في الأول من شهر محرم، يحتفل ما يزيد عن المليار ونصف مليار مسلم حول العالم، برأس السنة الهجرية الجديدة. تلك المناسبة العظيمة، ارتبطت في عقول أصحابها ببعض المفاهيم الخاطئة والمعلومات الملتبسة والمغلوطة، والتي توافقت مع بعضها البعض، لخلق حالة من حالات الذاكرة الشعبية البعيدة كل البعد عن الأحداث التاريخية، والتي سنتعرض لتفنيد بعض جوانبها في هذا المقال، مستندين على قواعد وشروط علم الحديث وما ارتبط به من قواعد لقبول الرواية أو تضعيفها.
الخلط ما بين الهجرة وبداية العام الهجري
اعتاد المسلمون في العصور الحديثة، الاحتفال بذكرى هجرة رسول الإسلام من مكة للمدينة، مع مطلع شهر محرم في كل عام. هذه العادة، خلطت بشكل واضح ما بين ابتداء العام الهجري من جهة، وحادثة الهجرة نفسها من جهة أخرى. فإذا ما عدنا للمصادر الإسلامية القديمة التي أرّخت لحادثة الهجرة، ومنها على سبيل المثال السيرة النبوية لابن هشام (تـ.218هـ)، والروض الأُنف لأبي القاسم السهيلي (تـ.581هـ)، وجدنا أن هناك اتفاق على أن الرسول الكريم قد خرج من مكة في أواخر شهر صفر، وأنه قد دخل المدينة في النصف الأول من شهر ربيع الأول، ومعنى ذلك أن الهجرة لم يكن لها أي علاقة بشهر محرم، الذي تبتدأ به السنة الهجرية. ولفهم الكيفية التي ارتبطت بها الهجرة بشهر محرم، يجب أن نرجع للروايات المتعلقة باعتماد حادثة الهجرة كتاريخ رسمي ومعتمد في الدولة الإسلامية. الرواية الأشهر فيما يخص التقويم الهجري، تُنسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فعندما اتسعت الدولة الإسلامية، وأضحت الرسائل تقدم إلى الخليفة من شتى الأمصار، صار من الصعب أن يُعرف توقيت الرسالة من الشهر وحده. بحسب ما يذكر ابن كثير (تـ.774هـ) في كتابه البداية والنهاية، أنّ رجلاً جاء إلى عمر ومعه رسالة أو صك، وقد تم تأريخه بشهر شعبان، فاحتار الخليفة ولم يعرف إذا كان المقصود شعبان من هذا العام، أو شعبان من العام السابق، فعرض أمره على الصحابة، ولما أشار عليه علي بن أبي طالب بالتأريخ منذ هجرة الرسول، وافق الخليفة وأقره على رأيه، وبذلك أضحت سنة 622م –وهي التي جرت فيها أحداث الهجرة النبوية- توافق العام الأول من الهجرة.على الجانب الأخر، فإن بعض الأراء الشيعية، تقول بإن الرسول الكريم هو أول من أرخ بالهجرة، وأنه قد استخدم ذلك التأريخ منذ وصل إلى المدينة، ويستدلون على ذلك ببعض الروايات المتناثرة في بعض الكتب، مثل التنبيه والإشراف للمسعودي (تـ.346هـ)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (تـ.571هـ)، وصبح الأعشى للقلقشندي (تـ.821هـ).
ولكن ومع ذلك الاختلاف، فإن جميع الأراء تتفق على أن عمر بن الخطاب، هو الذي اختار شهر محرم، ليكون الشهر الأول في العام الهجري؛ ورغم أنه لا توجد معلومات دقيقة عن السبب الذي دفعه لهذا الاختيار، فإنه من الممكن أن نفسره بما ورد في كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري (تـ.395هـ)، حيث قال إن عمر أراد أن تكون جميع الأشهر الحرم الأربعة (ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، رجب) في عام واحد، وهو الأمر الذي لن يتأتى في حالة أن ابتدأ العام بشهر ربيع الأول.
