على الرغم من أن السينما العربية في بداياتها لم تكن بتلك الجرأة الإغرائية، إلا أنه لا بدّ من الاعتراف بأن هذه الأفلام من خلال حضور الإغراء أو غيابه في الأفلام العربية كانت أشبه بالحلم بالنسبة إلى الجمهور العربي، لِما كانت تتضمنه أحياناً من مشاهد قُبَل ونساء وراقصاتٍ فاتنات.
كانت ليلى مراد أول امرأة خطفت أنظار الناس، على الرغم من أن ممثلات أخريات سبقنها إلى الشاشة. لم تقدم "القيثارة"، كما تلقّب، أي مشهد يحوي إغراء جسدياً، إذ أن أقصى ما كان متاحاً حينها كان قبلة في نهاية الفيلم. لكنها كانت نموذجاً للرومانسية التي تزخر بالإغراء الروحي.
من بعد ليلى مراد، برزت الممثلة فاتن حمامة، التي احتفظت بوقارها أمام الشاشة، ولم تكن يوماً رمزاً للإغراء، بل وجهاً للحلم الرومانسي.
ملامح الإغراء الفعلي في الأفلام المصرية، التي أُنتجت في تلك الفترة، كانت تعتمد بشكلٍ أساسي على الراقصات الشرقيات (سامية جمال، تحية كاريوكا، نعيمة عاكف...) اللواتي شكّلن مادة غنية لإثارة "البصبصة" لدى الجمهور؛ حيث كان وجود الراقصة يمثل العمود الفقري للفيلم، وهي السند الأساسي لتفعيل شباك التذاكر. هكذا، وجد المنتجون في أفلام الإغراء وسيلة لتحقيق الربح.
في نهاية الأربعينيات، ظهرت الممثلة هند رستم على الشاشة للمرة الأولى في دور عابر. بعد ذلك، تكرر ظهورها في أدوار مماثلة إلى أن تبنّاها المخرج حسن الإمام في منتصف الخمسينيات، فقدّمها في سلسلة من الأفلام جعلت منها "نجمة الإغراء في السينما المصرية".
تجدّد اللقاء بين رستم وإمام في الستينيات، فلعبت بطولة شريطيه "شفيقة القبطية" و"الراهبة"، ليتكرّس حضورها على عرش الإغراء. وقد كتب الناقد السينمائي طارق الشناوي أن إغراء هند رستم ليس إغراء الجسد، إنما نداؤه، إذ يكفي أن "ترتدي جلباباً بلدياً في "باب الحديد" ليوسف شاهين، أو في "صراع في النيل"، لعاطف سالم، أو في "ابن حميدو" لفطين عبد الوهاب، حتى يتمناها كل الرجال".
في زمن حكم جمال عبد الناصر، بقي الإغراء السينمائي في الإطار المهذّب، ربما بسبب الوهج الإيديولوجي للثورة المصرية وأحلام العروبة الوردية.
حينها، لم تتجاوز الأفلام ما يسمى "الخطوط الحمر"، وكانت الراقصات الشرقيات موضوعات تحت الرقابة ويجبرن على شكل محدد من اللباس.
ولكن، بعد هزيمة 1967، كما تقول اعتدال ممتاز في كتابها "مذكرات رقيبة سينما"، صدرت تعليمات رئاسية للرقابة على المصنفات الفنية للسماح بمشاهد الجنس والمخدرات في الأفلام وعدم حذف أي مشهد منها مهما بلغت درجة جرأته، في محاولة لإلهاء الناس عن الهزيمة وإحباطاتها.
هكذا، صُوّرت عشرات الأفلام الإغرائية لنجمات هذا الجيل، مثل شمس البارودي، صاحبة النصيب الأكبر من الأفلام وأشهرها "حمام الملاطيلي" لصلاح أبو سيف، ومثل ميرفت أمين في فيلم "أعظم طفل في العالم" مع رشدي أباظة وإخراج جلال الشرقاوي.
