شتاء يعيد نكأ الجراح... الغزّيون بين خيمٍ مهترئة وبيوتٍ آيلة للسقوط

شتاء يعيد نكأ الجراح... الغزّيون بين خيمٍ مهترئة وبيوتٍ آيلة للسقوط

حياة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 12 ديسمبر 202510 دقائق للقراءة

كان الشتاء أجمل الفصول في غزة، بأجواء دافئة داخل البيوت واجتماعات عائلية لا تتكرر في باقي الفصول. الأطفال يخرجون للعب تحت المطر والكبار يجلسون قرب النوافذ ليستمعوا إلى صوت الغيث، شعور لا يشبه أي فصل آخر.

لكن اليوم، أصبحت البيوت الدافئة خياماً تغمرها المياه من كل جهة بفعل قطرات المطر والرياح، وأصبح فصل الشتاء فصلاً يخشاه الجميع، شاهداً على معاناة أهالي قطاع غزة للمرة الثالثة، حتى بعد وقف إطلاق النار "على الورق".


وضع إنساني طارىء

قطاع غزة يواجه شتاءه الثالث على التوالي في ظروف قاسية، حيث تضررت البنى التحتية بالكامل جراء الحرب المستمرة. الكهرباء مقطوعة، والمياه غير صالحة للشرب، والطرق والمدارس والمستشفيات بحاجة عاجلة لإعادة تأهيل. البنية التحتية المدمرة تجعل الوصول إلى الخدمات الأساسية شبه مستحيل، بما في ذلك الإنترنت، وشحن الهواتف، والحصول على مياه نظيفة أو تدفئة كافية. المباني المتضررة والطرقات المدمرة تضيف عبئاً إضافياً على السكان، الذين يضطر كثيرون للعيش في خيام مهترئة تواجه خطر الغرق عند أول هطول للأمطار.

مع كل منخفض جوي، تتفاقم معاناة آلاف العائلات في المخيمات، حيث تتسرب المياه إلى الخيام وتغمر الشوارع، مما يضاعف شعور السكان بعدم الأمان ويجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة، ويؤكد استمرار الوضع الإنساني الطارئ رغم إعلان وقف إطلاق النار.

أصبحت البيوت الدافئة خياماً تغمرها المياه من كل جهة بفعل قطرات المطر والرياح، وأصبح فصل الشتاء فصلاً يخشاه الجميع، شاهداً على معاناة أهالي قطاع غزة للمرة الثالثة، حتى بعد وقف إطلاق النار "على الورق"

مع بداية فصل الشتاء، تصبح حركة التنقل في غزة تحدياً يومياً بسبب شوارع غارقة بالمياه الراكدة الناتجة من الأمطار وهشاشة البنية التحتية. كثير من الطرق الرئيسية والفرعية غير سالكة، مما يجعل الوصول إلى المدارس أو المراكز الصحية أو الأسواق شبه مستحيل، خصوصاً للعائلات التي تعتمد على المواصلات العامة أو الطرق السريعة للوصول إلى احتياجاتها. مياه الأمطار، ممزوجة أحياناً بنقص الصرف الصحي ومجاري المياه المدمرة، تتجمع في برك كبيرة تُعيق الحركة وتشكل بيئة خصبة لتكاثر الأمراض والجراثيم. هذه المعاناة اليومية تضيف ضغطاً إضافياً على السكان، وتجعل الشتاء في غزة أكثر من مجرد برودة وأمطار؛ إنه اختبار للصبر والبقاء في مواجهة الواقع القاسي.

انتظار بلا جدوى

لا تزال حياة آلاف العائلات في غزة محفوفة بالغموض والضيق. كثير من البيوت في المناطق الشرقية والحدودية لم يُسمح لأصحابها بالعودة إليها بعد، بسبب عدم التزام الاحتلال بالمرحلة الثانية من بنود الاتفاق، ما ترك الأسر تنتظر بلا جدوى. العديد من العائلات كانت تأمل أن تُفتح المعابر قبل بدء الشتاء لاستئناف الدراسة أو الوصول إلى المستشفيات أو متابعة أعمالهم، لكن حتى اليوم يبقى المستقبل مجهولاً، ومع اقتراب المنخفضات الجوية يصبح الوضع أكثر صعوبة.

