"لا يهمّنا ماذا فعلتِ سابقاً، المهم ما أنتِ عليه"، تتصدّر هذه الجملة المكتوبة بالأبيض الإطار الأسود الذي يحيط وجه امرأة بالكاد تظهر ملامحها، لتتبعها جُملة كُتبت بالأحمر تطلب نساء "ذوات شخصيّة مميّزة" للعمل في "الموقع الأعلى ضمن جهاز الموساد الإسرائيلي". إذاً، الموساد يطلب نساء للعمل كجاسوسات، و"الخبرة ليست ضرورية"، يكفي أن تكون المرأة المتطوعة للوظيفة "ذات شخصيّة وقدرة"، أما الخبرات فتُحصّلها داخل الجهاز.
الجهاز الذي يعمل في الظلّ، منذ تأسيسه في العام 1949، نشر للمرة الأولى إعلاناً للتوظيف يستهدف المرأة خصوصاً. تلك المرأة "القادرة على تفعيل أشخاص وقيادتهم، وتُتقن الصبر والأداء الجيد وسط الضغوط وزحمة المهام، وقادرة على الارتجال والعمل في ظروف قاسية". في الإعلان، تحظى النساء اللواتي تُتقنَّ لغة أجنبية بالأفضلية، من دون أن يكون ذلك شرطاً للتوظيف، بينما تتضمن مهام الجاسوسات "نشاطات طارئة وبعثات خارج البلاد".
وللجهاز موقع إلكتروني باللغات العربية والإنجليزية والفارسية والفرنسية والروسية، إضافة إلى العبرية. وقد نشر المتحدث بلسان رئيس الوزراء الإسرائيلي أوفير جندلمان الإعلان على حسابه على تويتر باللغة العربية. وكتب "هل تريدين الالتحاق بالموساد؟ الموساد يطلق حملة لتجنيد الجاسوسات ويبحث عن النساء ذوات الشخصية القوية والقدرة على العمل في ظروف غير عادية".
"النساء أفضل من الرجال"
لطالما لعبت النساء دوراً بارزاً في جهاز الموساد، وتفاخر الأخير بـ"نجاحات" بعض عميلاته المصنفات فوق العادة في التخلّص من قيادات عربيّة، وفلسطينيّة تحديداً. سجّلت وثائق الاستخبارات العربيّة والإسرائيلية قصص العديد من الجاسوسات، وترجم مخرجون عرب هذه القصص في مشاهد سينمائية، واستلهمت الروايات أدوارهن، لكن الغموض بقي يحيط بجاسوسات جمعن بين الجمال الخارق والقوة الضاربة. هكذا كرّست الروايات الصورة النمطية، من دون أن تكون دقيقة تماماً، لنساء كنّ يحصلن على معطيات عسكرية وسياسية شديدة الخطورة في غرف النوم وبيوت الدعارة.الموساد ينشر إعلاناً يطلب فيه جاسوسات للعمل.. النساء يشكلن 40% من الجهاز، تشغل 24% منهن مناصب عالية وشديدة الحساسيّة
لطالما تباهى الإسرائيليون بما حققته نساء الموساد في ضرب قيادات المقاومة، بينما انشغل العرب بـ"الليالي الحمراء"...تتباهى إسرائيل اليوم بأن النساء يُشكلن 40% من جهاز الموساد، بينما تشغل نسبة 24% منهن مناصب عالية وشديدة الحساسيّة. وخلال الأسبوع الماضي، كرّم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع مسؤول الموساد يوسي كوهين والرئيس رؤوفين ريفلين 12 عميلاً في الموساد، نصفهم من النساء. وفي عودة للعام 2012، يُثني مسؤول الموساد السابق تامير بردو، في أحد تعليقاته النادرة، على دور النساء بصفتهن أفضل من الرجال كعملاء سريين. ويقول "لديهن ميزة مهمة في الحروب السرية بسبب قدرتهن على العمل على مهام عدة في الوقت نفسه"، مضيفاً "يُتقنّ تحجيم الأنا لتحقيق أهدافهن". ثم يعترض على النظرة النمطيّة للمرأة ويعتبرها أقدر على قراءة الوضع المحيط بها و"عندما تعرف في أمر ما، تكون جيّدة جداً". في الفترة نفسها من العام 2012، خرجت خمسة نساء من الموساد ليروين تجربتهن مع عالم الجاسوسيّة في محاولة لأنسنة هذا الأخير، من وجهة نظر نسائيّة. تحدثن عن استخدام قدراتهن النسائية "لخدمة الأمة”. تقول يائل، إحدى الجاسوسات، إن استخدام الألاعيب النسائية مع الرجال هو لعبة عادلة إن كانت لصالح الأمن الوطني. وتضيف إن "ابتسامة المرأة تعطيها قدرات أكثر من الرجل". تقول أخرى إن حياة الجاسوسية متطلبة لا سيما إن ترافقت مع الاهتمام بعائلة، بينما تتباهى زميلتها أنها مستعدة للتضحية بالجسد والروح من أجل إسرائيل. يطرح مقال لماسينا زيغلر في "فوربز"، حمل عنوان "لماذا النساء هن الأفضل في الموساد والسي آي إيه؟"، مجموعة من الأسباب التي تعطي الأفضلية للمرأة، معلّلة أن الجاسوسية في جيناتها، فـ"المرأة تولد جاسوسة". يمكنها بسهولة أن تبرّر لماذا تريد أن تلتقي برجل في قبو مهجور أو على جسر معتم، كما يمكنها أن تبتكر بشكل عاجل أسباب تبرّر تصرفات لديها تبدو غير مألوفة. قد لا يتمتعن جميعاً بقدرات جسدية خارقة، لكنهن يمتلكن حدساً قوياً إن كان الخطر محيط بهن، كما يستطعن الحصول على أصدقاء سريعاً، وقراءة خلفيات الناس أسرع.
