قبل أعوام ليست ببعيدة، وفي إحدى القرى اللبنانية القريبة من الحدود مع سوريا، كانت الأم منهمكة بإعداد "التبولة" بينما يتابع الأب حضور نشرة أخبار الظهيرة على القناة السورية التي يلتقطها تلفازهم أرضياً من دون "ستلايت".
وصلت ابنتهما عائدة من المدرسة. بعد تبادل أخبار اليوم سريعاً، شاركت أبيها استغرابها مما درسته في مادة التاريخ يومها.
"بابا، هل تعلم لماذا يقولون إن لبنان ذو وجه عربي وليس بلداً عربياً؟"، من دون انتظار إجابته أضافت "قالت المعلمة لأننا بلد فينيقي ونتواجد بحكم الجغرافيا في منطقة عربية".
لم تفهم الفتاة إصرار المعلمة وتباهيها "أننا فينيقيين ولسنا عرباً"، فالموسيقى العراقية والسورية التي تصدح في المنزل دائماً وأمها التي تفضل شراء الحاجيات من سوريا لأنها أقرب من بيروت وأوفر، وعادات عالمها الصغير ولهجته، كل ذلك بالنسبة لها يعني أن "لبنان عربي".
جلّ ما فتنها في قصة الفينيقيين كان ذاك "الصباغ الأرجواني" الذي تفننوا بصناعته من صدف "الموريكس" والذي علمت بأنه أصبح نادراً.
في تلك الليلة، تخيلت لبنان شاباً له وجه يشبه وجه ذلك الذي فتنت به في المسلسل البدوي الذي يتابعه والدها، ويرتدي عباءة أرجوانية. لم يكن فصل التاريخ الذي يتحدث عن الحرب الأهلية وأزمة الهوية في لبنان يؤرق الفتاة، فالمنهاج الدراسي قد أسقط الفصل ذاك من كتاب التاريخ المأزوم، ووالدها فضّل أن تكتشفه بنفسها حين تكبر.
مرّت الأعوام وعايشت الفتاة سجال الهوية الذي لا ينفك يزداد تعقيداً، بينما يتراشق اللبنانيون المواقف والاصطفافات من أزمات المنطقة العربية.
وسط هذا الجدل القائم، تخرج بين حين وآخر دراسات علم الوراثة بشأن أصل اللبنانيين، وهي على أهميتها لا تكفي لحسم أصل المشكلة بين من يتباهى بـ"فينيقيته" ليثبت تفوقه وبين من يتمسك بـ"عروبته" نكاية بلبناني آخر، فالحقائق لا تغير القناعات في معظم الأحيان، والعلم يجري تسييسه لخدمة الصراع.
أكثر من ذلك، فقد تنوع استخدام صفة "الفينيقي" بتنوع الظروف. تارة هي محل صراع لبناني - لبناني بين مسيحي ومسلم وبين مسيحي وسني ضد شيعي، ثم تحولت "الفينيقية" إلى تهمة تعادل "العنصرية" يوجهها سوري أو فلسطيني إلى لبناني، وزوادة تباهي يخرجها اللبناني كلما احتاج شعوراً بالتفوق…
هكذا بدت "الفينيقية" أشبه بالإيديولوجية السياسية وكُرّست كحق لبناني حصري، بينما تشير الدراسات إلى كونها إرث مشترك، فالإغريق استخدموها للإشارة إلى سكان الساحلين اللبناني والسوري وجزء من الساحل الفلسطيني.
دراسة جديدة: لبنان كنعاني بأكثر من 90%
تشكل ما خرجت به الدراسة الجديدة التي نشرت نتائجها "المجلة الأمريكية لعلم الوراثة البشرية" (The American Journal of Human Genetics) مناسبة لبنانية للاحتفاء بالأصل الكنعاني/ الفينيقي الذي تفوق نسبته التسعين في المئة، في مقابل انشغال العالم بمخالفة المعطيات العلمية لما جاء في التوراة وما تبنته الرواية الإسرائيلية. قبل الخوض في نتائج وتفاصيل الدراسة، لا بد من محاولة لشرح الميل السائد لاستخدام الكنعانيين والفينيقيين باعتبارهما المصطلح ذاته، بينما لا يخلو الأمر من بعض التمايزات. لا يمكن تأكيد حدود أرض كنعان، ولكن حسب الكتاب المقدس فقد امتدت من مدينة أوغاريت شمالاً إلى جبل الكرمل جنوباً. ومع الإغريق، استخدم مصطلح فينيقيا للدلالة على المدن الساحلية للبحر المتوسط ومنها أوغاريت وصيدا وجبيل وعكا، وامتدت حسب الروايات إلى الداخل للحدود مع البقاع، فكانت بعلبك (مدينة الشمس حسب الرومان) من المواقع الفينيقية. بحسب الدراسة، ترتبط أصول اللبنانيين بالفينيقيين أكثر من ارتباطها بأي شعوب أخرى، فـ93% من جيناتهم حالياً تتطابق مع جينات الكنعانيين الذين عاشوا في سوريا ولبنان خلال العصر البرونزي قبل آلاف السنين، في حين أن البقية خليط أوراسي من الآشوريين والفرس والمقدونيين، الذين قدموا فاتحين أو مهاجرين.مفاجآت المقابر وأهمية النتائج
على مدى 19 عاماً، عثر علماء الآثار في مدينة صيدا اللبنانية على 160 مقبرة كنعانية وفيها وجدت جرار كبيرة تعود إلى ما بين 1900 و1550 سنة ق.م، بحسب مديرة الموقع كلود ضومط سرحال. بمساعدة "معهد ويلكام تراست سانغر" الإنكليزي المتخصص في استخدام تقنيات جديدة لجمع عينات الحمض النووي، تم إيجاد 5 هياكل عظمية لكنعانيين عاشوا بين عامي 3750 و3650 ق.م يمكن استخراج الجينوم منها، وجرت مقارنتها بقاعدة بيانات المعلومات الجينية حول مئات السكان، ثم بجينومات 99 لبنانياً يعيشون حالياً في البلاد، تؤكد الدراسة أنه جرى اختيارهم بعناية ودقة تراعي متطلبات الدراسة الجينية.عامل توحيد
بدا الباحث في "معهد ويلكام تراست سانغر" الإنكليزي مارك هبر، وهو مشرف على الدراسة مع باحثين آخرين، مدهوشاً من النتائج. يشرح أنه خلافاً للحضارات التي عاشت في ذلك العصر، والتي تركت آثاراً عديدة يمكن دراستها كما في مصر واليونان، فالكنعانيون لم يتركوا الكثير وراءهم وبقي ماضيهم غامضاً تلفه الأسرار، بعدما دمرت سجلاتهم على مر القرون. المدهش بالنسبة لهبر، وفق ما نقلت "نيويورك تايمز"، هو أن جينات الكنعانيين لا يبدو أنها تغيرت كثيراً منذ العصر البرونزي وحتى اليوم، كما أظهرت النتائج. يقول هبر إن "علوم الوراثة تمتلك من القوة لتجيب عن أسئلة تعجز أمامها السجلات التاريخية أو المواقع الأثرية"، وهو ما توافقه عليه ضومط لتؤكد على أهمية الدراسة في"كشف خفايا من الماضي المشترك الذي يُفترض أن يوحّد اللبنانيين على اختلاف دياناتهم". بدوره، وبينما يؤكد الباحث في "معهد ويلكام تراست سانغر" كريس تايلر سميث على أن النتائج هي كما العثور على قمة جبل الجليد، وظهورها يعد حلقة مفقودة من الحلقات الأخرى التي ينبغي استكمال البحث عنها، يحذر من مغبة الخروج بخلاصات جازمة استناداً إلى دراسات جينية للماضي السحيق. برأيه "قد تتشابه المجتمعات ثقافياً بينما تختلف جينياً، والعكس صحيح كذلك".إحياء نقاش الكنعانيين في التوراة
يعلق عالم الآثار الإسرائيلي عساف ياسر - لندو، الذي سيصدر له كتاب عن الكنعانيين، على الدراسة فيقول إن "هؤلاء هم سرّ ضخم بالنسبة لنا، ولذلك فكل دراسة جينية أو ثقافية أو دينية أو سياسية عنهم تفيد في فهم تشكل الرواية التوراتية بخصوص الكنعانيين في الألفية الأولى". وتعليقاً على الدراسة كذلك، يتساءل تقرير لـ"ناشيونال جيوغرافيك" عن الكنعانيين في التوراة: هل كانوا أشرار أم خيّرين؟ تصور الروايات التوراتية الكنعانيين عموماً كأعداء للإسرائيليين الأوائل، فهؤلاء قد غزوا الأراضي الكنعانية وأبادوا شعبها. وبحسب الروايات نفسها نقرأ "الأمر الإلهي" كالتالي "تحلِّلون إبادتهم، وهم الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحوِّيون واليبوسيون، كما أمركم الرب إلهكم" (تثنية 20:17، الترجمة العربية الجديدة). تقول "ناشيونال جيوغرافيك" إنه حتى الآن ليس ثمة دليل أثري على تدمير واسع النطاق للمستوطنات الكنعانية، كما وصف في الكتاب المقدس، ويعتقد كثير من العلماء أن الإسرائيليين، الذين يظهرون بداية العصر الحديدي، قد تكون أصولهم كنعانية. من جانبها، علقت صحف أجنبية وإسرائيلية عدة كـ"الإندبندنت" و"تايمز أوف إسرائيل" على تناقض نتائج الدراسة مع روايات التوراة التي تحدثت عن إبادة الكنعانيين بين العصرين البرونزي والحديدي، في حين ظهر أحفادهم في لبنان وعلى نطاق واسع.دراسات سابقة وجدل مستمر
ضمن مشروع "الجينوغرافي" وبتمويل من "ناشيونال جيوغرافيك"، نشرت في العام 2008 دراسة للاختصاصي في علم الوراثة بيار زلوعة حول متابعة وتثبيت الانتشار الفينيقي عبر البحر المتوسط، وتبين أن "السكان المنتشرون على الساحل المشرقي يحملون تقريباً الجينات نفسها". الدراسة، التي نشرتها "المجلة الأمريكية لعلم الوراثة البشرية"، طالت لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وأكدت أن "نسبة تشابههم (الجينية) أكثر من نسبة اختلافهم"، وعلق زلوعة حينها قائلاً "الجينات ليست حكراً على طائفة معينة. فقد يكون حامل الآثار الفينيقية، مسيحياً أو مسلماً… الفينيقيون عاشوا قبل الديانات والانقسامات الجغرافية والسياسية". وتثبت الدراسة أن اللبنانيين، لا سيما سكان الساحل، وإن كانوا يحملون علامات وراثية فينيقية إلا أن هناك دلائل تشير إلى وجود مؤثرات كبرى أخرى تركت مخزونها الوراثي لديهم وهي الغزوات العربية والصليبية والتركية أو السلجوقية. وعثرت الدراسة، التي استمرت أربع سنوات بتمويل وصل إلى مليون دولار، على آثار جينية كثيرة مصدرها شبه الجزيرة العربية تعود إلى تاريخ الفتح الإسلامي غالباً، وأخرى إلى الحملات الصليبية. بينما يسعى الباحثون لكشف حلقات مفقودة علمياً، وبعد أن انتهت الحرب الأهلية وانتهى معها افتراضاً السجال على الهوية العربية، بقيت هذه الهوية استنسابية، مرهونة باستخدامها كأداة بيد كل طائفة لإثبات شرعيتها التاريخية ومشروعها السياسي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...