رغم عدم وجود أي أثر أو نقش - حتى الآن - يشير إلى نوتات الموسيقى المصرية القديمة، إلا أن أستاذاً جامعياً في مصر كوّن فرقة موسيقية هدفها إحياء موسيقى الفراعنة وإعادة الاعتبار لها.
نستشف أهمية الموسيقى والرقص في الثقافة المصرية القديمة من الآلات الموسيقية المنتشرة في المتاحف في جميع أنحاء العالم، ومن النقوش العديدة التي تصور راقصين وموسيقيين، ومشاهد ولائم احتفالية، خاصة ما اكتشف من آثار الفترة التي تعرف بـ"الإمبراطورية المصرية" (1550 ق.م. حتى 1069 ق.م.، التي حكمت خلالها الأُسَرُ الثامنة عشر، والتاسعة عشرة، والعشرون).
من الأمثلة الأهم، هو ما وجده علماء الآثار من نقوش لراقصات عند مقابر الفراعنة، وقدّروا بأن للراقصات دور في مرافقة الموتى ونقلهم إلى العالم الآخر.
كانت الموسيقى فناً مقدساً، وكان المصريون ينشدون التراتيل والترانيم والأناشيد والابتهالات في أيام الأعياد العظمى والكبرى للآلهة بمصاحبة ألات موسيقية، كان أكثرها استخداماً في الطقوس الدينية: الصنج والأجراس والـ"سيسترا" (التي ارتبط استخدامها بـ"حتحور"، آلهة الموسيقى والخصب والسعادة)، والسمسمية (وهي آلة وترية).
يقول الدكتور خالد شوقي البسيوني، أستاذ الآثار المصرية في بحثه "مناظر الحياة الموسيقية في مصر القديمة"، إن فرقة موسيقية كاملة تكونت من الكهنة بقيادة عازف قيثارة "مكفوف" (حيث احترف المكفوفون فن الموسيقى)، بمصاحبة رقص الفتيات (وفي بعض الأحيان الشباب أيضاً) والأغاني، وكانت خاصة بالعروض الموسيقية الدينية. تعالوا نتعرف إلى الموسيقى والرقص في المجتمعات الفرعونية...
فرقة مصرية تعيد تصنيع آلات موسيقية وسلم موسيقي من أيام الفراعنة، وتقدم أغانٍ باللغة المصرية القديمةوذكر البحث المنشور في العدد الثاني عشر من مجلة الأثريين العرب أن الموسيقى تغلغلت في كل مرافق الحياة بمصر، وكان لها منزلتها في محاريب العبادة وهياكل المصاطب والقبور، وكذلك الأعياد والأفراح والحفلات والولائم. وكانت الموسيقى تسلية النبلاء في أوقات فراغهم، فنرى زوجة الشريف "مري روكا" في مناظر المصطبة الخاصة بهما في سقارة وهي تطربه باللعب والعزف على الجنك (وهي آلة وترية) حسبما ذكر البسيوني. من أبحاث المختصين بالتاريخ الفرعوني، نعرف أن الموسيقيين قد احتلوا مكانة هامة في مصر القديمة. كان أهمهم على الإطلاق موسيقيو المعابد، يليهم موسيقو الأسرة المالكة، ثم الفنانون الذين يحيون حفلات موسيقة في الولائم.
اهتمام عالمي بإحياء الموسيقى الفرعونية
فكرة إحياء الموسيقى الفرعونية تعود إلى سنة 1990. قال الدكتور خيري الملط، أستاذ الموسيقى بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان، لرصيف22 "في هذا العام انُتدبت للتدريس بمحافظة قنا التي كانت تتبع لها مدينة الأقصر، ما أتاح لي فرصة جيدة للتعرف على الآثار المصرية القديمة عن قرب، ومن ثم انبعت فكرة المشروع". يتابع الملط، "بدأت من الجامعة ونظمت أول صالون ثقافي كان يُعقد بصفة شهرية لمناقشة فكرة الموسيقى الفرعونية وكيفية إحيائها، وكان يحضره متخصصون في علوم أخرى وثيقة الصلة مثل الآثار والأنثروبولوجيا". وفي ديسمبر 2002، نظمت الجامعة أول مؤتمر لإحياء الموسيقى الفرعونية، وكان من بين الحضور 11 مختصاً من سبع دول، أعقبه تشكيل مجموعة عمل ضمت متخصصين من إسبانيا وإنجلترا وكوريا الجنوبية وألمانيا.وفي 2007، أنشأت الجامعة أول دبلومة في الموسيقى الفرعونية، وشق خريجوها طريقهم في أوروبا وأمريكا وحققوا نجاحات ملموسة في هذا المجال، فألقوا محاضرات عديدة في متاحف هامة مثل متحف المتروبوليتان في أمريكا، وكان عليهم إقبال شديد نظراً لأن المجال بكر ولم يتعمق فيه أحد من قبل، وفي نفس الوقت اكتسب الخريجون مهارات تصنيع الآلات الموسيقية التي كان يستخدمها المصريون القدماء، بحسب الملط. ثمّ بدأ تصنيع الآلات الموسيقية التي كان يستخدمها المصريون القدماء. فكما أوضح الملط، كان لدى الفراعنة 13 نوع من العود تختلف في النغمات وطبقات الصوت، تمت إعادة تصنيعها، وكذلك أيضاً الكمنجة والمزمار البلدي المزدوج والطنبورة (السمسمية) بأشكالها المختلفة، وتشكلت فرقة "أحفاد الفراعنة" على غرار الفرق الموسيقية القديمة، التي طافت عدداً من دول العالم وقدمت عروضاً مختلفة.السلّم الموسيقي الفرعوني ليس عربياً إلا أنه جزء هام من التراث الثقافي المصري الذي لم يتوقف شغفه بالموسيقى
