اتجهت إسرائيل، خلال الأشهر الأخيرة، إلى تنظيم حملات دعائية لتحسين صورتها في الولايات المتحدة، نتيجة انخفاض المؤيدين لها هناك بسبب حربها على غزة، وظهور نسبة كبيرة من الأمريكيين الساخطين على سياساتها، وعدّهم أنّ ما تقوم به في القطاع لا يعدو عن كونه حرب إبادة بحق الفلسطينيين.
التحوّل السلبي في مواقف كثير من الأمريكيين تجاه إسرائيل، رصدته استطلاعات رأي عديدة في أثناء الحرب على قطاع غزة، منها ما أجراه مركز "بيو" للأبحاث في أيلول/ سبتمبر 2025، حيث أبدى ستة من كل عشرة أشخاص نظرةً سلبيةً تجاه الحكومة الإسرائيلية، واعتقد 39% من المستطلعين أنّ إسرائيل بالغت في العمليات العسكرية ضد حركة حماس، وقال ثُلثهم إنّ الولايات المتحدة تُقدّم مساعدات عسكريةً أكثر مما هو ضروري لإسرائيل، وذكرت نسبة مماثلة أنّ المساعدات الإنسانية لسكان غزة ضئيلة جداً.
كما أبدى ثمانية من كل عشرة أمريكيين قلقهم بشأن المجاعة التي يعاني منها الفلسطينيون في غزة، وكذلك الغارات العسكرية الإسرائيلية التي تقتل المدنيين الفلسطينيين.
وأفاد استطلاع آخر أجرته وكالة "أسوشيتد برس" ومركز "نورك" لأبحاث الشؤون العامة، بأنّ نحو نصف الأمريكيين يرون أنّ الرد العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة تجاوز الحدود.
حملات رقمية
هذه المؤشرات وغيرها، دفعت إسرائيل إلى إطلاق حملة دعائية عالمية تكلفتها 145 مليون دولار لتحسين صورتها في الولايات المتحدة، مستعينةً بشركات أمريكية ومؤثرين ومنصات ذكاء اصطناعي مثل "Chat GPT"، لتشكيل خطاب مؤيّد لها على الإنترنت ومواجهة الانتقادات المتزايدة بين الشباب الأمريكي الموجهة إليها، حسب ما يذكر موقع "واي نت" الإسرائيلي.
مستوى التعاطف الشعبي مع تل أبيب انخفض بشكل غير مسبوق، خاصةً بين الشباب في أمريكا وأوروبا، وأصبحت إسرائيل أمام مرحلة انتقال من صورة الدولة الصغيرة المُحاصَرة إلى صورة الدولة التي تُتّهم بالإبادة والحصار والتجويع
تُركّز الحملة بشكل كبير على المنصات الرقمية، وتهدف إلى أن يكون 80% على الأقل من المحتوى المُنتج مُصمّماً خصيصاً لجمهور الجيل "Z" عبر منصات تيك توك وإنستغرام ويوتيوب وبودكاست، من خلال إنشاء مواد إلكترونية يمكنها تشكيل البيانات المستخدمة لتدريب نماذج لغوية كبيرة مثل ""ChatGPT و""Grok من "X"، و"Gemini" من "Google"، مما قد يؤثر على كيفية عرضها أو تأطيرها بما يخدم السردية الإسرائيلية.
لتحقيق هذه الأهداف، تعاقدت إسرائيل مع شركة "كلوك تاور" الأمريكية، كجزء من خطة للتأثير على الخطاب الإلكتروني، وصمّمت مبادرةً جديدةً تُسمّى "مشروع إستر" لدعم شبكة من المؤثرين الأمريكيين الذين يروّجون لمحتوى مؤيّد لإسرائيل، بتمويل من الحكومة الإسرائيلية. ويذكر الموقع أنّ مشاركة كبار المسؤولين الإسرائيليين في هذا المشروع تُبرز أهميته كواجهة رقمية موازية للجهود العسكرية والدبلوماسية الإسرائيلية.
كما تعاقدت الحملة أيضاً مع شركة "بريدجز بارتنرز"، وهي شركة من ولاية ديلاوير أسسها الخبيران الإستراتيجيان الإسرائيليان أوري شتاينبرغ ويائير ليفي. ومن خلال هذا التعاقد، ستُدفع مبالغ تصل إلى 900 ألف دولار أمريكي، مع ميزانية شهرية محتملة تصل إلى 250 ألف دولار أمريكي. وبحسب "واي نت"، تتضمن الخطة جدولاً زمنياً مُفصّلاً يقضي باستقطاب خمسة أو ستة مؤثرين في المرحلة الأولية، على أن ينشر كل منهم ما بين 25 و30 منشوراً شهرياً على تيك توك وإنستغرام ومنصات أخرى. ومن المتوقع أن تُوسّع المراحل اللاحقة نطاق الشبكة، بما في ذلك التعاون مع منشئي محتوى إسرائيليين ووكالات أمريكية.
