"قريباً قريباً ترون العجيب / صراعاً رهيباً وسوف ترى"...
"أمتي قد لاح قد فجر فارقبي النصر المبين / دولة الإسلام قامت بدماء الصادقين"...
"يا أهل السنّة البكك (مختصر حزب العمال الكردستاني) سجنوني / يا أهل السنّة الشيعة مزقوني"...
"أبو بكر يا بغدادي يا مرهب الأعادي / حور العين تنادي سجلني استشهادي"...
"هي باقية وتتمدد ما همنا من تردد! يا عاصب الراس وينك"...
وطبعاً "سلامي على الدولة"، و"يا رايح على الشام سلملي على الدولة" و"صليل الصوارم" وغيرها العديد من الأناشيد التي تحتل موقعاً بارزاً في بثّ دعاية تنظيم داعش على الإنترنت، ويعمر بها موقع يوتيوب، وتنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الافتراضية.
بعض هذه الأناشيد مبثوث من "مؤسسات إعلامية" تتبع التنظيم في مساحة سيطرته المركزية، كـ"مؤسسة أجناد" (مؤسسة المناصرة بالإنتاج الصوتي)، و"مؤسسة أعماق"، أو تتبع "ولايات" التنظيم عبر العالم، وبعضها أكثر "هواتية"، مثل "مهرجان الدولجية" التي "استعارت" هذا النوع من الأغاني الشعبية المصرية الثابتة على نغم واحد، على طريقة أوكا واورتيكا وشحتة كاريكا، انما ليرسو "المهرجان" في هذه الحالة على: "زودلنا عبوات وأديني كاتم أصوات، رجالة الدولة (أي داعش) مسيطرين، حتى عل المهرجانات، مسيلي عل البغدادي، الكل عليه بينادي، وشعوب العالم مستنية، وهنحرر بلادي".
لا تقتصر ظاهرة الإنشاد على داعش، بل هي ظاهرة تعم مختلف تلاوين الحركة الإسلامية، وخصوصاً الحركات الجهادية، لما في الإنشاد من تحفيز وتحميس.
إلا أنّ تنظيم الدولة الإسلامية يعطي للإنشاد والمنشدين درجة أعلى من الأهمية عن باقي التنظيمات، ذلك أنّه يتصف بشكل عام بقلّة الإصدارات المكتوبة واقتضابها وبكثرة الإصدارات المرئية والمسموعة وسخائها، ويترك للاناشيد والمنشدين التعبير عن تصوره عن العالم، وعن الصراع الدائرة رحاه فيه، والتحريض على أعداء التنظيم.
في بعض التسجيلات المنتشرة، يبرز المنشد وحده، أحياناً بوجهه (وسلاحه)، وأحياناً بصوته دون وجهه، وفي تسجيلات أخرى، يحيي المنشد حلقة إنشاد من حوله متشكلة من المقاتلين.
المشترك في كل هذا أنّ المنشدين مقاتلون، وأحياناً يشاركون في إعدامات، ومعظم من يعج بهم موقع يوتيوب من "منشدي داعش"، أو النصرة، أو غيره من التنظيمات الجهادية المتطرفة، غادر دنيانا، إما بعملية انتحارية نفّذها، وإما بالقصف الجوي من طيران التحالف، أو في ساح القتال.
الألباني وتحريم الإنشاد جملة
واذا كان داعش هو الأكثر لجوءاً للإنشاد والمنشدين بين حركات الجهاد العالمي، إلا أنّ سلفية التنظيم، الرافضة لكل بدعة لا أصل لها في أعمال الجيل الأوّل من المسلمين، ما كان سهل لها أن تسوّغ كل هذا الغناء، حتى لو كان غناء بداعي الجهاد ومناصرة الخلافة.
فالسلفية المعاصرة لا تزال متأثرة بتحريم المحدث محمد ناصر الدين الألباني للإنشاد ككل، وليس فقط المعازف، بل تحريمه حتى لو كان بلا دف أو وتر صوتي، تحريم الترنيم جملة وكل ما تجاوز تلاوة القرآن وترتيله.
