يندهش البعض من رؤية نساء عربيات يخترقن ميدان القتال العسكري. كما سخر الكثيرون من قرار تجنيد الفتيات في مصر، بداية عام 2017، باعتباره ميدان ليس للمرأة فيه مكان. بالطبع يقف فهم البعض للتعاليم الدينية الإسلامية والعادات والتقاليد العربية وراء هذا الاستهجان، إلا أن المتأمل في التاريخ الإسلامي، يجد أن المرأة كانت تقاتل كالرجال، تمتطي الجياد وتبارز بالسيف، وتطلق السهام، وعلى رأسهن صحابيات للنبي محمد.
نسيبة بنت كعب
صحابية النبي نسيبة بنت كعب بن عمرو الأنصارية، الشهيرة بـ"أم عمارة"، لم تكن تحارب بالصدفة، بل تدل الغزوات التي شاركت فيها، أنها كانت مقاتلة محترفة، بجوار اشتراكها في مناسبات سياسية هامة، كبيعة العقبة الثانية، التي بايع فيها أهل يثرب (المدينة المنورة) النبي. شاركت نسيبة في غزو أحد، وحين اشتد القتال وتعرض النبي نفسه للهجوم، كانت ضمن الذين يحرسونه ويدافعون عنه، ومعها زوجها وابنها، حتى تلقت 13 طعنة في جسدها، ودعا لها النبي أن تكون من رفاقه في الجنة. ثم شاركت في غزوتي بني قريظة وخيبر، وبايعت النبي في بيعة الرضوان على الموت، ثأراً لعثمان بن عفان حين ظن المسلمون أنه قتل في مكة، كما شاركت في صلح الحديبية، بين المسلمين وأهل مكة. في معركة حنين أمام قبيلة هوازن، وحين اشتد القتال انسحب المسلمون عقب كمين نصبته هوازن، صاحت نسيبة وهي تلوح بسيفها، لتستنهض همة المسلمين: "أيَّة عادة هذه؟! ما لكم وللفِرار؟!"، فلما رآها الرجال وبجوارها النبي وعدد قليل من المقاتلين معه، عادوا إلى المعركة. بعد وفاة النبي وقعت ماعرفت بحروب الردة، وشاركت فيها نسيبة، وفي معركة اليمامة، إحدى أشرس حروب الردة، أصيبت نسيبة وتلقت 11 جرحاً، ظلت تقاوم آثارها لمدة عام، حتى توفيت. ما ذُكر عن نسيبة متواتر في العديد من المصادر، منها، ما جاء في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، وما نقلته أمينة عمر الخراط في كتابها الصحابية المجاهدة: أم عمارة نسيبة بنت كعب.اختفى حضور النساء في المعارك بعد أنْ أصبح القتال مهنة احترافية في العصور الوسطى
من خولة بنت الأزور حتى جميلة بوحيرد، وحروب اليوم، تاريخ طويل من النساء العربيات المقاتلات الشهيدات
أم حكيم
أم حكيم بنت الحارث بن هشام، من صحابيات النبي محمد، وأسلمت وهي زوجة لعكرمة بن أبي جهل، رغم كفر زوجها، الذي أسلم بعد عداء شديد للنبي، وصار مقاتلاً في الجيش الإسلامي، حتى قتل في معركة اليرموك أمام الروم. وكانت أم حكيم في ميدان المعركة وقتها تسقي الجنود وتداويهم كغيرها من النساء، فأقنعتها صديقاتها بقبول الزواج من خالد بن سعيد بن العاص، وفي يوم عرسهما، اشتد القتال فخرج خالد للحرب فقُتل، فلم تصبر أم حكيم على ذلك، فانتزعت عامود الخيمة التي شهدت عرسها على خالد وتجاوزت الصفوف الخلفية للمعركة والتحمت مع الجنود، حتى قتلت 7 من جند الروم، وانتهت المعركة بفوز المسلمين. وبعدها أعجب عمر بن الخطاب، خليفة المسلمين وقتها، بشجاعتها، فطلبها للزواج فقبلت- هذه التفاصيل وأكثر، نقلها محمد راجي كناس في كتابه أزواج الخلفاء عن الإصابة لابن حجر العسقلاني.أم حرام بنت ملحان
كان النبي محمد يزور بيت صاحبه عبادة بن الصمت، في منطقة قباء، وفي وقت قيلولة اضجع وأخذ قسطاً من النوم، أثناء ما كانت أم حرام بنت ملحان، زوجة عبادة، تفلّي رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت أم حرام: "ما يضحكك يا رسول الله؟" قال: "رأيت ناس من أمتي عرضوا علي غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة". فلمعت عينا أم حرام وقالت بصوتٍ ضارع: "ادعو الله يارسول الله أن يجعلني منهم"، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ودعا لأم حرام أن تكون مع هؤلاء المجاهدين، ثم أغمض عينيه وغفا مرةً أخرى، استيقظ إثرها وهو يضحك، فرددت أم حرام: "ما يضحكك يارسول الله"؟ فأجابها: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة وقد وجبت لهم مغفرة الله تعالى"، فهتفت أم حرام بضراعة: "ادعو الله يارسول الله أن يجعلني منهم، فأجاب صلى الله عليه وسلم مبتسماً: أنت منهم يا أم حرام، أنت منهم، أنت من الأولين"- بحسب ما أورده سيد مبارك في كتابه نساء خالدات في القرآن والسنة، نقلا عن صحيح مسلم.مسجد أم حرام في قبرص
ما تركت أم حرام غزوة بعد إسلامها إلا وحضرتها، وتحققت نبوءة النبي لها، حين خرجت في أول غزوة بحرية للمسلمين لفتح جزيرة قبرص، في عهد عثمان بن عفان، ولكنها صرعت أثناء عودة الجيش من هناك بعد تمام الغزوة، حيث وقعت من على دابتها وماتت، وقيل إن موضع موتها به مسجد باسمها إلى اليوم- بحسب سيد مبارك.