الآلاف من الطلبة الجامعيين وطلاب المدارس في غزة يعتمدون بشكل كامل على التعليم أونلاين، مما يجعل الوصول المستمر للإنترنت والكهرباء ضرورة أساسية لاستكمال دراستهم.

صعوبة التواصل مع العالم الخارجي

اليوم، يمثل شحن الهواتف المحمولة أو الاتصال بالإنترنت تحدياً كبيراً، بخاصة بعد انقطاع الكهرباء لأكثر من عامين.

تعتمد العديد من الأسر على الخلايا الشمسية كمصدر رئيسي للطاقة، لكن شح الشمس في أيام الشتاء يجعل هذه الطريقة غير كافية، ويزيد من صعوبة متابعة الدراسة أو التواصل مع العالم الخارجي.

مع بداية الشتاء، تصبح الحياة في المخيمات أكثر تحدياً.

إسراء، طالبة جامعية تعيش في أحد المخيمات المتضررة، تصف تجربتها لرصيف22: "على الصعيد الشخصي، أنا أدرس في الجامعة، لكن شحن الأجهزة، خصوصاً اللابتوب، أمر صعب جداً. الإنترنت ينقطع كثيراً، وهذا يؤخر تسليم المشاريع ويؤثر في علاماتي. مصدرنا الرئيس للطاقة هو الطاقة الشمسية، وعندما لا تشرق الشمس، لا يوجد كهرباء ولا إنترنت. هذا يؤخر تقريباً كل شيء في حياتنا اليومية".

كلماتها تعكس كيف تجعل ظروف الشتاء القاسية، مع انقطاع الكهرباء لأكثر من عامين مع الاعتماد بشكل كامل على مصادر الطاقة الطبيعية مثل الشمس مهمة صعبة جداً، حتى المهام الأساسية صعبة على الطلاب والعائلات.

"بس تمطر الدنيا بضل مخنوق وبقول يا رب توقف، لأني عارف صحابي في المخيم رح يغرقوا وما بقدر أساعدهم بحاجة"

في قطاع غزة، يعيش أقل من نصف السكان في بيوت لا تزال صالحة للعيش، معظمهم في المناطق الوسطى من القطاع، حيث لم تدخلها القوات البرية للاحتلال كما حدث في باقي المناطق التي تحولت إلى ركام وخيام.

ومع اقتراب الشتاء، أصبح العثور على مسكن مؤقت مهمة شاقة، إذ تتجاوز أسعار الإيجار 500 دولار للشقة الواحدة دون أي خدمات أساسية، من مياه وكهرباء واتصال بالإنترنت، وحتى نقاط شحن الهواتف.

وفي هذا السياق، يشير رامز إلى صعوبة تحمل تكاليف السكن قائلاً: "أقل شقة تحتاج 3 إلى 4 آلاف شيكل، ولا أحد يستطيع دفع هذا المبلغ".

لا يشعر الذين يقيمون في بيوت بالطمأنينة الكاملة، إذ يظل القلق على الأقارب والأصدقاء في المخيمات حاضراً دائماً.

ويعبر أحمد الشيخ عن هذا الشعور بالضغط النفسي قائلاً: "بس تمطر الدنيا بضل مخنوق وبقول يا رب توقف، لأني عارف صحابي في المخيم رح يغرقوا وما بقدر أساعدهم بحاجة".

هذا الواقع يعكس هشاشة الأمان وغياب الاستقرار حتى بين من يعيشون في بيوت، ويؤكد استمرار معاناة سكان غزة في الشتاء الثالث على التوالي، وأما اليوم حتى بعد وقف إطلاق النار، يجتمع البرد، الغرق، وارتفاع أسعار المعيشة لتشكّل ضغطاً مضاعفاً على الحياة اليومية للأسر.


