عبر ما يزيد عن 1400 عام متواصلة من الحضارة العربية الإسلامية، ظهرت العديد من الفرق والمذاهب العقائدية والسياسية والفكرية والفقهية المختلفة.
لم تظهر هذه المذاهب من العدم كما قد يظن الكثيرون، بل أن لها أسباب وظروف ومبررات تاريخية معينة اسهمت في تكوينها وتشكيلها. بعض من تلك الفرق، كُتب له الاستمرار والمواصلة، والبعض الأخر منها ذهب واندثرت أفكاره ومبادئه وكأنها لم تكن.
يحاول هذا المقال أن يبين كيف ظهرت أهم المصطلحات المذهبية، وكيف تشابكت بعض تلك المصطلحات مع بعضها البعض أحياناً، وكيف جرى الفصل فيما بينها في أحيان أخرى. الحرورية، أهل النهروان، أهل الحق والاستقامة، لماذا أطلقت هذه الأسماء على "الخوارج"؟
رغم اعتباره علامة على الانقسام، إلا أن تعدد الفرق يعكس التنوع العقائدي والسياسي في تاريخ الإسلام
الشيعة، الإمامية، الإسماعيلية، والإثناعشرية
مرّ مصطلح الشيعة بالكثير من التغيرات والتبدلات طوال التاريخ الإسلامي، حيث كانت البداية الأولى له لا تزيد عن دلالته اللغوية العامة، والتي تدل على الاتباع والنصرة ليس أكثر، فكان يتم استخدام كلمة الشيعة لوصف بعض الأحزاب التي ظهرت في فترة الخلاف السياسي ما بين المسلمين. على سبيل المثال يذكر الدينوري في كتابه "الأخبار الطوال"، أن الحزب السياسي الذي طالب بالقصاص لدم الخليفة الثالث عثمان بن عفان بعد مقتله، كان يعرف باسم "شيعة العثمانية" أو "شيعة بني مروان"، كما يذكر الطبري في تاريخه، أن أنصار البيت العباسي إبان حقبة الثورة العباسية، كانوا يعرفون باسم "شيعة بني العباس". ومع مرور الوقت، اقتصر لفظ الشيعة على أتباع علي بن أبي طالب وأهل بيته، وصار هذا المصطلح إذا ذكر وحده دون تفصيل أو إضافة، يُفهم منه الحزب السياسي الذي يدعوا أفراده إلى تسليم الخلافة للعلويينطلسم شيعي
ولكن لفظ الشيعة، سرعان ما اقترن بتوصيفات جديدة، بعدما ظهرت الاختلافات ما بين الشيعة وبعضهم البعض. فبعد فترة قصيرة من استشهاد الحسين بن علي في كربلاء عام 61هـ/680م، طالب المختار بن أبي عبيدة الثقفي بالقصاص له، وعُرفت حركته باسم الكيسانية. ورغم ان تلك التسمية قد وقعت في ظروف غامضة وغير واضحة، إلا أن العديد من المتخصصين، ومنهم الدكتور محمود إسماعيل في كتابه المهم عن فرق الشيعة، يرجحون أن كيسان الذي نُسبت إليه تلك الحركة، هو كيسان بن أبي عمرة صاحب شرطة المختار. في عام 125هـ/742م، ظهر عدد من المصطلحات التوصيفية الجديدة المرتبطة بالتشيع، ففي هذا العام تحديداً ثار زيد بن علي بن الحسين على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. بالنسبة للشيعة الذين أيّدوا زيد في ثورته، فقد عرفوا باسم الزيدية، أما القطاع الواسع من الشيعة، والذين رفضوا الانضمام إلى تلك الثورة وخالفوا زيد في بعض المسائل العقائدية المتعلقة بالموقف تجاه كبار الصحابة، فقد سماهم زيد بالرافضة، لكونهم قد رفضوا منهجه والمبادئ التي دعا إليها. وعرفوا في الوقت نفسه باسم الإمامية، لكونهم ادعوا أن الإمام يجب أن يكون منصوص عليه من الله تعالى، وأنه لا حق للبشر في التدخل في مسألة اختياره أو تعيينه. في عام 148هـ/765م، ظهر مصطلحان جديدان مرتبطان بالتشيع، فبعد وفاة الإمام جعفر الصادق، انقسم الشيعة الإمامية إلى فرقتين عظيمتين، الأولى اتبعت إسماعيل بن جعفر، وعُرفت باسم الإسماعيلية نسبة إليه، أما الثانية فاتبعت موسى الكاظم بن جعفر، واشتهرت باسم الموسوية أو الكاظمية، وهي نفسها الفرقة التي سميت في فترة لاحقة باسم الإثناعشرية.