خولة بنت الأزور
في الشام وشمال شبه الجزيرة العربية دارت سلسلة معارك ضخمة بين العرب والروم، بدءاً من آخر عهد النبي حتى عهد عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ومنها معركة أجنادين، التي قاد خلالها خالد بن الوليد المسلمين، ضد الروم بقيادة هرقل، وكاد المسلمون أن ينهزموا، وأسر من صفوفهم الكثيرين، منهم ضرار بن الأزور، كما أسرت أخته خولة بنت الأزور وعدد من النساء.
خولة لم تستسلم، فحرضت من معها من النساء في الأسر أن يهموا معها لقتال الحراسة المفروضة عليهن، فخلعوا أعمدة الخيمة التي كن بها، وقاتلوا جنود الحراسة من الروم حتى هزمنهم وعدن إلى معسكر المسلمين.
وبعد أنْ علمت أنّ أخاها وقع هو الآخر في الأسر، ركبت حصاناً ولثّمت وجهها وقاتلت بشراسة، حتى تعجب خالد بن الوليد نفسه من هذا الفارس الذي لا يهاب اختراق صفوف الأعداء ويقاتل بهذه الضراوة، حتى خرجت من المعركة ورمحها يقطر دماً.
وسألها خالد: من أنت؟ معتقداً أنها رجلٌ، والتف حولها الفرسان من الرجال، فلما علمن أنها خولة، وسرى خبرها بين الجنود، ازداد حماسهم وتقوت عزيمتهم، حتى انتصروا في المعركة.
ثم أمر خالد بن الوليد بتعقب جند الروم وتحرير ضرار، فاستأذنته خوله للذهاب معهم فرفض في البداية، لكنه وافق تحت ضغط إصرارها، وبالفعل تم تحرير ضرار عن طريق قوات يقودها رافع بن عميرة، التي كانت خولة إحدى فرسانها، بعد أن حاصروا أنطاكية ثم دخلوها.
قصة خولة وردت في عدة مصادر، وأفرد لها الكاتب والمفكر الإسلامي أحمد شوقي الفنجري، كتاباً بعنوان الصحابية الفارسة خولة بنت الازور: تأريخ حقيقي في قالب مسرحي، وورد ذكرها في معجم أنصار الحسين، لكن البعض يشكك في وجودها من الأساس.
نساء العرب: نعم للجهاد لا لاحتراف القتال
قتال النساء في الحروب كان شيئاً طبيعياً في صدر الإسلام وفي عصر الخلفاء الراشدين، حتى أن ابن جرير الطبري ذكر في الجزء الرابع من كتابه الضخم تاريخ الرسل والملوك، أن فتح العراق شهد اشتراكاً واسعاً للنساء، منهن 700 من قبيلة النخع، وألف من قبيلة بجيلة، لم تكن متزوجات، وصاهرن مقاتلين من العرب. إلا أن العصور الوسطى لم تشهد نفس الشهرة للنساء المقاتلات، باستثناء نموذجين لامرأتين، ليستا بعربيتين لكنهما كانتا مسلمتين، وكانتا ضمن الحيز الإقليمي المتاخم للعرب.إحدى هاتين السيدتين كانت تركان خاتون، السلطانة الخوارزمية التي حاربت المغول بنفسها، في القرن الثالث عشر الميلادي "السابع الهجري"، لكنها وقعت في الأسر وأمر جنكيز خان بسجنها حتى ماتت، بحسب ما ذكر ابن خلدون في كتابه الخبر عن دولة التتر: تاريخ المغول من كتاب العبر.
