عبر التاريخ الإنساني الطويل، لم يكن الزواج مجرد اتفاق مجتمعي تُشرعن عن طريقه العلاقات العاطفية ما بين المتحابين والعشاق فحسب، بل كان في الكثير من الحالات وسيلة ذات مضامين اقتصادية وسياسية وسلطوية هامّة. فإذا كانت الحروب هي التجلي الأكثر فظاعة ووحشية لحل المشكلات السياسية ما بين الأُسر الحاكمة والدول المتنافسة، فإن القصور التي عُقدت فيها حفلات الزواج والمصاهرة، كانت الوجه الأكثر دبلوماسية وإنسانية لحل تلك المشكلات المستعصية. يتناول هذا المقال ثلاثة نماذج للمصاهرة السياسية، لنرى كيف شرعنت في بعض الأحيان لقيام دول، وكيف ساهمت في أحيان أخرى لوحدة دول، وكيف تم استخدامها أحياناً، لوأد النزعة العرقية، واقناع المغلوبين بالانضواء تحت لواء المتغلّب.
طغرلبك وابنة الخليفة العباسي القائم بأمر الله
في الكثير من الأحيان، كانت المصاهرة حلاً ناجعاً، لتغيير الانطباع عن النسب والأصل والمنشأ، كما أنها كانت في أحيان أخرى السبيل الوحيد للاعتراف بشرعية الحكم والسلطة.
من أهم الأمثلة التي تبيّن مصداقية تلك القاعدة، تلك المصاهرة التي تمت ما بين السلطان السلجوقي طغرلبك والخليفة العباسي القائم بأمر الله في عام 455هـ/1063م.
كان السلاجقة قبائل بدوية تركية الأصل، تناثرت في المنطقة الواقعة ما بين بلاد ما وراء النهر وبلاد فارس، ودخلوا في صراعات متكررة مع الدولة السامانية والدولة الغزنوية، وفي ثلاثينيات القرن الخامس الهجري، استطاع زعيمهم الشهير طغرلبك أن يستولي على بعض المدن الكبرى مثل أصفهان ونيسابور، وجرى الاعتراف بالسلاجقة كأحد القوى العظمى في المنطقة.
وفي الوقت الذي كان فيه السلاجقة، يتشكلون كدولة قوية، كان الخليفة العباسي القائم بأمر الله، يعاني من تسلط كل من البويهيين والفاطميين عليه، فقد كان الخليفة في بغداد عاجزاً عن التصرف في الأمور، وكان سلاطين البويهيين يديرون البلاد باسمه.
كما أن بعض القادة العسكريين في الجيش العباسي قد أعلنوا ولائهم للخلافة الفاطمية، ووصل الأمر بأحدهم للقيام بعزل القائم، وإعلان تبعية بغداد للخليفة الفاطمي المستنصر بالله.
كل تلك الظروف المتشابكة، هيئت المناخ لحدوث تحالف ما بين دولة السلاجقة والخلافة، فقد كانت الأولى تمتلك قوة عسكرية ضاربة، ولكنها لا تحظى بشرعية تبيح لها الاستمرار في توسعاتها، أما الخلافة العباسية، فقد كانت، رغم ضعفها، تملك شرعية ليس لها حد، حيث خضع لنفوذها الرمزي معظم المسلمين في العالم في ذلك الوقت.
هنا، ومن باب تلاقي المصالح، أرسل القائم إلى طغرلبك، برسالة يهنئه فيها على انتصاراته المدوية، طالباً منه مد يد العون والمساعدة، مقابل أن يمنحه شرعية مطلقة لحكم كل تلك الأراضي التي يستولي عليها من خصومه.
ولم تكد الرسالة تصل لزعيم السلاجقة، حتى قاد جيوشه لبغداد، فدخلها وأنهى حكم البويهيين، وأعاد القائم إلى منصب الخلافة مرة أخرى، وقضى كذلك على جميع المواليين للخلافة الفاطمية.