بنية تحتية منهارة

رغم أن بعض الأسر لا تزال تعيش داخل مبانٍ قائمة، إلا أن البنية التحتية المنهارة في غزة جعلت حتى أغلب هذه البيوت غير آمنة أمام قسوة الشتاء.

ففي 10 ديسمبر/ كانون الأول، ومع اشتداد المنخفض الجوي الأخير، انهارت خمسة مبانٍ في مناطق متفرقة من مدينة غزة إذ لم تصمد جدرانها المتصدعة والمتضررة بفعل القصف السابق أمام غزارة الأمطار وقوة الرياح.

بعض هذه المباني كان يأوي عائلات نازحة لا تملك أي بديل للسكن. ويحذّر الدفاع المدني من استمرار مخاطر السقوط في المباني المتضررة التي تآكلت أساساتها بسبب الحرب ونقص مواد الصيانة، مما يعكس هشاشة المأوى المتبقي للعائلات في ظل الفيضانات والعواصف.

هذه الانهيارات لم تكن حادثة معزولة، بل جزءاً من موجة أوسع من الدمار، وسط آلاف مكالمات الاستغاثة التي استقبلتها طواقم الإنقاذ بسبب الأمطار التي غمرت الخيام والمناطق السكنية، مما يفاقم المعاناة الإنسانية ويبرز الحاجة الماسّة لملاجئ آمنة ومواد إيواء كافية.

الشتاء يمثل تحدياً يومياً للبقاء على قيد الحياة، فهناك عائلات نازحة نُصبت خيامها في أماكن منخفضة عن سطح الشارع بسبب قلة الأماكن المتاحة، مما يجعل مياه الأمطار تتدفق إليها مباشرة مع كل منخفض جوي. يقضي بعض الآباء الليالي الممطرة بلا نوم، يحاولون حماية خيامهم المتداعية وأطفالهم من المياه المتسربة والرياح العاتية.

وبينما يُنظر إلى الشتاء في أماكن أخرى كفصل للدفء والرومانسية، فإنه في غزة يتحول إلى فصل صراع يومي مع البرد، الأمطار، انقطاع الكهرباء، وشح الموارد. كل يوم هو معركة جديدة للبقاء، بين إصلاح الخيام، وتأمين الضوء والطاقة، والبحث عن الأخشاب والطعام وسط الغلاء المستمر.

بدأ وقف إطلاق النار في قطاع غزة في التاسع من أكتوبر 2025، حيث شعر السكان حينها أن معاناتهم الطويلة قد تصل إلى نهايتها، وأن الحلول ستكون ممكنة قبل دخول الشتاء، إلا أن الواقع اليوم مختلف تماماً، حيث يعيش آلاف السكان في مخيمات النزوح وغالبية الخيم مهترئة وغير صالحة لمواجهة الأمطار والبرد، بعدما انتهت صلاحية معظمها التي كانت 6 أشهر.

خيمتهم كانت مصنوعة يدوياً، وكل زاوية فيها تحمل مسؤولية كبيرة.

تعليقاً على هذه النقطة، تقول إسراء لرصيف22: "في أحد أيام المنخفض الجوي الحالي، الرياح كانت قوية جداً، وكل واحدة من أخواتي كانت تمسك زاوية من الخيمة المصنوعة من الخشب، لتمنعها من الكسر. حاولنا حماية ما نستطيع من أغراض من المياه المتسربة، لكن كل شيء كان صعباً للغاية. شعرت أن الخيمة الصغيرة هذه، التي صنعناها بأيدينا، أصبحت ساحة معركة مع الطبيعة، وكل يوم يمر فيها هو اختبار للصبر والصمود".

هذه القصة تكشف هشاشة المأوى الذي يعيشه آلاف النازحين/ات، وتوضح كيف يصبح الشتاء تحدياً يومياً ليس فقط بسبب البرد والمطر، بل بسبب صعوبة حماية أنفسهم وخيامهم من الرياح القوية.