عند الألباني، كما عند معظم رجال الدين في السعودية، أنّ الحديثين النبويين "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن" وأن "زينوا القرآن بأصواتكم" ينهيان عن أي إنشاد ولو كان بداع ديني أو جهادي، ويذهب الألباني أبعد من ذلك، إذ يعتبر أن الإنشاد فيه تشبّه بالصوفيين.
فعلام يتشبّه التنظيم الذي لم يبق مقاماً صوفياً واحداً في مناطق سيطرته إلا وهدمه، بهذه "البدعة" إذاً؟ بل أكثر من هذا، لا يتجنب عدد من منشدي داعش "التطريب" الذي نهت عنه حتى تلك الجماعة من رجال الدين التي تتقبل الأناشيد الابتهالية ما دون مستوى التطريب.
وفّر التنظيم مساحة لحناجر فتيّة كان بإمكانها أن تبرع في برامج الهواة الغنائية، وبعضها صدحت في نصرته بالعربية الفصحى، وبعضها باللهجات، من عراقية إلى يمنية، مروراً بشتى لهجات شبه الجزيرة العربية.
وإذا كان بعض المنشدين قد وجد في هذه التجربة "ستوديو الفن" خاصته، فإن مغنين آخرين "تابوا" على يد التنظيم، مثل مغني الراب التونسي، مروان الدويري "ايمينو"، الذي هاجر إلى أراضي "داعش" وبايع الخليفة البغدادي.
"أبو بكر يا بغدادي يا مرهب الأعادي / حور العين تنادي سجلني استشهادي"... كيف "مجّد" داعش العنف بالميلودي
حناجر فتيّة كان بإمكانها أن تبرع في برامج الهواة الغنائية تشكل عصب بروباغندا داعش... الأناشيد
شقران وماهر
لم يقتنع كل المنشدين الجهاديين الشباب بداعش وفكرته عن الخلافة. الشاب الكويتي شقران الدعجاني مثلاً، اختار أن يقاتل في صفوف "النصرة" بسوريا، وأمضى عامين ينشد للمجاهدين، ويعبّر عن توقعه للعملية الانتحارية إلى أنّ نفّذها، ويقال إنّه موّل هذه العملية من ماله الخاص.
شقران الدعجاني
وشقران الدعجاني المتقد حماسة في الأشرطة المبثوثة على يوتيوب، لكن أيضاً بالمرح والثقة العالية بما يقوم به، كانت له أيضاً أهازيج هجائية بحق أبي بكر البغدادي.
بخلاف شقران الدعجاني، الذي اختار أن يفجر نفسه على تخوم بلدة الفوعة الشيعية في الشمال السوري وهو ينتمي إلى "جيش الفتح"، فقد سلك ماهر مشعل، الشاب السعودي الذي اشتهر بحلاوة صوته وهو ينشد في مسابقة تلفزيونية، درباً أوصلته إلى داعش، وتحوّل إلى "عندليب" التنظيم، باسم "ابو الزبير الجزراوي/ أو القصيمي".
ماهر مشعل
في أحد التسجيلات، نجده مسروراً بأنّه في كل ما مضى من حياته اليافعة، كان يشاهد رجال الشرطة مسلّحين وهو مدني أعزل، أما اليوم، فهو ينشد ممتشقاً سلاحه. قتل ماهر مشعل المعروف حركياً بـ"أبو الزبير" بقصف جوي على الحسكة، قبل عامين، وبعد أن ساهم بعدد كبير من الأناشيد لداعش، منها واحد لفرع التنظيم في شبه جزيرة سيناء.
أبو هاجر الحضرمي
واذا كان شقران الدعجاني وماهر مشعل شابين في أول عمرهما، فليست هذه حال المنشد أبو سيد المدني، "المخضرم"، لأنه بدأ القتال في البوسنة.
أما أبو هاجر الحضرمي، الذي أهدى داعش عدداً من أناشيده، ومنها صليل الصوارم، وهو من المكلا، فإنّه اكتسب موقعه الإنشادي في السجن باليمن، قبل أن يهرب منه وأصحابه بحفرهم نفقاً عام 2011، ثم ينتهي صريعاً بغارة من دون طيار.