وقعت الهجرة في ربيع الأول، فلماذا يحتفل المسلمون بها في محرم
كيف صيغت حكاية الهجرة النبوية من الأحداث التاريخية والمخيلة الشعبية
قصص الهجرة
قصة هجرة الرسول إلى المدينة، بفضل زخم وكثرة أحداثها وتنوع تفاصيلها ودقائقها، قد ارتبطت بمجموعة من الروايات الضعيفة والموضوعة، والتي استطاعت مع مرور الوقت وتقادم العصور، أن تحتل مكانة مهمة وراسخة في وعي وأذهان المسلمين وذاكرتهم الجمعية المقدسة. أولى تلك الروايات الضعيفة، ما تواتر عن دور إبليس في دار الندوة، عندما ناقش مشركي مكة طريقة التخلص من رسول الإسلام قُبيل الهجرة، حيث تذكر الرواية أن إبليس قد أشار على القوم بالاشتراك في قتل الرسول حتى يتوزع دمه على جميع القبائل. وردت تلك الرواية في كتب مثل دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وتفسير الطبري، والطبقات الكبرى لابن سعد، ولكن رغم ذلك فإن معظم علماء الجرح والتعديل المسلمين، قد شككوا في سندها، وهو ما جعل الباحثة سميحة حسن الأسود، تؤكد في دراستها المعنونة بالروايات الواهية في هجرة النبي وأثرها على الأمة، أن "الإسناد ضعيف جداً لا يرتقي إلى درجة الضعيف، فهو دون ذلك، ولا يصلح للاستدلال مطلقاً، والله تعالى أعلم". ومن أشهر الروايات الضعيفة المرتبطة بالهجرة، ما قيل بإن عمر بن الخطاب قد هاجر جهراً، وأنه قُبيل خروجه من مكة، قد تحدى مشركي قريش، وقال لهم "من أراد أن يُثكل أمه أو يُرمل زوجته أو ييتم ولده، فليلقني وراء هذا الوادي".تلك الرواية، التي رويت عن طريق علي بن أبي طالب، طبقت شهرتها الآفاق، وذكرها بعض من كبار العلماء في مصنفاتهم وكتبهم، مثلما فعل ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن الأثير في أُسد الغابة. ولكن رغم ذلك فإن معظم علماء الحديث يكذبون تلك الرواية، ويأخذون برواية أخرى صحيحة وردت في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد، وقد جاء بها أن عمر قد اتفق على الهجرة سراً مع اثنين من الصحابة، ولكن لما قبضت قريش على أحدهما، فقد اضطر عمر وصاحبه عياش بن أبي ربيعة أن يتركا مكة سراً على عجل خشية افتضاح خطتهما. ومن المرجح أن الرواية الرمزية عن هجرة عمر جهراً، قد ظهرت وصيغت في سياق التنافس المذهبي الشيعي –السني المحتدم، فإذا كان علي بن أبي طالب -وهو رمز المذهب الشيعي- معروفاً بشجاعته وإقدامه وجسارته، فقد وجد بعض السنة في شخص عمر بن الخطاب معادلاً موضوعياً له، فعملوا على توظيف ما ورد عن شجاعته وبأسه، فكانت تلك الرواية التي وضعوها على لسان علي بن أبي طالب نفسه، إمعاناً في المحاججة المذهبية مع الآخر الشيعي.
الرواية الثالثة، تتصل بما جرى للرسول وأبي بكر في غار ثور أثناء اختبائهما من ملاحقيهم، حيث شاع أن حمامتين قد رقدتا أمام الغار، وأن عنكبوتاً قد نسج خيوطه على بابه، وأن حية قد لدغت أبي بكر، فوضع الرسول يده في فمه ثم مسح بها على قدمه فبرأ بإذن الله. وقد وردت تلك الأخبار، في كتب مشهورة مثل البداية والنهاية لابن كثير، وكنز العمال للمتقي الهندي، والدر المنثور للسيوطي، ولكن رغم ذلك فإن أحداً من أهل الحديث، لم يثبتها أو يجزم بصحتها، لأنها رويت بدون سند موثق، وكان العلامة ناصر الدين الألباني ممن بين ضعفها وتهافتها، حيث قال عنها في كتابه سلسلة الأحاديث الضعيفة: "وأعلم أنه لا يصح حديث في عنكبوت الغار والحمامتين، على كثرة ما يذكر ذلك في بعض الكتب والمحاضرات التي تُلقى بمناسبة هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكن من ذلك على علم". أما الرواية الرابعة، فهي ما ورد من إنشاد أهل المدينة لقصيدة "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع" لما استقبلوا الرسول أول ما جاء إلى يثرب، ذلك أن ثنيات الوداع هو مكان يحيط به الكثير من الاختلاف والتضارب، ويذكر ابن القيم الجوزية في كتابه زاد الميعاد، أن "ثنيات الوداع هي ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه للشام"، ومعنى ذلك أنه كان يستحيل أن يستقبل الأنصار الرسول عند ثنيات الوداع، لأنها تقع في شمال المدينة، في طريق الشام، على اعتبار أنه الرسول الكريم دخل المدينة من جهتها الجنوبية. وهناك من العلماء والمؤرخين، من قال بإن الشعر المذكور، قد قيل أثناء رجوع الرسول الكريم من غزوة تبوك في العام التاسع من الهجرة، بينما ذهب عدد من الباحثين المعاصرين، ومنهم الدكتور أنيس بن أحمد الأندنوسي، في أحد أبحاثه، إلى أن ذلك الشعر يرجع إلى القرن الثالث الهجري.
