من هو هذا الرجل المسنّ ذو الجسد الممتلئ والملامح الودودة الذي نعرفه جميعاً باسم بابا نويل؟ ومن أين جاء؟
رغم أن ملامحه الحقيقية لا تشبه كثيراً صورته الدعائية المعاصرة، إلا أنه في الأصل شخصية حقيقية. رجل طيب القلب، كريم ومحسن، وُلد سنة 270 م في مدينة ميرا، في إقليم باتارا الساحلي، في المنطقة القريبة من أنطاليا الحالية في تركيا، والتي كان المؤرخ هيرودوت يعتبرها القلب المقدس للإله أبولو، وتوفي سنة 343 م في المكان نفسه.
وُلد القديس نيكولاوس في عائلة مسيحية ثرية. كان والده تاجر قمح ورجلاً حسن السمعة جداً. كانت عائلته من المسيحيين المؤمنين، وكان عمّه أسقف كنيسة ميرا. في البداية أصبح نيكولاوس كاهناً في كنيسة ميرا بناءً على نصيحة عمّه. ولم يكن يُظهر أي اهتمام بثروة عائلته الكبيرة، وبعد وفاة والده أصبح الوريث الوحيد لتلك الثروة الضخمة. ومن دون أي تردد، أنفق نيكولاوس كامل ثروة والده على تنظيم حياة الفقراء، ولهذا السبب حظي بمكانة خاصة بين الناس.
السفر إلى مصر وفلسطين
في شبابه قرر نيكولاوس السفر إلى مصر والأرض المقدسة. انطلق من ميرا بهدف الحج ودعوة الناس إلى المسيحية متجهاً نحو مصر. توجد قصص كثيرة عن هذه الرحلة، لكن من أشهرها لقاؤه بالله في مصر. ويُقال إن هذا اللقاء منح حياة الأب نيكولاوس عمقاً روحياً كبيراً.
لم يولد بابا نويل من الثلج ولا من الأساطير، بل من قلب إنسانٍ آمن أن الثروة الحقيقية هي أن تنقذ جائعاً في الخفاء، وأن تترك الفرح يمشي إلى بيوت الفقراء
في مصر التقى بالعديد من طلاب الدين وشرح لهم تعاليم المسيحية، وفي الوقت نفسه شهد معجزات مختلفة عند الرهبان وطلاب العلم المصريين، وبفضل هذه التبادلات الروحية اكتسب هو أيضًا قوة معنوية كبيرة.
بعد مصر جاء دور السفر إلى الأرض المقدسة. كان السفر إلى فلسطين بالنسبة للمسيحيين المؤمنين في العصور الوسطى طقساً مقدساً. انطلق نيكولاوس من مصر نحو أورشليم، وزار في الطريق جميع المعابد والأماكن المقدسة، وكان في كل واحد منها ينشغل بالدعاء والعبادة.
وبالطبع، لم يغفل بابا نويل العصور الوسطى خلال هذه الرحلة عن الفقراء والمعدمين؛ فكان يعطي الطعام لكل جائع يراه، والكساء لكل عارٍ يصادفه.