استهداف الكنائس الإنجيلية
لم تكتفِ إسرائيل بهذه التحركات لتحسين صورتها، إذ اتجهت إلى الكنائس لمكافحة انخفاض نسبة التأييد المسيحي الإنجيلي الأمريكي لها ومواجهة الرسائل الجديدة والمتطورة المؤيدة للفلسطينيين. وبحسب موقع "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأمريكي، تنفّذ شركة "شو فيث باي ووركس" حملةً للتواصل الرقمي بقيمة 3.2 مليون دولار أمريكي، تستهدف من خلالها مرتادي الكنائس المسيحية في غرب الولايات المتحدة، نيابةً عن الحكومة الإسرائيلية، بهدف تعزيز "الروابط الإيجابية مع دولة إسرائيل، وربط الشعب الفلسطيني بالعناصر المتطرفة".
وفي الخطة المقترحة، أدرجت الشركة عدداً من المتحدثين المسيحيين المشاهير المحتملين باسم إسرائيل، بمن فيهم الممثلَين جون فويت وكريس برات، ولاعب كرة القدم الأمريكية السابق تيم تيبو، ولاعب كرة السلة ستيف كاري، وعدداً من قساوسة الكنائس الكبرى.
وتتضمن المقترحات أيضاً مقطورةً متنقلةً بعنوان "تجربة 7/10" تجوب الكليات والكنائس والفعاليات المسيحية لتسليط الضوء على ما أسمتها الشركة بـ"فظائع 7 أكتوبر 2023". وستتضمن المقطورة تلفزيوناً مثبتاً على الحائط بمعلومات مُحدّثة، ووسائل إعلام مؤيدة لإسرائيل و"لقطات لجيش الدفاع الإسرائيلي تشرح صعوبة محاربة الأشرار في الأراضي المعادية مع المدنيين".
تآكل سمعة إسرائيل
هذه المؤشرات والتعاقدات كلها تؤكد أنّ حرب غزة شكّلت نقطة انعطاف حادّةً في صورة إسرائيل عالمياً. يقول الباحث الفلسطيني في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، ياسر منّاع، لرصيف22، إنّ مستوى التعاطف الشعبي مع تل أبيب انخفض بشكل غير مسبوق، خصوصاً بين الشباب في الولايات المتحدة وأوروبا، وأصبحت إسرائيل أمام مرحلة انتقال من صورة الدولة الصغيرة المُحاصَرة إلى صورة الدولة التي تُتهم بالإبادة والحصار والتجويع.
6 من كل 10 أمريكيين يبدون نظرةً سلبيةً تجاه الحكومة الإسرائيلية، و39% من المستطلعين يرون أنّها بالغت في العمليات العسكرية ضد حماس.
وبرأي منّاع، هذا التحول لا ينسف التحالفات التقليدية بين إسرائيل والقوى الغربية بين ليلة وضحاها، لكنه يرفع كلفة هذا التحالف سياسياً وأخلاقياً على الحكومات، وهو ما يظهر في تصاعد الدعوات لوقف تصدير السلاح، وتزايد وتيرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتحركات القانونية الدولية، وهي كلها مؤشرات على أنّ الشرعية الأخلاقية لإسرائيل أصبحت موضع شكّ عميق حتى داخل الغرب نفسه.
في المقابل، ردّ الفعل الإسرائيلي على هذا التآكل في السمعة كان عبر اللجوء المُكّثف إلى شركات العلاقات العامة والتسويق السياسي، خاصةً في الولايات المتحدة. وبحسب منّاع، بعض هذه الشركات يتولى إدارة حملات رقمية موجهة، واستقطاب مؤثرين على منصات التواصل، وصياغة محتوى يبدو طبيعياً لكنه في الحقيقة جزء من إستراتيجية مدفوعة ومخطط لها.
وتُنفّذ تلك الخطة عبر إبرام عقود مخصّصة للوصول إلى الشباب على تيك توك وإنستغرام ويوتيوب، وعقود أخرى موجهة للكنائس الإنجيلية والجامعات المسيحية، وأخرى تركّز على بناء روايات إنسانية عن المساعدات والإغاثة. وبمعنى آخر تسعى إسرائيل لنقل المعركة من ميدان القانون الدولي والرأي العام إلى ميدان الصورة واللغة والإحساس، عبر أدوات السوق والإعلان لا عبر الدبلوماسية التقليدية فقط، يضيف مناع.
معاناة مقابل معاناة
وبالنظر إلى الخطاب الإسرائيلي وحملاته الدعائية، يرصد منّاع، محاور مركزية عدة ستُبنى عليها عملية غسل السمعة، أولها إعادة تأطير ما جرى في غزة ضمن سردية "الحرب على الإرهاب" واستحضار صدمة 7 تشرين الأول/ أكتوبر بشكل دائم لتبرير ما تلاه. وثانيها، التركيز على قصص الرهائن ومعاناة الإسرائيليين، في محاولة لوضع معاناة مقابل معاناة بدلاً من الحديث عن بنية استعمار وحصار طويل، وثالثها تلميع صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية متقدمة في مجالات التكنولوجيا وحقوق الأقليات والابتكار.