أبو هاجر الحضرمي
لا تظهر التسجيلات كل المنشدين بمظهر واحد. هناك من ترافقه مؤثرات الحمحمة والصليل والهدير وأصوات البنادق، كفواصل داخل أنشودته، وهناك من يظهر في حلقة إنشادية ضاحكاً ساخراً، أو مكثراً المزاح مع مجالسيه، مثلما يفعل نمر الجزراوي في تسجيل "ايش قال السعودية".
عبد الكريم التونسي
أما الذي يظهر في "كل عرس"، ما أن تبدأ رحلته "اليوتيوبية" مع أناشيد داعش، فهو التونسي عبد الكريم التونسي. وموقع "يوتيوب" يمكنه أن يؤرخ مسيرته.
مربي الحمام الذي برع في التلاوة لاحقاً، تحول إلى أبرز منشدي حركة أنصار الشريعة بتونس بعد الثورة، إذ نجده وهو ينشد "رددي يا جبال. رددي يا سهول. إننا بالفعال نقتدي بالرسول"، وهي أنشودة "شعبية" سواء لدى الأخوان المسلمين أو لدى السلفيين، وتتضمن إشادة بالمملوكي قطز (حدثي عن عمر، حدثي عن قطز)، ثم نجده في سوريا منشداً "سلامي على النصرة".
علام يتشبّه التنظيم الذي لم يبق مقاماً صوفياً واحداً في مناطق سيطرته إلا وهدمه، بهذه "البدعة" إذاً؟ الغناء
وعندما قام الخلاف بين "النصرة" وبين "الدولة الإسلامية"، انتقل عبد الكريم التونسي إلى الرقة وبايع البغدادي، وعمل في جهاز الدعوة والحسبة فيها، وهو يظهر في كثير من التسجيلات بالرقة كشخصية محبوبة ممن حوله، وخصوصاً الأطفال.
يصعب التثبت من أخبار كثيرة تتناول هؤلاء المنشدين، وتتضارب إلى أبعد حد. الواضح أن معظمهم لم يعد موجوداً اليوم. قُتل إما بعملية انتحارية قام بها، وإما بالقصف أو بالقتال، وقليل منهم استطاع أن ينسحب من تجربته هذه ويعود إلى بلده، ليستخدم في الدعاية المضادة.
تمجيد العنف بـ"الميلودي"
لم يسترسل التنظيم كثيراً في تأصيل تصوره عن العالم، و"الخلافة على منهاج النبوة" التي اعتمدها، ناهيكم بنظرته إلى إدارة الدولة والاقتصاد فيها. عوّض عن ذلك بالأناشيد، علماً أنّ أبا بكر البغدادي في ظهوره المرئي والمسموع الوحيد في الجامع النوري بالموصل قبل ثلاث سنوات سعى إلى أن يظهر تمكنه في التلاوة القرآنية، وهي أساساً تخصصه الأكاديمي.
استطاعت الأناشيد أن تجمع ما لم يكن ميسراً جمعه: النفحة الرومانسية، والدموية الشديدة.
ككل نفحة رومانسية، انطلقت الأناشيد من النوستالجيا: الحنين لعصر سالف. لكن، بين جيل المسلمين الأوّلين وبين الجيل الحالي، لم تجد الأناشيد من هو أهل للثناء عليه، لا نور الدين زنكي ولا صلاح الدين ولا بيبرس ولا قطز.
في المقابل، غنت للأسلحة القديمة، للحراب والسيوف، كما غنت للأسلحة الجديدة، غير المصنوعة من مسلمين، كقاذف "الأر.بي.جي".
تمجيد العنف كان محورياً في هذه الأناشيد، إنما لتمجيده لم تستخدم "مانشيتات عسكرية"، بل آثر المنشدون تمجيد العنف بـ"الميلودي". في تجربة داعش أيضاً، كانت "لسه الأغاني ممكنة"، ولو بطعم الكابوس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين