يصل غريبٌ إلى مدينة "المتلوي" التونسية، في يومٍ خريفيّ من أيام عام 1972، ويترافق وصوله مع سلسلة من الحوادث الغامضة: السماء تتلبّد، تعم العتمة كل شيء، ساعة الحائط في الحانة تتوقف، تتعطل القطارات، تحرن الحيوانات...
ورغم أن الناس في تلك المدينة متعودون على قدوم الغرباء إليها منذ أن تم اكتشاف الفوسفات فيها، إلا أن شعوراً عاماً بأن هذا الغريب مختلف يسيطر على الجميع.
"فجأة ظهر في طرف السوق، من جهة الجنوب، رجل غريب، مديد القامة، أشعث الشعر، ذو لحية كثة، يرتدي معطفاً طويلاً شبيهاً بمعطف رعاة البقر في أفلام الغرب الأمريكي. اخترق السوق مستقيماً كالرمح ففسح له الناس وعيونهم مشدودة إليه كأن مغنطيساً قوياً يجذبهم جذباً. اتجه الغريب إلى الحانة مباشرة وكأنه على موعد هناك، غير عابئ بمن حوله ولا بما يعتمل في المدينة من قلق وارتباك".
هكذا، تبدأ رواية "الملامية" للكاتب التونسي "محمد الخالدي"، بقدوم الغريب الذي سيناديه الجميع بـ"مولانا"، بعد أن يدركوا أنه واحدٌ من أصحاب البركات والكرامات.
ولكن، كيف لمتصوفٍ متعبدٍ لله أن يزور الحانة كل ليلة ويشرب الخمر؟ وكيف له - حين يحكي عن حياته الماضية - أن يذكر بفخر كل النساء اللواتي مررن في حياته؟
هذا هو رهان الرواية الأول، إذ إنها تحاول نزع هالة القدسية عن المتصوفين، وتحاول إظهارهم بشراً حقيقيين لا ملائكة، يدخلون في هذه الحياة بكل تعقيداتها وتشابكاتها، يعيشون تجاربها وتغريهم مغرياتها.
والرواية حين تصوّرهم على هذه الطريقة لا تفعل ذلك انتقاصاً منهم، بل على النقيض تماماً، إنها تحاول تقريبهم من الناس العاديين، لتقول إنه مهما فعل الإنسان من أشياء في حياته دون أن يؤذي غيره، فإن هذا لا يمنعه من أن يكون متصوفاً متعبّداً طالما أنه نقي القلب، واصلٌ إلى حالة من التوافق بين ما يؤمن به في داخله وما يعيشه مع المحيط الخارجي.
أوليست حياتنا كلها عبارة عن هذا الصراع بين المبادئ والقيم التي نحاول أن نكون عليها وبين الرغبات التي نعيشها ونختارها؟ أليس هذا الصراع هو ما يجعلنا نستحق صفة الإنسانية؟ وهل المظاهر أهم من الجوهر؟
رهان هذه الرواية نزع هالة القدسية عن المتصوفين وإظهارهم بشراً لا ملائكة، لا انتقاصاً منهم بل العكس
كيف لمتصوف متعبد لله أن يزور الحانة كل ليلة؟ وكيف له أن يذكر بفخر كل النساء اللواتي مررن في حياته؟هذه التساؤلات كلها وغيرها، بما تحمله في طياتها من تأملات، تشكّل البنية الأساسية لطريقة في التصوف اسمها "الملامية"، التي تحوي كل الطرق الصوفية الأخرى، لذلك فإن "ابن عربي" و"بوذا" و"الرومي" وكل المتصوفة الذين نعرفهم مهما كانت الطرق التي يتبعونها فإنهم في الحقيقة يتبعون فروعاً من الأصل الذي هو "الملامية". "إنه أول الملامتية أو الملامية في لغة البعض ورأسهم. (...) وحتى لا أطيل عليك فإن الملامتية هم قوم من أهل الطريق أكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب وإظهار الكرامات كما يقول عنهم البعض من المؤلفين فكتموا أسرارهم وأبدوا للخلق عكس ما يبطنونه على خلاف المرائين الذين يظهرون الخير ويبطنون الشر، وكان الناس يلومونهم على ذلك، ومن هنا تسميتهم". تجري معظم أحداث الرواية في الحانة التي يسهر الجميع فيها، وهناك سنتعرف إلى شخصيات ثانوية كثيرة بحكاياتها التي تتفرع وتمتد. يبني الكاتب بالتوازي مع قصة "مولانا" وقدومه، قصة أخرى عن متصوفٍ آخر يتّبع الطريقة الملامية، وهو "إبراهيم" الذي شارك في شبابه في الحرب الفرنسية ضد فيتنام، بعد أن ضمّ الاحتلال الفرنسي الشباب في تونس إلى جيشه. هناك تشاء الأقدار أن يتعرّف الشاب على المعلم "ديونغ هانغ" الذي يشرح له عن البوذية وعن الماندالا وعن الأحجار الكريمة، ويعطيه حكمة ستلازمه مدى حياته: "هناك ديانات وتجارب روحية لا حصر لها، لكنها تنتمي جميعها إلى جذع واحد، وبالتالي فهدفها أيضاً واحد. فالروافد الصغيرة تصب في نهر كبير، وكل الأنهار تصب في نهاية المطاف، مهما تاهت وتعرجت، في البحار والمحيطات". توهمنا الرواية لفترة طويلةٍ أن الحكاية التي تريد سردها هي حكاية لقاء "مولانا" بـ"إبراهيم"، إذ بعد أن تسرد سيرة حياة كل منهما وكيف وصلا إلى الإيمان باتباع الطريقة الملامية في الصوفية، فإنهما يجتمعان مع بعضهما بحضور أول الملاميين "الأخضر الزاهر" الذي عاش في كل العصور منذ بدء الخليقة وحتى الآن. غير أن الحكاية الحقيقية التي تريد الرواية سردها، لكنها لا تكشفها لنا إلا بعد أن تكون قد أنجزت كل فروضها، هي حكاية اتباع مريدٍ جديد إلى هذه الطريقة الصوفية، هو "ماجد" الذي يبرز منذ بداية الرواية كشخصية فرعية. تنمو هذه الشخصية وتتطور ببطء لا يلفت نظر القارئ إلى الشأن الذي سيحوزه في أواخرها، وذلك ضمن لعبة فنية أتاحت للمؤلف أن يتحدث عن أزمنة مختلفة، مستخدماً الغرائبية أحياناً والأمور الخارقة أحياناً أخرى، وموظفاً معارفه حول الديانات الشرقية كالبوذية والطاوية والهندوسية، ومتطرقاً لمواضيع مختلفة لا تقتصر على الصوفية، والنظرة الجديدة لملذات الحياة ورغبات الإنسان فيها، بل تتعداها إلى الحديث عن الاستعمار الفرنسي لتونس، وعن اكتشاف الفوسفات في هذا البلد وما غيّره ذلك في تركيبتها الاجتماعية. محمد الخالدي، شاعر وروائي ومترجم تونسي. حاصل على الماجستير في اللغة العربية من الجامعة المستنصرية في بغداد. يشغل حالياً منصب مدير "بيت الشعر" في تونس. له عشرة دواوين شعرية، كما ترجم عدة كتب أدبية وفكرية، وكتب في السرد: "ما تجلوه الذاكرة ما لا يمحوه النسيان"، رواية "سيدة البيت العالي"، و"الحفيدة". الناشر: منشورات ضفاف/ بيروت ومنشورات الاختلاف/ الجزائر عدد الصفحات: 328 الطبعة الأولى: 2017 يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.