رامز، أحد سكان المخيمات، يعيش الآن شتاءه الثاني في الخيم، يقول لرصيف22، إن أول شتاء لم يكن الوضع هكذا، فقد كانت الخيم جديدة حينها، وكان بإمكان العائلات مواجهة الأمطار والبرد بشكل أفضل. أما في أول منخفض جوي عاشه رامز وعائلته في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، فقد اكتشفوا هشاشة خيمهم حيث يعيش أكثر من مليون شخص في خيم اليوم، إذ يصف رامز الموقف قائلاً: "المطر دخل خيمتي بسرعة، حاولت أن أحمي الأغراض لكن الماء كان يتسرب من كل مكان، لم أستطع النوم طوال الليل"، مضيفاً: "كل هذا بعد وقف إطلاق النار، ولا يوجد أي حل عاجل على الأرض".

مع بداية المنخفضات الشتوية، تصل البرودة في غزة إلى مستويات تهدد حياة الأطفال والكبار على حد سواء. ففي شتاء هذا العام، فقدت الطفلة رهف أبو جزر، ابنة الـ 9 أشهر، حياتها بسبب شدة البرد وتجمد جسدها الصغير، ليكون موتها شاهداً على قسوة الحياة في غزة. هذه الحادثة، رغم فاجعتها، لم تكن الأولى؛ فالشتاء السابق أيضاً شهد حالات وفاة نتيجة البرد القارس، مما يعكس صعوبة الظروف الحالية والعجز عن حماية الأطفال من قسوة الطبيعة وظروف النزوح بخاصة في المخيمات.

مع انتهاء الحرب "على الورق"، طلبت بعض الجامعات والجهات الحكومية من النازحين مغادرة المباني التي كانوا يقيمون فيها، والتي أصبحت مأواهم المؤقت بعد تدمير بيوتهم ومناطقهم، تمهيداً لإعادة تهيئتها واستئناف الدراسة أو العمل. هذا القرار ترك آلاف العائلات في وضع صعب جداً، حيث لم يكن لديهم مكان آمن يلجؤون إليه حيث يعيش في هذه المراكز أكثر من 350 الف نسمة، مصيرهم مجهول خصوصاً مع اقتراب الشتاء.

في ظل كل هذه الصعوبات، يظل حلم الحياة الطبيعية، رغم أن الغد يظل ضبابياً ومجهولاً، والشتاء يثبت مرة أخرى أن غزة لا تزال تقاوم بصمت، بين ألم الماضي وحيرة المستقبل

وجدت جمانة نفسها وعائلتها مضطرين لمغادرة المبنى الذي كانت تقيم فيه مع عائلتها في إحدى الكليات التطبيقية، والذي كان بالنسبة إليها آخر مساحة آمنة بعد تدمير بيتها. القرار جاء فجأة، مع اقتراب الشتاء وفصل منخفضات طويل، تاركاً آلاف العائلات بلا مأوى.

تصف جمانة، لرصيف22، شعورها بالقول: "القرار إجا فجأة وكأنه في وقت مناسب جداً، مع أنه إحنا داخلين على شتاء وفصل منخفضات جداً طويل، ما عندي للأسف أي مكان أروح عليه".

وتضيف عن تأثير الحرب عليها: "رسمياً الإعلام بيحكي أن الحرب خلصت بس الحقيقة مختلفة تماماً، البيت مدمر والعائلة مشتتة وأنا نفسياً لسا ما وقفت على رجلي".

وتتابع عن شعورها المستمر بالعجز: "بحس أني بحارب حرب جديدة لحالي، اسمها حرب، وين أروح هالمرة".

في كل زاوية من شوارع غزة المدمرة، يختلط الشعور بالأمل واليأس؛ كل شارع، كل مبنى، يذكر الناس بما فقدوه وما لم يعد لهم. أما الخيام التي استقبلتهم بعد الحرب فتقف الآن أمام أول اختبار حقيقي لها، الأمطار والبرد يصعبان حياتهم اليومية ويجعلان كل يوم صراعًا للبقاء.

وفي ظل كل هذه الصعوبات، يظل حلم الحياة الطبيعية، رغم أن الغد يظل ضبابياً ومجهولاً، والشتاء يثبت مرة أخرى أن غزة لا تزال تقاوم بصمت، بين ألم الماضي وحيرة المستقبل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image