ومثل نادية لطفي في فيلم "أبي فوق الشجرة" الزاخر بالقبلات مع عبد الحليم حافظ, من إخراج كمال الشيخ، إضافة إلى نجلاء فتحي في "العاطفة والجسد" لحسن رمزي، وسهير رمزي في "المذنبون" لسعيد مرزوق، وسعاد حسني في "بئر الحرمان" لكمال الشيخ، وزيزي مصطفى في "المراهقات" لأحمد ضياء الدين، وغيرها من الأفلام.
بداية التعري الكامل كانت في بيروت على شاشات السينما اللبنانية، مع إطلاق المخرج سمير خوري فيلمه "سيدة الأقمار السوداء" في عام 1972، وهو من بطولة ناهد يسري ومجموعة من الممثلين.
حينها، أصرت دائرة مراقبة المطبوعات والتسجيلات الفنية على حصر مشاهدة الفيلم للراشدين. بعد سنتين، قرر المخرج نفسه خوض تجربة ثانية في "ذئاب لا تأكل اللحم" من بطولة ناهد شريف، فاختار الكويت مكاناً للتصوير، بسبب الانفتاح الإجتماعي الذي كان يسودها آنذاك.
كان العري مع هذا المخرج اللبناني خالياً حتى من "ورقة التوت"، وكانت الطيور ترفرف فوق جسد الممثلة العاري الذي يمطره البطل بالقبلات، مرة على رمل الشاطئ، ومرة في غرفة النوم.
وحتى اليوم، ما زالت الممثلات اللواتي شاركن في أفلام سمير خوري علامة في تاريخ السينما ويحضرن بكثافة على شبكة الإنترنت بوصفهنّ مثّلن في أشرطة "للكبار فقط".
بعد ناهد يسري وناهد شريف، جاء دور الممثلة السورية إغراء، التي قامت بكشف صدرها أمام الكاميرا ليقوم الممثل خالد تاجا بدهن نهديها بالكريم وهي مسترخية على الفراش.
ولم تكتف إغراء بتقبيل الممثل أديب قدّورة في فيلم "الفهد" لنبيل المالح، بل تعرّت له أيضاً في مشاهد حب أخرجها المالح. ولم ترتفع الأفلام السورية اللاحقة إلى درجة حرارة إغراء؛ إلا أن الرقابة، التي سمحت بعرض شريط المالح، عادت بعد سنوات لتمحو اللقطة "المثيرة" من الذاكرة السينمائية إلى الأبد.
لم تستمر كثيراً موجة الإغراء السينمائي في سوريا ولبنان، إما بسبب الحرب الأهلية أو بسبب الرقابة. وفي مصر، مع اعتزال شمس البارودي، وتراجع نجومية ميرفت وسهير ونجلاء أمام النجوم الرجال، كان السوق السينمائي مهيئاً لظهور نجمة إغراء من طراز مختلف، هي نادية الجندي، المعروفة بأدوارها المفتعلة.
برزت الجندي بعد تأديتها بطولة "بمبة كشر" الذي دشنت به مرحلة سيَر حياة الراقصات في السينما المصرية. ظلت نادية منفردة على عرش الإغراء حتى ظهرت نبيلة عبيد، لتقدم، هي الأخرى، تنويعة من هذه الأدوار في أفلام مثل "أرجوك أعطني هذا الدواء"، و"أيام في الحلال".
ظل هذا الثنائي، نادية ونبيلة، يتنافس على النجومية وشباك التذاكر حتى تقدم بهما العمر وتقاعدتا.
تنافستا في زمن برزت فيه موجة سينما الرجل الوسيم، أو الرجل النجم، الذي مثله في ذلك الوقت عادل إمام، ومحمود ياسين، ونور الشريف، وحسين فهمي، ومحمود عبد العزيز، وأحمد زكي. لم تكن مرحلة الثمانينيات والتسعينيات سوى مرحلة الركاكة الإغرائية. فعلى الرغم من الأدوار الكثيرة الجريئة التي قدمتها إلهام شاهين وغيرها، ورغم تجسيد يسرا لأدوار بائعات الهوى في عدة أفلام، مثل "امرأة آيلة للسقوط"، وعلى الرغم من محاولات المخرجة إيناس الدغيدي اللعب على وتر الجنس و"الشذوذ" في أفلامها؛ إلا أن هذه الفترة لم تقدم ممثلة إغراء تنافس نادية الجندي ونبيلة عبيد أو تشغل المكان الذي خلا بابتعادهما عن السينما بحكم السن.في الأعوام القليلة الماضية، وقعنا على عودة تجديدية للإغراء، تمثلت في تقديم المخرج خالد يوسف الثنائي سمية الخشاب وغادة عبد الرازق، في فيلميه "حين ميسرة" و"الريس عمر حرب".
تمردت الممثلتان على شعار "السينما النظيفة" الذي يعني أفلاماً خالية من القبل والمشاهد الجنسية، انطلاقاً من مبدأ "الحرام" الشائع عربياً وإسلامياً.
وعلى الرغم من تعدد نجمات الإغراء في تاريخ السينما، إلا أن الإغراء بمفهومه الحقيقي ما زال مرتبطاً لدى المشاهير بأسماء قليلة، أبرزها هند رستم وسعاد حسني. والحال أن هند رستم تعتبر النموذج الأكثر إثارة وجاذبية لدى الجمهور، ولم تستطع نجمات كثيرات تجاوزها، بدءاً بنجمات السبعينيات مثل ناهد شريف ومديحة كامل وميرفت أمين، مروراً بنجمات الثمانينيات مثل إلهام شاهين ويسرا ونبيلة عبيد ونادية الجندي، وحتى بنجمات اليوم.
لقد أشعلت هند رستم أنوثة النساء بلغة الجسد، وكانت قادرة بالـ"الملَاية اللف" على أن تثير حولها زوبعة من إعجاب الرجال لا تثيرها بنت عصرية ترتدي فستان سهرة أو ديكولتيه يكشف عن صدرها. أما سعاد حسني، فجمعت بين الشهوانية والبراءة والشقاوة، وهي نموذج لحلم ذكوري يقع بين هند رستم الشهوانية وفاتن حمامة النمطية الجميلة التي تصلح ربّة منزل.
بين سعاد، أخت القمر، وهند، ملكة الاغراء، ثمة مشترَكٌ مهم، يتمثل في أنهما شكلتا مصدر إلهام في الإغراء والدلع لنجمات الجيل الجديد. كأن نجمات هذا الجيل لا يقدرن على تجاوز الماضي، في زمن تيارات سياسية جديدة ليست ضد الإغراء فحسب، بل ضد السينما بمجملها.
حتَى قبل أن تصل جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، كان المجتمع متأسلماً وغارقاً في التحجب. وقد انعكس ذلك على السينما المصرية وروادها وأفكارها ومستقبلها.
فمنذ الثمانينيات، راجت موجة الفنانات المصريات التائبات و"الداعيات"، وازدادت هذه الوتيرة في التسعينيات، لتغزو الساحة المصرية راقصات أجنبيات من أوروبا الشرقيّة، كنّ أشبه ببديل للمفقود.
زادت كذلك وتيرة حضور الممثلات اللبنانيات في الأفلام المصرية، للتعويض عن غياب الممثلات المصريات اللواتي لا يقبلن لعب أدوار جريئة، مثل نيكول سابا صاحبة الإغراء الباهت التي ظهرت بالمايوه في فيلم "التجربة الدنمراكية" مع عادل إمام، ومثل هيفا وهبي التي مارست الإغراء "المهذب" في فيلم "دكان شحاته" لخالد يوسف.
يبدو الإغراء السينمائي العربي اليوم أشبه بالديناصور المنقرض. ويمكن القول إنه لم يبق في الميدان إلا هيفا وهبي وأخواتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...