ورغم الاستقبال الحافل الذي حظي به طغرلبك لدى الخليفة، إلا أن ذلك لم يكن كافياً عنده، فقد طلب زعيم السلاجقة من القائم أن يزوجه من ابنته، وهو الأمر الذي أزعج الخليفة العباسي وأثار غضبه، بسبب العادة التي جرت من قبل، والتي ترفض زواج بنات الخلفاء من خارج قبيلة قريش.
وقد حاول الخليفة أن يرفض ذلك الطلب، ووسط بعض الوزراء ورجال الدولة ليثنوا طغرلبك عن طلبه، ولكن الأخير أصر على الزواج من ابنة الخليفة غير عابئ بالاعتذارات والمبررات المختلفة.
وفي عام 455هـ/1063م، تم الزواج، ويصف شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، تفاصيل اللقاء الأول ما بين طغرلبك وزوجته، فيقول: "وأجلست على سرير مذهب، ودخل السلطان إلى بين يديها، فقبل الأرض، ولم يكشف المنديل عن وجهها".
وبعد انقضاء عدة شهور على هذا الزواج، توفي طغرلبك عن عمر يناهز السبعين عام، دون أن يخلف ولداً من بعده، وإن كان بزواجه من ابنة الخليفة القائم قد صبغ دولته بصبغة من الشرعية التي استمرت بعد وفاته لعشرات الأعوام.
عصمة الدين خاتون الدمشقية التي دعّمت الصف العربي ضد الصليبيين، وبفضلها توحّدت مصر والشام
زينب النفزاوية، الشخصية المغربية التي تزوجت عدداً من أمراء وملوك المغرب، ودعمت حكمهم بحسن سياستها
عصمة الدين خاتون: السيدة التي وحّدت مصر والشام
ربما كانت عصمة الدين خاتون، هي المثال الأهم بروزاً لتأثير الزيجات والمصاهرات في العلاقات السياسية ما بين الدول والقوى الإقليمية المختلفة.
في النصف الأول من القرن السادس الهجري تقريباً، ولدت عصمة الدين في بيت أبيها معين الدين أنر، الذي كان يشغل منصب الوزارة في مدينة دمشق.
الأوضاع السياسية المرتبكة، داخلياً وخارجياً، ساهمت في وصول معين الدين إلى السلطة بعد فترة قصيرة، فمع الصراع الدامي ما بين أبناء أسرة بوري وهي الأسرة التي كانت تحكم دمشق، ومع زيادة التهديدات الصليبية لدمشق، تم الاتفاق على الوزير الداهية ليتولى الحكم بنفسه.
في 543هـ/ 1149م، وصلت الحملة الصليبية الثانية لحصار مدينة دمشق، فاستنجد معين الدين أنر بنور الدين محمود صاحب حلب، وأقوى الأمراء الشاميين وقتها، وأدى ذلك لدخول عصمة الدين خاتون في معادلة توازن القوى السياسية في المنطقة، فقد تزوجت من نور الدين لتأكيد التحالف ما بين حلب ودمشق ضد الصليبيين.
وبعد وفاة أنر في 548هـ/ 1154م، استغل نور الدين صلة المصاهرة، فسارع بالتحرك إلى دمشق ونجح في ضمها لحكمه، وأصبح الشام حينذاك وحدة واحدة ضد العدو الصليبي المتربص.
لم ينته دور خاتون السياسي عند تلك المرحلة، بل إنّه امتد بعدها لتصير حجر أساس لتدعيم الوحدة ما بين مصر والبلاد الشامية.
ففي عام 569هـ/1174م، توفى نور الدين محمود، وخلفه في حكم بلاد الشام ابنه الصغير الصالح إسماعيل.
صلاح الدين، الذي كان يحكم مصر في ذلك الوقت، وجد أن الفرصة متاحة أمامه ليعلن سيطرته على الشام، ولذلك انطلق إلى دمشق وأعلن نفسه وصياً على العرش، وإمعاناً في التأكيد على الشرعية السياسية الممنوحة له، طلب الزواج من عصمة الدين خاتون، وهو ما سهل من الاعتراف به وبأحقيته في حكم الشام.