يُقال إن نيكولاوس عاش في فلسطين في سرداب قريب من بيت لحم، المكان الذي يعتقد المسيحيون أن ميلاد يسوع قد حدث فيه. وفوق المغارة التي سكنها نيكولاوس بُنيت اليوم "كنيسة القديس نيكولاوس". ويعتبر سكان مدينة بيت جالا، وهي مدينة مسيحية، القديس نيكولاوس حامياً وحارساً لمدينتهم.
وفي طريق العودة من فلسطين، تعرضت السفينة التي كانت تقل نيكولاوس لعاصفة هائلة. بينما كان البحّارة وبقية الركاب يختبئون في زاوية وينتظرون موتهم، بدأ نيكولاوس بتوبيخ الأمواج وطلب الرحمة والمغفرة من الله والبحر. فتوقفت العاصفة فجأة، وهدأ البحر وسكن.
بعد عودته إلى ميرا، اختير أسقفاً لكنيسة ميرا، ومنذ ذلك الحين صار القرويون حول أنطاليا والبحّارة يعتبرون نيكولاوس قديسهم الحامي، وعندما يكون البحر هائجًا وخطيرًا كانوا يدعون لحماية السفن والبحّارة ويطلبون العون من القديس نيكولاوس.
القديس حامي الأطفال وصنّاع الجعة
كرّس نيكولاوس حياته كلها لمساعدة الناس وإدخال الفرح إلى قلوبهم. توجد قصص كثيرة عنه، مثل إنقاذ حياة ثلاثة جنود أبرياء من الإعدام، أو قطع شجرة كان الشيطان قد اتخذها وكرًا له، أو تهدئة البحر الهائج. لكن هناك قصتين تتكرران في أغلب الروايات المكتوبة والشفوية، وهما اللتان صنعتا منه شخصية قريبة جداً من صورة بابا نويل المعاصرة، وربما تعود كثير من عادات بابا نويل اليوم إلى جذورهما.
القصة الأولى هي إحياء ثلاثة أطفال قُطعت أوصالهم، وهي التي جعلت منه قديساً حامياً للأطفال. يُروى أنه في زمن مجاعة، قام جزار بخداع ثلاثة أطفال جائعين بحجة إطعامهم، فأخذهم إلى منزله، وقتلهم، ووضعهم في براميل كبيرة ليصنع من لحمهم نقانق ويبيعها لاحقًا.
وكان نيكولاوس يتنقل يوميًا من بيت إلى بيت ليتفقد أحوال الجائعين، فوصل إلى بيت الجزار ولاحظ أمراً غير طبيعي. وبعد أن فتح البراميل ورأى أجساد الأطفال الممزقة، شعر بصدمة وغضب شديدين، فأخرج صليبه وبدأ بالصلاة من أجل إحياء تلك الأجساد الصغيرة، وواصل الصلاة حتى عاد الأطفال إلى الحياة وخرجوا من البراميل.

ورغم أن هذه القصة تبدو اليوم غريبة ومرعبة، إلا أنها كانت في أواخر العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث قصة شديدة الشعبية، وتناقلها الناس شفهيًا على نطاق واسع. كما تم تصويرها في الكثير من نوافذ الزجاج الملوّن في الكنائس، والألواح الخشبية الدينية، وأعمال التطريز، والجداريات.
وبسبب قسوة مشاهد القصة، بدأ الفنانون مع الوقت بالاكتفاء بتصوير القديس نيكولاوس مع ثلاثة أطفال عراة وبرميل خشبي واحد. وجود هذا البرميل في الصور أدى لاحقًا، بعد نسيان القصة الأصلية، إلى تفسيرات خاطئة، فأصبح البعض يعتبر نيكولاوس حامي الأطفال وصنّاع الجعة.
القصة الثانية تحكي عن أب فقد ثروته وبقي وحيداً مع ثلاث بنات في سن الزواج. في ذلك الزمن، كانت فرص زواج الفتاة التي تمتلك مهراً أكبر أعلى بكثير من الفقيرات، لذلك قرر الأب بيع بناته.

عندما وصل الخبر إلى نيكولاوس، جهّز ثلاث أكياس كبيرة من العملات الذهبية وتوجه إلى بيت الرجل. حاول أولاً رمي الأكياس من النافذة، لكن عندما وجدها مغلقة غيّر خطته. ولأنه كان يفضّل ألا يراه أحد وهو يساعد الآخرين، صعد إلى سطح المنزل ورمى الكيس الأول من مدخنة البيت. في اليوم التالي أقام الأب حفل زفاف لابنته الكبرى.
وفي الليلة التالية رمى نيكولاوس الكيس الثاني بالطريقة نفسها، وفي اليوم التالي أُقيم زفاف الابنة الثانية. أما الأب، الذي أراد معرفة منقذه وشكره، فاختبأ على السطح، وعندما جاء نيكولاوس لوضع الكيس الثالث، أمسك به وشكره بحرارة. ووعده ألا يخبر أحدًا بما جرى.
مشهد تقديم الهدايا سرّاً وشكر الأب في ظلمة الليل يُعد من أكثر المشاهد شعبية في الفن المسيحي، وظهر في الرموز والجداريات في مختلف أنحاء أوروبا.
قبر بابا نويل
كان أهل منطقة ميرا يعتقدون أن القديس نيكولاوس دُفن أصلًا في مدينته ميرا، حيث لا تزال آثار له محفوظة هناك حتى اليوم. لكن بعض الأدلة الأثرية تشير إلى أنه ربما دُفن في البداية في كنيسة صخرية على جزيرة صغيرة تبعد نحو أربعين كيلومترًا عن مسقط رأسه. وقد نُقش اسم نيكولاوس على جزء من المبنى المتهدم لتلك الكنيسة.
في العصور القديمة كانت هذه الجزيرة تُعرف باسم "جزيرة القديس نيكولاوس"، واليوم، وبالإشارة إلى دوره التقليدي كحامي البحّارة، تُعرف باسم "جزيرة القوارب".
بين أسقف نحيل يحمل صليباً، وشيخ بدين يحمل الهدايا، تمتد حكاية القديس نيكولاوس: قصة رجلٍ غلب الزمن، لكن صورته لم تنجُ من ضجيج الدعاية
بعد نحو مئتي عام من وفاة نيكولاوس، وبسبب الاعتراف به كقديس من قبل الكنيسة، بُنيت كنيسة باسمه فوق أنقاض الكنيسة التي كان يخدم فيها، ونُقلت عظامه إلى سرداب هذه الكنيسة في مدينة ميرا.