دار الهجرة: العلاقة التاريخية ببني هاشم
من المعروف أن دار الهجرة، كانت تُعرف قبل وصول الرسول، بيثرب أو أثرب، ولم يكن لها اسم غير ذلك بحسب ما يذكر ابن القيم في زاد الميعاد. وكعادة الرسول الكريم في تغيير الأسماء التي لها صفة الكراهة أو الذم، فقد ساءه أن تسمى دار الهجرة بيثرب، لأن تلك الكلمة قد اشتقت من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، ولذلك قام الرسول بتغيير اسمها إلى طابة أو طيبة. ورغم ذلك فقد عُرفت يثرب باسم المدينة أو مدينة رسول الله، وبذلك الاسم تمت الاشارة إليها في معظم مواضع القرآن الكريم، وفي الكثير من الأحاديث النبوية والروايات التاريخية، فصار ذلك الاسم هو أشهر أسمائها على الإطلاق.منظر عام للمدينة المنورة قديماً[/caption] أما عن سكان المدينة، فمن المعروف أن بعضهم كانوا من اليهود أما معظمهم فكان من قبيلتي الأوس والخزرج، وهما –بحسب الاعتقاد التقليدي-قبيلتان قحطانيتان، عاشتا في أرض اليمن ردحاً من الزمن، وظلتا تستوطنان هذا المكان، حتى انهار سد مأرب في حدود عام 575م، فهاجروا إلى موضع يثرب وعمروها ومارسوا بها حرفة الزراعة التي كانوا قد اعتادوا عليها وألفوها. ومن النقاط التي قد يجهلها الكثير من المسلمين، أن المدينة قد شهدت إقامة علاقة تاريخية وطيدة ما بين سكانها من جهة وأجداد الرسول من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يمكن اعتباره بمثابة المقدمة والتمهيد للهجرة وبداية دولة الإسلام على أرضها فيما بعد. فبحسب ما أورده ابن هشام، فإن جد الرسول، هاشم بن عبد مناف، كان قد زار يثرب في إحدى أسفاره، وتزوج فيها من سلمى بنت عمرو، وهي من بني عدي بن النجار، وولد لهما بعد ذلك ابنهما شيبة الحمد، المشهور باسم عبد المطلب، وهو الجد الأول للرسول الكريم.
بحسب ابن هشام، فإن سلمى كانت قد اشترطت على هاشم قبل الزواج منه، أن تبقى في يثرب وألا تتركها، فلما مات عنها زوجها، بقت مع ابنها حتى بلغ الثامنة أو التاسعة من عمره، وبعدها رجع إلى قريش في صحبة عمه المطلب ليرث أبيه ويتزعم عشيرته. العلاقة ما بين أجداد الرسول الكريم ويثرب لم تنقطع برجوع عبد المطلب إلى مكة، حيث يذكر ابن هشام أن نوفل بن عبد مناف قد منع عبد المطلب إرثه وأملاكه، فأرسل عبد المطلب إلى أخواله بيثرب مستغيثاً، فقدم منهم 70 أو 80 رجلاً وأجبروا نوفل على أن يرد حقوق ابن اختهم.
هذا الموقف، لم ينساه عبد المطلب أبداً، فكانت صلة الود تجمع ما بينه وبين أخواله اليثربيين، حتى أنه وبعد ولادة الرسول الكريم، حرص على أن يرسل به مع أمه آمنة بنت وهب لزيارة بني النجار في يثرب، فمرضت السيدة آمنة في طريق الرجوع، ودفنت بالأبواء الواقعة على الطريق ما بين مكة والمدينة، وبقي قبرها دليلاً للرسول ومرشداً إياه على موضع هجرته ومكان استقواء الدعوة واشتداد عود الدين الإسلامي.كان اليثربيون من أجداد الرسول الكريم، ولم ينقطع ودّهم من أيّام هاشم وابنه عبد المطلب
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...