل طوال الليل، وتنير سماء وأرض "المحروسة". كان يكاد يقام عيد كل 10 أيام، كما توضح أستاذة الأنثربولوجيا د. سامية الميرغني، وكل هذا لم يكن إفراطاً، بل هو أسلوب الحياة حينذاك.كارتون وآلهة للضحك والفرفشة
من منا لم يستمتع بمشاهدة الكارتون الشهير "توم وجيري"، ويضحك منه حتى تنفرج أساريره؟ لكن هل يعلم الكثيرون أن هذه الفكرة التي طالما أمتعتنا أصلها فرعوني؟ بل إن الأثار المصرية القديمة هي أول من جسد الصراع بين القط والفأر، وصورتها في العديد من رسوماتها. وتوضح الميرغني أن المصريين من أول الشعوب التي استخدمت فن الكاريكاتير. ففي جلسات السمر أيضاً كان الفنانون يرسمون اسكتشات تحمل نوعاً من السخرية من الواقع والحياة اليومية. كما ترجع إلى مصر القديمة أصول فنون المسرح، ومنها مسرح العرائس، الذي كان يستخدمه الآباء الأوائل في تسلية الأطفال والعامة وحتى النبلاء داخل المعابد وغيرها، ويعرضون عبرها قصصاً من الموروثات والأساطير ومنها "إيزيس وأوزوريس". ويرى رئيس قطاع الآثار أن الكاريكاتير لدى المصري القديم كان أحد أنماط النكتة للتعبير عن الأوضاع التي تمثل رمزية ما، ففي أواخر الدولة الحديثة صور رسام انقلاب الأوضاع في صورة فأر يرعى مجموعة من القطط، أو آخر يلعب السيجة مع أسد. [caption id="attachment_122523" align="alignnone" width="700"] الإله "بس"[/caption] بينما تضيف الميرغني أن حرص المصريين على السعادة جعلهم يصنعون معبوداً مخصصاً للمرح والملذات، وهو الإله "بس" الموجود في معبد دندرة. وهو ليس فقط إلهاً للبهجة، بل كان حامياً من الإيذاء والحزن. فكان يوضع تمثال بجوار النائم لمنع الكوابيس، وبجوار السيدات في وقت الولادة، وكان المصريون القدماء يعتقدون أنه يمنح الأطفال الرضع الابتسامة والنوم العميق. وبحسب "معجم آلهة مصر القديمة"، لماريو توسى وكارلو ريو ردا، كانت توضع صورة "بس" أيضاً كوشم على أفخاذ الراقصات والموسيقيات والخادمات، في عصر الدولة الحديثة، كباعث للبهجة. بخلاف "بس"، كان هناك "شسمو" وهو إله العطور والنبيذ والاحتفالات، وكان الشباب يغنون باسمه بينما يضغطون على العنب. كما عبد المصريون "ميريت" إلهة الغناء والرقص، فضلاً عن "حتحور" إلهة الجمال والحب والموسيقى وهي التي أوت "حورس" ابن "إيزيس" وحمته، فصارت أماً للطبيعة.أوقات فراغ؟ لا بأس، فلنقتلها باللعب
استمتع المصريون القدماء بوفرة متنوعة في أنشطة الترفيه، ليس فقط عند الأغنياء الذين يملكون وقتاً كافياً للعب والمتعة، لكن حتى الفلاحون أنفسهم كانوا حريصين على المرح وإقامة الطقوس الاحتفالية. ولم يكن الصيد في مصر القديمة للحصول على طعام فقط، بل للمتعة أيضاً. ففي بعض الأحيان يتم إحضار الحيوانات الشرسة مثل الأسود وفرس النهر في ساحات مغلقة للأثرياء والفراعنة، لاصطيادهم بأسلحة متنوعة من السهام والرماح والعصي. الرياضة أيضاً مثلت ركناً أساسياً في الحياة الترفيهية للمصري القديم، فتمتلىء جدران المعابد القديمة بدلائل على ممارسة الفراعنة العديد من الألعاب الموجودة حتى وقتنا الحالي، وأبرزها الهوكي، والبيسبول، والجمباز، والجودو، وألعاب الكرة المختلفة، فضلاً عن منافسات الملاكمة والمصارعة وألعاب القوى، ورفع الأثقال، والسباحة، وغيرها. بل إنهم عقدوا لها العديد من المهرجانات الرياضية المحلية والدولية، بمشاركة أفضل الرياضيين من بلدان أخرى، وكان يتم منح الفائزين جوائز تشجيعية، بينما يشرف على التحكيم قضاة محليون ودوليون من آسيا وأفريقيا. بخلاف الرياضات البدنية، كان أيضاً للألعاب الذهنية نصيب من مرح الفراعنة. فحرصوا على الاستمتاع بـ"سِنِت"، التي تعد أقدم ألعاب الطاولة وأكثرها شعبية على الإطلاق في تلك الفترة. يرجع تاريخها من 3 آلاف إلى 3500 سنة قبل الميلاد، وتتشابه طريقة لعبها مع لعبة الشطرنج الحالية، وقد وجدت مدفونة في مقابر الأسرة الأولى. وكان يعتقد أنها وسيلة لحماية الموتى في رحلتهم المحفوفة بالمخاطر إلى الآخرة، وكانت الملكة نفرتيتي من أبرز المهتمين بها. هناك لعبة أخرى شهيرة كان يستغلها الفراعنة في قضاء أوقات فراغهم، تسمى "مِحِن". يرجع تاريخها أيضاً إلى عصر ما قبل الأسرات، وهي اللعبة الفرعونية الوحيدة التي يشارك فيها أكثر من شخصين، ومهمتها نقل الموتى إلى الإله رع عبر ظهر الأفعى الأسطورية "مِحِن"، كما كانت تمثل لعبة "كلاب الصيد وابن آوى" أيضاً رحلة الإنسان إلى الدار الآخرة. الأطفال أيضاً كان لهم نصيب كبير من المرح، فحين كان يعيش معظم المصريين بالقرب من النيل برع الصغار في السباحة وألعاب المياه، كما أحبت الفتيات الرقص في حلقات. ووجد علماء الآثار دلائل على أنواع كثيرة من ألعاب الأطفال، منها "شخشيخة الطين"، وألعاب خشبية لحيوانات مثل الأسود وفرس النهر وكرسي الحصان، وغيرها. والعديد من هذه الألعاب لا يزال الأطفال المعاصرون يمارسونها على سبيل المرح، منها "شبر شبرين" و"السيجة" و"النحلة الدوارة.روشتة "مضمونة" للسعادة الزوجية
حتى الحياة الزوجية للمصريين القدماء لم تخلُ من الحث على الرضا، فحسب "الميرغني"، نصح حكيم ابنه في إحدى البرديات بعد تطليق زوجته لأنها عقيمة، بتبني طفل من أبناء الفقراء أو اليتامى لتربيته، وجلب السعاد للمنزل. وهو ما حدث على غرار قصة يوسف. كما كانوا يعتقدون أيضاً أن إدخال الحزن إلى نفوس العبيد أو إساءة معاملتهم جريمة تستوجب العقاب، فيقول المصري القديم في الاعتراف الإنكاري أمام محكمة الآلهة: "أنا لم أسء معاملة الخدم، ولم أتسبب في بكاء أحد". كانت البهجة حينها حجر الأساس في بناء جدران كل منزل. ويشير بسام الشماع إلى أن الوزير "بتاح حتب" قال لابنه: "إذا تزوجت امرأة وكانت مرحة ويعرفها جميع أهل مدينتها، وكانت لها جاذبيتها كل لحظة، ترفق بها وأطعمها جيداً". كما يوصي آخر ابنه، قائلاً: "أحب زوجتك من قلبك فهي شريكة حياتك، املأ بطنها بالطعام، واكسِ ظهرها بالدهان، واشرح صدرها ما عشت". كما يقول الحكيم "آني" في نصائحه لابنه: "عندما تمسك زوجتك بيدك فإن هذا شيء طيب وسعيد، الناس يهللون لك عندما تكون فرحاً".حتى الموت، رحلة انتقال لحياة أكثر سعادة
يؤكد الشماع أن اهتمام المصريين بالبهجة انعكس على أسمائهم، فذيّل الكثيرون منهم أسماءهم بكلمة "حِتِب" وتعني السلام أو الرضا أو السعادة، ومنهم أمنحتب الثالث الذي بنى معبد الأقصر، والطبيب والكاتب الملكي ومهندس هرم سقارة إيمحتب، فضلاً عن إيعاح حتب والدة إيعاح مس "أحمس"، وكلمة "حب" التي تعني العيد، ومنها سمي "حر إم حب" – حور محب. ويضيف: "الدولة المصرية القديمة كانت صاحبة حضارة بهجة وفرح وسلام، وهذا لا يتعارض مع طقوس الحزن التي كانت لها وقتها أيضاً. فلم يكن المصريون ينحتون مقابرهم منذ الولادة حتى الممات، إلا أن الاهتمام المفرط بمقابر الملوك والنبلاء وتجاهل أنماط الحياة العادية للشعب هو ما عزز هذا المفهوم الخاطىء، بل إن هناك نصاً قديماً من نصوص "الطلوع في النهار"، أو ما يعرف بـ"كتاب الموتى"، يقول: "إنني أسير بخطى واسعة سعيد القلب"، وهذا دليل على حرصهم على البهجة حتى في الرحلة إلى العالم الآخر. ويرى د. أيمن عشماوي أن مشكلة البعض ظنهم أن حديث المصري القديم عن الموت كان دافعه الخوف، لأن أكثر من 60% مما بقي لنا من آثار المصري القديم هي قشور المقابر، إلا أن الفراعنة كانوا يرونه غير ذلك. فهو انتقال لحياة أكثر رخاءً وأقل تعباً، يستمتع فيها بالجنان والحقول الشاسعة والفاكهة والأشجار المثمرة أكثر مما عليه في الحياة الدنيا.أين ذهب كل هذا الجمال؟
بحسب رئيس قطاع الآثار، لم يتغير نمط الحياة بين مصر القديمة والحديثة حتى هذه اللحظة. ويقول: "لانزال نعيش بالشكل الذي كان عليه أجدادنا، خصوصاً في القرى والمناطق البعيدة عن أجواء المدنية إلى حد ما، وهذا ما تجسده حالة الرضا التي يعيشها المصري منذ ما قبل التاريخ، حتى عندما تضيق به الأوضاع يلجأ إلى النكتة للتخفيف من همومه والسخرية من الواقع". وتشدد الميرغني على اختلاف السعادة لدى المصري الحديث بشكل كبير عن أسلافه، وتقول: "يرجع ذلك إلى انفصالنا عن تاريخنا الذي لم يعد الكثيرون يحترمونه أو يقرأونه، فبعد عصور الأسرات فقدت مصر هويتها ورونقها المعروف عنها، كما انسحق الإنسان في العولمة الحالية التي قللت شعوره بالسعادة بسبب ضغوط الحياة اليومية، ولا خلاص من ذلك سوى تربية صغارنا على حب الحياة والاستمتاع بها على غرار الأجداد، وهذا هو السبيل الوحيد لإعادة صنع الحضارة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...