أما المحور الرابع، فهو استخدام تهمة معاداة السامية كدرع سياسي وأخلاقي لردّ أي نقد جذري للسياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، بحيث يتحول السؤال من "ماذا فعلت إسرائيل؟" إلى "هل أنت معادٍ لليهود أو لا؟"، يقول مناع.
استهداف جيل "Z"
ويلاحظ مناع، أنّ جزءاً كبيراً من الحملة الإسرائيلية موجه لجيل "Z"، باعتباره الأكثر حضوراً على منصات الفيديو القصير، وهو أيضاً الأكثر انفتاحاً على خطاب مناهض لإسرائيل والأكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين، وهذا ما جعل صور غزة تنتشر بينه بقوة أكبر من أي خطاب رسمي. لذلك ترى إسرائيل أن المعركة الحقيقية على المدى البعيد هي معركة على وعي هذا الجيل، لأنه ناخب وسياسي وأكاديمي الغد في الغرب، ومن ثم تستهدفه الحملات بمحتوى خفيف وسريع عبر مؤثرين شخصيين، لا عبر حسابات حكومية مباشرة.
وعلى مستوى الذكاء الاصطناعي، هناك توجه لإغراق الفضاء الرقمي بمحتوى مؤيد لإسرائيل، حتى يؤثر في قواعد البيانات التي تعتمد عليها نماذج مثل "Chat GPT"، فتخرج الأجوبة لاحقاً أقلّ حدّةً في وصف ما حدث في غزة وأكثر ميلاً إلى التوازن الشكلي، وهذه إحدى جبهات الحرب على المعرفة ذاتها، يضيف منّاع.
تُنفّذ الخطة الإسرائيلية عبر إبرام عقود مخصّصة للوصول إلى الشباب على تيك توك وإنستغرام ويوتيوب، وعقود أخرى للكنائس الإنجيلية والجامعات المسيحية، وأخيرة تركّز على بناء روايات إنسانية عن المساعدات والإغاثة
ويرى منّاع، أن مشروع "إستر" وغيره من البرامج التي تشتري محتوى مؤثرين بمبالغ كبيرة هو محاولة لاختراق الفضاء الشبابي من الداخل، عبر وجوه يثق بها الجمهور أو يتابعها لأسباب ترفيهية وشخصية. وقد يمنح ذلك إسرائيل مكاسب تكتيكيةً محدودةً داخل فقاعات معيّنة، لكنه لا يغيّر جذرياً الصورة العامة التي تشكلت بفعل مشاهد المجازر والدمار في غزة.
الإنجيليون والارتباط اللاهوتي
الملاحظ أيضاً، أنّ الخطة الإسرائيلية تضمنت استهداف رجال الدين في الكنائس الإنجيلية، وهو ما يندرج ضمن إستراتيجية أعمق وأكثر استقراراً، بحسب منّاع. فالإنجيليون في الولايات المتحدة يشكّلون قاعدةً انتخابيةً ضخمةً، ودعمهم لإسرائيل ليس سياسياً فقط بل لاهوتي أيضاً، ومن ثم فإنّ الحفاظ على هذه القاعدة وتعزيز خطاب إسرائيل، جزء من نبوءة دينية، ويمنح تل أبيب ظهراً أمريكياً صلباً يحميها من جزء كبير من الضغوط، حتى لو واصل الرأي العام التململ والابتعاد عنها، يضيف.
ويقول الباحث في العلاقات الدولية، رمضان غيث، لرصيف22، إنّ الكنائس الإنجيلية ترتبط بالصهيونية وإسرائيل ارتباطاً لاهوتياً، إذ يعتقد الإنجيليون أن عليهم تأييد إسرائيل كشرط للمجيء الثاني للمسيح، وأنّ الله منح فلسطين لليهود، وواقع اليوم هو تنفيذ لوعد الله -كما يتصوّرون- وتالياً لن تجد إسرائيل رجال دين أكثر دعماً لروايتها من هؤلاء، وهو ما يفسر استهدافهم عبر حملاتها الدعائية.
وبحسب غيث، لا تستهدف دعاية إسرائيل الحكومات، فهي تعرف كيف تحّجم ردود أفعالها، والولايات المتحدة في خلفها أو في مقدمة هذا العمل، وقليل من الدول تخرج عن هذه الدائرة، لكن الشعوب ولأول مرة تكتشف أنها لا تعرف حقاً التاريخ منذ عام 1948، وحكوماتهم إما شريكة أو على الحياد، لذا خرجت حشود في دول غربية كثيرة على مدار سنتين من الإبادة للضغط على حكوماتها، وكان هذا سبباً أساسياً لوقف الحرب.
وبحسب غيث، قد يفيد المؤثرون الذين تعاقدت معهم إسرائيل في تغيير الرواية الجديدة عن غزة، لكن التأثير محدود في المدى القريب، ويعتمد على قدرة العقول على إنعاش الذاكرة وعدم اعتبار ما يقوله المؤثرون وما يُقرأ ويُشاهد عبر منصات التواصل والمحتوى المُصدّر من تطبيقات الذكاء الاصطناعي على أنه حقائق، بل يجب التثبت منها. ولصعوبة ذلك على كل الناس، فإنّ الرواية الفلسطينية ينبغي أن تُطرح دائماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