موسيقى مستلهمة
وقال "عندما عزفنا على الكمنجة التي أعدنا تصنيعها كآلة وترية أنتجنا سلم رصد موسيقي مثل الذي أنتجه الناي كآلة نفخ وكذلك الطنبورة، ما يعني وجود سلم موسيقي ومقامات واحدة مشتركة كانت موجودة في مصر القديمة". وأوضح أن معاهد الموسيقى العربية تدرس السلم الموسيقى الفرعوني أو المقامات المصرية القديمة على أنه عربي، وهذا خطأ جسيم. وقدمت موسيقى مستلهمة من البيئة الفرعونية باستخدام الآلة والسلم الموسيقي، باعتبارهما جناحين أساسيين للموسيقى الفرعونية، إضافة إلى قراءة المجتمع القديم والتعمق في معرفة عاداته وتقاليده، وكذلك ألحانه وأين كانت تعزف، وكيف كانت تُطوع لخدمة العقيدة. ومن هنا مزجت الفرقة الجو العام للمجتمع بالجو الغنائي. فمثلاً كشفت الجداريات والنقوش أن المغنيين كانوا يضعون أيديهم على أذانهم وهم يغنون. بحث الملط أيضاً عما إذا كانت هناك نوتة موسيقية، إلا أنّه لم يتم العثور على أي أثر أو نقش – حتى الآن – يشير إلى وجودها وهذا ليس غريباً، فحتى عقود قريبة لم تكن توضع نوت أمام العازفين المصريين، حيث كان التلحين سماعياً، كما ذكر أستاذ الموسيقى. قامت الفرقة بتأليف عدد من الألحان وملائمتها مع السياقات الاجتماعية، فمثلاً الموسيقى التي كانت تعزف داخل المعابد أثناء الطقوس الدينية لها معطياتها الخاصة، وكذلك الاحتفالات الدنيوية، مثل الاحتفال بأعياد الميلاد حيث كانت الأسرة تستعين بعازفين لعزف ألحان معينة يرقص عليها الأطفال. واختتم الملط، أنه في المرحلة الأخيرة قد قام بتركيب الموسيقى الفرعونية على أغاني مصرية قديمة دُونت في النصوص الهيروغليفية.الغناء باللغة المصرية القديمة
في حفلاتها، تغني الفرقة باللغة المصرية القديمة. قالت الدكتورة أسماء محمود كارم، عضو الفرقة، لرصيف 22. لم نجد صعوبة في ذلك لأن المصريين في قرى الصعيد والوجه البحري ما زالوا يستخدمون ألفاظاً كثيرة من مفردات هذه اللغة، إضافة إلى أننا نستخدم نفس المقامات الموسيقية المستخدمة الآن مثل الخماسي والرست. أضافت كارم، نقوم بشرح معنى الأغنية للجمهور قبل أدائها، ويؤديها طلاب بكلية التربية الموسيقية درسوا اللغة الهيروغليفية، وقد نغنى في بعض الحفلات باللغة القبطية باعتبارها امتداد للغة الهيروغليفية. وذكرت أن عدد الفرقة في كل حفلة يتراوح من 8 إلى 10 عازفين من بينهم منشد أو منشدين اثنين، وهذا هو عدد أعضاء الفرقة الغنائية في الدولة المصرية القديمة.حفلات عالمية ومحلية
شاركت الفرقة في حفلات كثيرة تستخدم فيها الآلات الموسيقية الفرعونية التي تمت إعادة تصنيعها، من بين أنجحها حفلات أقيمت في المتحف القومي للآلات الموسيقية بالعاصمة الألمانية برلين، وثلاث حفلات في إسبانيا، واحدة منها تزامنت مع مباراة بين برشلونة وريال مدريد، ورغم ذلك لم يكن هناك مقعد خال في القاعة، وشاركت الفرقة في حفلات في فرنسا أيضاً. وأضاف "تلقيت دعوات من مسؤولي متحف الحضارة في هونج كونج، يطلبون ألحاناً فرعونية لعرضها مع سيناريو العرض المتحفي لست مومياوات سيستقبلها المتحف من المتحف البريطاني. وتعاونت مع محطة الـ "بي بي سي 2" البريطانية لتصوير عدد من ألحان الفرقة داخل معبد دير البر الغربي في الأقصر". كما أنّ إحدى الشركات الدولية التي تصمم ألعاباً إلكترونية ستصمم ألعاباً عن الفراعنة، وطلبت ألحاناً لتركيبها على ألعابها. أحيت الفرقة حفلين أمام معبد الأقصر، وكذلك في وكالة الغورى وقصر الأمير طاز بالقاهرة في ديسمبر الماضي، وشهدت هذه الحفلات إقبالاً جماهيرياً.تجاهل وادعاءات
إن تجاهل وزارة الثقافة المصرية لمشروع إحياء الموسيقى الفرعونية دفع أعضاء الفرقة للسّفر إلى أوروبا، مثل محمد ماجد العازف والملحن بالفرقة. وفي الوقت الذي تعاني فيه الفرقة من تجاهل المؤسسات الثقافية الرسمية، فإن إسرائيل تحاول القفز على المشروع بزعمها أن الموسيقى الفرعونية تراث يهودي يرجع إلى عصر بناة الأهرامات، كما أشار الملط.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...