الخوارج، الحرورية، أهل النهروان، وأهل الحق والاستقامة
يعتبر مصطلح الخوارج من أشهر المصطلحات التي جرى استخدامها لتوصيف بعض الأحزاب السياسية في الإسلام. ولعله من الغريب، أن ذلك المصطلح تحديداً، رغم شهرته وذيوعه، هو المصطلح الوحيد، الذي تنصلت كل الفرق والجماعات منه، ولم تنسبه أي فرقة إلى نفسها، وذلك لما فيه من دلالات ومعاني سلبية. البداية الأولى لاستخدام مصطلح الخوارج، كان في بعض الأحاديث النبوية التي وردت في سنن الترمذي وأبي داوود وابن ماجة، حيث ذكرت تلك الأحاديث تحذير الرسول أصحابه من ظهور قوم متدينين في الظاهر، ولكنهم يخالفون تعاليم الدين الحنيف، ويخرجون عن قواعده وأسسه. بعد وفاة الرسول، صار اسم الخوارج اسم علم يطلق على كل من يخالف السلطة والحكم القائم، فأطلق في بعض الأحيان على المرتدين زمن أبي بكر، وعلى ثوار الأمصار الذين حاصروا عثمان بن عفان وقتلوه، ولكن مع ذلك تأخر الاستعمال الرسمي والمعتمد لهذا المصطلح حتى زمن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب. ففي بدايات عام 37هـ/657م، وأثناء القتال الدائر ما بين جيش العراق وجيش الشام في موقعة صفين، رفض فريق من جيش علي مسألة التحكيم وأصروا على استكمال القتال، ولما رفض الخليفة الرابع الانصياع لرأيهم انصرفوا من ميدان القتال، وأعلنوا عن رأيهم في تخطئة كلاً من المعسكرين المتحاربين، ورددوا قول الله تعالى (لا حكم إلا لله)، وعسكروا في منطقة بالقرب من الكوفة تعرف بحروراء.موقعة صفين
بعد ذلك نشب القتال ما بين علي بن أبي طالب وهذا الفريق، حيث هزموا في موقعة النهروان عام 38هـ/ 658م، وقتل الكثير منهم، وفرّت البقية الباقية وتفرقت في عدد من النواحي والمناطق القريبة. من المهم هنا أن نلاحظ أن الاسم الذي عُرف به هؤلاء الخارجين عن سلطة الخليفة الرابع، كان اسم "الحرورية" نسبة إلى منطقة حروراء التي أقاموا فيها، وأنهم قد عرفوا بعد ذلك باسم "أهل النهروان"، نسبة للمكان الذي شهد المعركة التي اندلعت ما بينهم وبين جيش العراق.
موقعة النهروان
من الملفت للنظر كذلك، أنهم لم يعترفوا إطلاقاً، بكونهم هم الخوارج الذين ذكرهم الرسول في أحاديثه، في الوقت الذي أصر فيه كلاً من السنة والشيعة على تسميتهم بهذا الاسم. ومن الأسماء التي أطلقها أهل النهروان ومن تبعهم على أنفسهم، اسم "أهل الحق والاستقامة"، كما أن هناك بعض المصطلحات التي أطلقت على عدد من الجماعات والفرق التي خرجت من رحم العقائد والأفكار الرئيسة لهم، ومن ذلك مصطلح "الأباضية" الذي أُطلق على أتباع الإمام عبد الله بن أباض، ومصطلح "الأزارقة" الذي عُرف به أتباع نافع بن الأزرق، ومصطلح النجدية وهم أتباع نجدة بن عامر. ومن الجدير بالذكر، أنه حتى وقتنا الحاضر، فإنه يتم إطلاق مصطلح الخوارج على بعض الجماعات والفرق الراديكالية الثورية، فقد اعتادت المؤسسات الدينية الرسمية في شتى البلدان الإسلامية على وصف حركات مثل القاعدة والجهاد وتنظيم الدولة الإسلامية، بأنهم من الخوارج.
أهل السنة والجماعة، المعتزلة، الأشعرية والماتردية
من المعروف أن السواد الأعظم من المسلمين عبر تاريخهم الطويل، كانوا يُعرفون باسم السنة، ولكن من المؤكد أن تلك الكلمة قد حملت دلالات ومعاني مختلفة في الكثير من الأوقات. إذا ما رجعنا للمعنى اللغوي لكلمة السنة، لوجدنا أن المقصود بها هو الإتباع والاقتداء، فهي تشير إلى الأخذ والتمسك بشكل معين من التقاليد والعبادات والمعاملات. وفي الوقت ذاته، فإن كلمة السنة قد تعني الحديث الشريف، وما يتضمنه من أقوال الرسول واقراراته وأفعاله وأخلاقه الشريفة. ولم تظهر كلمة السنة في معرض المصطلحات المذهبية في الإسلام بشكل واضح، إلا في بدايات حكم الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، حيث ورد في بعض المصادر، مثل "تجارب الأمم" لمسكويه و"الأخبار الطوال" لأبي حنيفة الدينوري، أن معاوية قد وصف عموم المسلمين ممن انضوى تحت لواء حكمه وأطاعه بعد صلحه مع الحسن بن علي في عام 41هـ/661م، بأنهم من أهل السنة والجماعة. وكان المقصود من ذلك المصطلح في هذا الوقت، وصف عامة المسلمين الذين ارتضوا الانصياع لسلطة الدولة الأموية، وكفّوا عن التصدي لسلطانها أو الثورة عليها.باب المزينين، جامع الأزهر
في تلك المرحلة المبكرة من ظهور ذلك المصطلح، ارتبط به مصطلح أخر مشهور، وهو المعتزلة، والذي كان يعني في بداياته اعتزال الفتنة والحرب والوقوف على الحياد السياسي، حتى تتبين الصورة النهائية، ويستطيع أحد الأطراف المتحاربة أن يسيطر على الموقف بصورة كاملة. ورغم التماهي والتداخل ما بين مصطلحي السنة والمعتزلة في الفترة الأولى من ظهورهما، إلا أنه وبدايةً من أواسط القرن الثاني الهجري، قد جرى الفصل ما بين المصطلحين، وذلك عندما ظهرت أفكار وسمات مميزة لكل منهما. ففي الوقت الذي مال فيه أقطاب المعتزلة من أمثال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن بعدهما أحمد بن أبي دؤاد وغيره، إلى إعمال العقل في فهم الدين، وتفسير صفات الله وأسمائه بشكل عقلاني متجرد، فإن أئمة السنة وعلى رأسهم أحمد بن حنبل قد أصروا على الأخذ بحرفية النصوص، في كل ما يخص تفسير القرآن والحديث النبوي. من هنا، صار يقصد بمصطلح أهل السنة والجماعة، أهل الحديث الذين يلجؤون إلى المنهج السلفي للتعاطي مع أحكام الدين والشريعة. وفي أواخر القرن الثالث الهجري، وأوائل القرن الرابع، ظهر مصطلحان جديدان مرتبطان بالسنة، وهما مصطلحي "الأشعرية" و"الماتردية". المصطلح الأول يُنسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري المتوفى في 330هـ/941م، أما المصطلح الثاني فينسب إلى الإمام أبي منصور الماتريدي المتوفي 333هـ/944م. وقد مثل كلاً من الأشاعرة والماتردية خطاً وسطاً ما بين المعتزلة وآهل الحديث، حيث حاول المذهبان أن يقرّبا ما بين الطرفين، فانتهجا طريقاً يعمل على الجمع ما بين العقل والنقل في فهم النصوص الدينية. ومع مرور الوقت، كتب لهاذين المذهبين أن يُحققا مساحة واسعة من الانتشار في جميع البلاد الإسلامية منذ وقت ظهورهما وحتى الأن، حتى صارا المذهبين العقائديين المعتمدين في أغلب الجامعات والمؤسسات الدينية الرسمية، في الوقت الذي استمر فيه حضور المذهب السلفي وأهل الحديث في بعض المناطق، وصار الطرفان يتنازعان على لقب أهل السنة والجماعة.
المصادر والمراجع: الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري؛ تجارب الأمم وتعاقب الهمم لمسكويه؛ تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري؛ فرق الشيعة لمحمود إسماعيل عبد الرازق؛ الرؤية الأموية للسلطة لرضوان السيد. صورة المقالة من مقتنيات متحف الفن الإسلامي في قطر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...