وعن زواج صلاح الدين من الخاتون وأسبابه، يقول أبو شامة المقدسي صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية: "وفي آخر صَفَر، تزوّج السلطان بالخاتون المنعوتة عصمة الدين بنت الأمير معين أنر، وكانت في عصمة نور الدين فلما توفي أقامت في منزلها بقلعة دمشق، رفيعة القدر، مستقلة بأمرها، كثيرة الصدقات، والأعمال الصالحات".
ويضيف: "فأراد السلطان حفظ حرمتها، وصيانتها وعصمتها، فأحضر القاضي وعُدُوله، وزوَّجه إياها بحضرتهم أخوها لأبيها الأمير سعد الدين مسعود بن أنر بإذنها... وقرن بسعده سعدها".
زينب النفزاوية: زوجة الملوك
أحد أوضح الأمثلة عن الزواج السياسي في بلاد المغرب، تتمثل في شخصية السيدة زينب النفزاوية التي تزوجت مجموعة من حكام وملوك المغرب، واستأثرت بقدر كبير من النفوذ والسلطة في عهد كل منهم.
وقد اجتمعت أقوال العديد من المؤرخين، على الإشادة بفضلها ومكانتها، حتى وصفها ابن الأثير في كتاب الكامل في التاريخ بقوله "كانت من أحسن النساء".
ورغم عدم إلمامنا بالتاريخ المبكر لزينب النفزاوية، فإن المصادر التاريخية المغربية، تحدثنا عن زواجها من أحد الزعماء المحليين لقبيلة أغمات، الواقعة في دولة المغرب حالياً، ولكن بعد فترة من هذا الزواج تزوجت زينب من لقوط المغراوي أقوى أمراء أغمات في بدايات القرن الخامس الهجري.
ومع قيام حركة المرابطين، كُتب فصل جديد في حياة زينب، ذلك أنها ترملت بعد أن قُتل زوجها لقوط على يد الجيوش المرابطية التي تمكنت من السيطرة على معظم بلاد المغرب.
ولم يلبث أمير المرابطين أبو بكر بن عمر اللمتوني أن طلب الزواج منها، في محاولة للحصول على الشرعية السياسية للحكم، خصوصاً أن أهل أغمات كانوا من أكثر القبائل تمرداً على الحكم المرابطي، ومن أشدّها بأساً في محاربته ورفضه.
وبقدر ما استفاد زعيم المرابطين من هذا الزواج، فقد استفادت زينب النفزاوية أيضاً، فقد كانت تشير عليه وتنصحه في أمور الحكم والسلطة.
في عام 460هـ/ 1068م تقريباً، تبدلت حياة زينب رأساً على عقب مرة أخرى، ذلك أن الأخبار قد وصلت إلى أبي بكر بن عمر بأن بلاد الجنوب قد انقلبت عليه ونقضت عهودها معه، فوجد نفسه مرغماً على السفر لتلك البلاد لحل ما بها من مشكلات.
وقبل أن يبدأ أبو بكر رحلته جنوباً، طلّق زوجته، وأشار عليها كذلك بأن تتزوج من ابن عمه وواليه على المغرب يوسف بن تاشفين بعد أنْ تنقضي مدة عدتها.
وبالفعل، تزوجت زينب من ابن تاشفين، ومارست في عهده نفس الدور السياسي الذي لطالما عهدته في حياة أزواجها السابقين، فبحسب تعبير ابن خلدون في تاريخه، أنه "كان لها رياسة أمره وسلطانه". ويصف الشيخ أبو العباس أحمد الناصري، في كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، علاقة زينب بابن تاشفين بقوله "كانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب". وبدعم زوجته زينب، التي ساندته في سياسته وتخطيطه، أسّس يوسف بن تاشفين الدولة المرابطية الكبرى التي استولت على جميع بلاد المغرب والأندلس.المصادر والمراجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير؛ سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي؛ تاريخ ابن خلدون؛ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، لأبي العباس أحمد الناصري؛ الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة المقدسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...