لاحقاً، خلال الحملة الصليبية الأولى، نقل الإيطاليون جزءاً من عظامه إلى مدينة باري ثم إلى البندقية، وادّعوا أن مكان القديس في إيطاليا أكثر أمانًا. ولا تزال الحكومة التركية حتى اليوم تطالب باستعادة عظام بابا نويل، ويعتقد سكان المنطقة أن القديس نيكولاوس نفسه يرغب في العودة إلى مسقط رأسه.
وبحسب الحفريات التي أُجريت عام 2017، تم اكتشاف تابوت نيكولاوس في ميرا، ولا تزال أجزاء من رفاته محفوظة فيه.
القديس نيكولاوس أم سانتا كلوز؟
تاريخ وفاة نيكولاوس، السادس من كانون الأول/ديسمبر، تم اعتماده يوماً للقديس نيكولاوس أو عيد "أسقف الأطفال". في أواخر العصور الوسطى، كانت الراهبات في معظم الدول الأوروبية يضعن سلال الطعام والملابس سرّاً أمام بيوت المحتاجين في هذا اليوم، وكان البحّارة يأتون إلى البَرّ للمشاركة في احتفالات قديسهم الحامي، ويشترون الهدايا للأطفال من الأسواق المحلية.
اليوم، ارتبطت هذه الطقوس والاحتفالات بيوم ميلاد المسيح وبداية السنة الميلادية الجديدة.

الهولنديون، الذين كانوا من أكثر شعوب أوروبا تعلقاً بالقديس نيكولاوس، كانوا ينطقون اسمه "سينتر كلاس"، وهم من نقلوا اسمه وقصته إلى مستعمرتهم الجديدة (أمستردام الجديدة)، أي نيويورك الحالية. ومع مرور الزمن، وبسبب التحولات الثقافية واللغوية، تغيّر اسمه تدريجياً إلى "سانتا كلوز".
في معظم الصور التي وصلتنا من العصور الوسطى وما بعدها، يظهر القديس نيكولاوس رجلًا نحيلًا، بوجه عظمي ولون قمح، يرتدي رداءَ الأساقفة البني، ويحمل نصوصاً دينية وصليباً بيده.
قصيدة كليمنت كلارك مور الشهيرة "زيارة القديس نيكولاوس (1823) ساهمت في ترسيخ صورة جديدة له في أذهان الناس، حيث ظهر بابا نويل بملابس ملوّنة، ووجه مستدير، وابتسامة دافئة، وملابس شتوية.

وفي ستينيات القرن التاسع عشر، لعب رسام الكاريكاتير الأمريكي توماس نَست دوراً كبيراً في تشكيل صورة بابا نويل الحديثة، عندما رسمه في مجلة هاربر الأسبوعية بلحية بيضاء، وبطن مستدير، وملابس حمراء. وكانت هذه الرسومات نقطة تحوّل أساسية في تكوين صورة بابا نويل المعاصرة، إذ قدّمته كشخصية تعيش في القطب وتُسعد الأطفال في ليلة عيد الميلاد.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين، وبعد الاستخدام المكثف لشخصية سانتا كلوز في إعلانات شركة كوكاكولا، كاد لا يبقى شيء من ملامح وشخصية بابا نويل الحقيقية، أي القديس نيكولاوس.
لكن قرب أنطاليا، لا يزال هناك تابوت بغطاء نصف مفتوح، توجد بداخله عظام بابا نويل، ويؤمن المسيحيون أن سائلاً شفافاً يتسرّب منه كل عام، له رائحة ماء الورد وقوة شفائية معجزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