جاسوسات فوق العادة: سيلفيا رافاييل وهبة سليم وأخريات
درج استخدام عبارة "مصيدة العسل" على المهمات الخاصة التي تضطلع بها جاسوسات الموساد. بينما تتضمّن مهمّتهن التجسس على الأجهزة الأمنية من خلال التقرب من الهدف وفي بعض الأحيان تنفيذ عمليات اغتيال، أباح حاخامات إسرائيليون (بعضهم متشدد دينياً) لجوء النساء للجنس في مهمات "مصيدة العسل". يحفظ تاريخ الصراع العربي مع إسرائيل أسماء عديدة لجاسوسات جنّدهن الموساد، بينهن إسرائيليات وعربيّات. لعقود طويلة، منذ النكبة ثم النكسة وما تلاها، تباهى الإسرائيليون بما حققته نساؤهن في ضرب قيادات المقاومة، وبتحقيق مصالح "الدولة العبرية" بينما انشغل العرب بـ"الليالي الحمراء". ليس الأمر بهذه الدقة تماماً، فقد تلقى الموساد ضربات عدة في أوروبا والعالم العربي من قيادات المقاومة كسرت تباعاً تلك الصورة "الجيمس بوندية" التي حاول تكريسها. مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته النساء في هذا المجال، لا سيما في مرحلة كان المجتمع العربي لا يزال يتخبط مع محاولة التحرّر الثقافي، وكان للنساء "الأجنبيات الجميلات" قدرة أكبر على خطف الأنظار والألباب. أما الجنس فكان وسيلة سحرية للإيقاع، كما للفيديوهات المصورة في بيوت الدعارة قدرة على الضغط والتهديد. "سيلفيا رافاييل" كانت أبرز نساء الموساد. الإسرائيلية ذات الأصول الجنوب أفريقيّة تمكنت من اغتيال المناضل الفلسطيني حسن سلامة، الرجل الذي كانت إسرائيل تعتقد أنه الرأس المدبّر لقتل 11 إسرائيلي في أولمبياد ميونخ. من أب يهودي وأم مسيحية، انتقلت إلى الكيبوتز في الستينات، علّمت الإنكليزية هناك قبل أن يتم تجنيدها في الموساد. من فرنسا مروراً ببلدان عدة ثم لبنان، وصلت "إيريكا" تحت تعريف "رسامة بريطانية مقيمة في ألمانيا الغربية ومتعاطفة مع القضية الفلسطينية". وفي شارع فردان اللبناني نجحت باغتيال سلامة، بعدما كانت قد أخطأت سابقاً وقتلت شبيهاً له هو نادل مغربي. "سيندي" هي أيضاً "بطلة قوميّة" لدى الإسرائيليين. وفي قصتها، التي تعود للعام 1987، أن مردخاي فعنونو، المهندس النووي الإسرائيلي في مفاعل ديمونا، قام ببيع أسرار الترسانة النووية لصحيفة "صنداي تايمز" ثم هرب إلى بريطانيا. وقد قامت "سيندي" باستدراجه من خلال إقامة علاقة معه، ليتم بعدها اعتقاله في روما وإعادته إلى الأراضي المحتلة، وقد حُكم بالسجن 18 عاماً بتهمة خيانة إسرائيل. تُعرف "تسيبي ليفني" بأنها من أشهر عميلات الموساد، ويتم استحضار قصتها بين الفينة والأخرى للتصويب على مسؤولين فلسطينيين بتهمة التورط معها جنسياً. أما المصرية "هبة سليم" فنجح الموساد بتجنيدها في فرنسا بعد النكسة، وعادت إلى مصر لتوقع بالضابط محمود الفقي الذي تزوجها، ثم نجحت باستقاء العديد من المعلومات الحساسة منه عن خطط الجيش الدفاعية وعما كان يُعرف بحائط الصواريخ. بعد ذلك قبضت عليها المخابرات المصرية في السبعينات وجرى إعدامها. تمّ تجسيد قصتها في فيلم "الصعود إلى الهاوية" للكاتب صالح مرسي مع مديحة كامل ومحمود ياسين.عرب مهتمون بالوظيفة؟
في الماضي، كثرت القصص عن نساء الموساد وكادت أن تتحول إلى أساطير. أما اليوم، فقد عزا البعض "الانفتاح" المستجدّ في جهاز الموساد إلى حاجته لشدّ الهمم الداخليّة نتيجة تراجع عمله وقدرته على الضرب مقارنة بأيامه السابقة، ما يعني رغبته بالإيحاء بأن أموره في أحسن أحوالها. في المقابل، فسّر آخرون الأمر بأنه مسايرة "للموضة الجديدة" في عمليات الاستقطاب والتجنيد القائمة على الدعاية والإفادة من التطوّر التكنولوجي والجذب البصري. وأوحى معلقون بأن تخصيص النساء بهذه الوظائف هدفه الترويج لصورة الانفتاح الجندري الذي يعزّز سمعة "إسرائيل الديموقراطيّة"، ولو كان عبر الجاسوسيّة. أما الردّ المصري على الإعلان فكان لافتاً بما حمله من استهزاء، ما يعكس بعضاً من الجوّ الذي لم يعد يرى في الموساد بعبعاً لا يقهر. استحضر معلقون قصة فيلم “مهمة في تل أبيب" مع الممثلة ناديا الجندي ليطالبوا بـ"ردّ الجميل لإسرائيل"، وردّ آخرون بسخرية معبّرين عن رغبتهم بالانضمام للجهاز، لكنهم طالبوا بـ"شروط تعجيزية" مقابل خدماتهم التي "لا تُعوّض".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...