السيدة الأخرى كانت خانزاد بنت حسن بك، الأميرة الكردية، التي قادت إمارة سوران، بعد مقتل زوجها الأمير سليمان على يدي والي بغداد العثماني.
وخاضت خانزاد حروباً ضد العثمانيين، رافضة الاعتراف بسلطتهم، وكانت تقود الجيش بنفسها، حتى ماتت عام 1615م، بعد هزيمة جيشها أمام العثمانيين، بحسب ما جاء في الموسوعة الكبرى لمشاهير الكرد عبر التاريخ، لمحمد علي الصويركي الكردي.
علّق على ذلك الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة المصري الأسبق، وأستاذ التاريخ، الدكتور محمد عفيفي، لـ"رصيف22"، مشيراً إلى أن النساء لم تشتهرن بالقتال في العصور الوسطى، لأن الشكل الاحترافي الذي اتخذته الجيوش، خلال عهود الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة، جعل من الجندية "مهنة" رجالية.
وعزز ذلك ظهور المماليك والسلاجقة والإنكشارية، الذين كانوا يتربون على القتال منذ صغرهم، في قصور الأمراء والسلاطين والملوك والخلفاء، ليحترفوه حين يشبوا، على عكس صدر الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين الذي كانت فيه الحروب بمثابة قرار تعتنقه المرأة كما يعتنقه الرجل، لا مهنة تتقاضى أجراً عليها.
الاستعمار يستثير همم النساء
العصر الحديث شهد اشتراكاً كبيراً للمرأة في القتال، خاصة مع بروز النزعات الوطنية والقومية... ويذكر عبدالرحمن الرافعي في كتابه مصر المجاهدة في العصر الحديث، أن نساء قريتي "غمرين" و"تتا"، قاتلن جنود الحملة الفرنسية عام 1798 جنباً إلى جنب مع الرجال، بشراسة أذهلت الضباط الفرنسيين المحترفين في القتال. ولم تنته المعركة إلا بعد مجيء قوات فرنسية إضافية مدججة بأسلحة ثقيلة حديثة لم يقوى عليها الأهالي، فمات منهم بين 400 إلى 500 قتيل، وتكرر نفس الأمر في المنصورة. بعد ذلك بفترة ومع الاحتلال الفرنسي للجزائر ظهرت واحدة من أشهر المقاتلات، ألا وهي فاطمة نسومر، ابنة شيخ الطريقة الرحمانية الصوفية، التي رفضت المكوث في بيت زوجها الذي تزوجته رغماً عنها، وراحت تطلب العلم، وترعى شؤون طريقة والدها. ومع دخول الاحتلال الفرنسي، كونت جيشاً من مريديها، قوامه 7 آلاف مقاتل، وتحالفت مع زعيم المقاومة، محمد بن عبدالله بوبغلة، لقتال الغزاة. وحققا معاً أكثر من انتصار، لكنها انهزمت وتم أسرها عام 1857، مع عدد من النساء اللاتي كنّ يشاركنها القتال، وسُجنت، حتى توفيت عام 1863، عن عمر 33 عاماً، بحسب كتاب تاريخ الجزائر المعاصر، لبشير بلاح. ويطلق على فاطمة "جان دارك جرجرة" تشبيها لها بالمقاتلة الفرنسية جان دارك، إلا أنها كانت تفضل لقب "خولة جرجرة" تيمناً بالمقاتلة العربية خولة بنت الأزور. في التاريخ الحديث، نجد شهرة كبيرة للمرأة العربية في القتال، ففي الجزائر شاركت المرأة بشكل بارز في القتال ضد الاحتلال الفرنسي، ضمن جبهة التحرير خلال خمسينيات القرن العشرين، وعلى رأسهن جميلة بوحيرد. وفي فلسطين اشتهرت كثيرات، اشتركن في فصائل فلسطينية فدائية مختلفة، وعلى رأسهن دلال المغربي، عضو منظمة التحرير الفلسطينية، وقبلها اشتهرت ليلى خالد، المقاتلة في صفوف الجبهة الشعبية، وآيات الأخرس وغيرها. وفي مصر اشتهرت درية شفيق، التي قادت فرقة من النساء للانخراط في المقاومة ضد الاحتلال الإنجليزي بمنطقة قناة السويس عام 1951، وانضم إليها أكثر من ألفي فتاة. كذلك كان للنساء المصريات "السيناويات" دوراً بارزاً في حرب الاستنزاف ضد اسرائيل، حيث اشتركت الكثيرات في منظمة سيناء العربية، وشاركن فى نسف القطارات وزرع الألغام وتفجير السيارات، بجانب دورهن في تهريب الديناميت والمتفجرات لأعضاء المنظمة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين