يعيش المواطن اللبناني اليوم، في دوامة صراع بين وفرة المياه نظرياً، وندرتها في الواقع. ومع انقطاع مياه الدولة لأيام وأسابيع قبل أن تصل إلى البيوت، يجد المواطن نفسه معتمِداً بشكل قسري على مصادر منهِكة مادياً ونفسياً، يواجه بها أزمة العطش. ومع كل أزمة حياتية تُضاف يومياً إلى سلّة المواطن، يظهر مباشرةً ضعف الإدارة في تعاطيها مع الأزمات.
يحدث هذا بينما يتمتّع لبنان بموارد مائية أفضل من العديد من الدول العربية "الشحيحة" من حيث الموارد الطبيعية. لكنّ هذه الموارد لم تُترجَم إلى وفرة فعلية في التوزيع والخدمة بسبب مشكلات إدارية وبنيوية. فالبنية التحتية للمياه، المتقادمة وغير الفعّالة في البلاد، أدت إلى مشكلات خطيرة في توزيع هذه الثروة. تواجه وزارة الطاقة والمياه اللبنانية وهيئات المياه الإقليمية، صعوبات في صيانة البنية التحتية القائمة، مما يؤدي إلى هدر المياه بسبب التسرّبات، وعدم كفاية تخزين المياه، وسوء جودتها، وغياب إصلاحات الحوكمة في إدارتها.
وتُعدّ المياه من أهم الموارد التي تقوم عليها الحياة بأشكالها كافة. فالحصول على مياه نظيفة يؤثّر بشكل مباشر على الأمن الغذائي، النمو الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي. كما ترتبط ارتباطاً مباشراً بأهداف التنمية المستدامة، بحيث تساهم وفرتها في تطور قطاع الزراعة، الصناعة والخدمات، وتالياً غيابها أو سوء إدارتها يساهمان في تدهورها.
وعليه، إذا كان لبنان بلداً غنياً بالمياه نظرياً، فلماذا يعيش اللبنانيون اليوم أزمة عطش يومية؟ وأين تكمن جذور الخلل الذي جعل الماء حقاً غائباً عن حياة الناس؟

نقص حادّ وسوء إدارة وتنظيم
في تقرير صادر عن المركز اللبناني للدراسات السياسية، تبيّن أنّ العجز السنوي بين حاجة المواطنين والموارد المائية المتاحة يبلغ نحو 400 مليون متر مربع، ويفسر هذا التقرير الفروقات الجمّة بين العرض والطلب، وسوء الإدارة والتنظيم من قبل الجهات المعنية. في جوهر هذا الهدر، "الهدر في الشبكات"، بحيث يصل الهدر المائي في أثناء التوصيل إلى نحو 40% من الموارد المتاحة، ونسبة المياه الموزّعة وغير المفوترة تبلغ نحو 50%، بالإضافة إلى مشكلات أخرى جميعها تتمحور حول غياب الخطط والتنظيم: انقطاع الكهرباء الذي يؤدي إلى توقّف الضخ، سوء الصيانة والفساد اللذان عطّلا تشغيل محطات تكرير بقيمة مليار دولار، تزايد أعداد السكان بشكل دراماتيكي نتيجة تواجد اللاجئين السوريين، مما زاد الطلب على المياه دون وجود خطة تنموية واضحة تقترح حلولاً.
شهد قطاع المياه هدراً كارثياً للمال العام، خصوصاً في ما يخص محطات تكرير المياه التي كلّفت الدولة نحو مليار دولار، من دون أن تُشغَّل فعلياً أو يستفيد منها المواطن
إلى ذلك، ومن خلال مشاريع أطلقتها جامعة بيروت العربية، تبيّن تفاوت في مناطق لبنان في الوصول إلى مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي. فبينما تتمتع المناطق الحضرية، مثل بيروت، بإمكانية وصول أفضل نسبياً، غالباً ما تواجه المناطق الريفية والتجمعات السكنية العشوائية، بما في ذلك مخيمات اللاجئين، نقصاً حادّاً في المياه، ونقصاً في خدمات الصرف الصحي.
مرة واحدة في الأسبوع
يشير الدكتور حاتم ناصر، من بلدة تمنين الفوقا في البقاع، إلى أنّ البئر الرئيسية التي كانت تاريخياً الشريان الحيوي لكلّ من تمنين الفوقا وتمنين التحتا، ولم يُسجَّل أنها جفّت في السابق، باتت اليوم تعاني من تراجع كبير في منسوب المياه. هذا الانخفاض الملحوظ حوّل الاعتماد على مصادر الدولة إلى معضلة يومية، إذ لا تصل مياه الشبكة إلى المنازل سوى مرة واحدة في الأسبوع فقط. ويضيف الدكتور ناصر، أنّ سكان تمنين التحتا تخلّوا بالكامل عن الاستفادة من هذه البئر، لأنّ كمياتها لم تعد تكفي إلا لتغطية جزء بسيط من احتياجات تمنين الفوقا وحدها. وكنتيجة مباشرة، يضطر الأهالي إلى شراء المياه على نفقتهم الخاصة وبصورة شبه أسبوعية، ما يشكّل عبئاً اقتصادياً إضافياً يثقل كاهل العائلات في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
لا تنحصر الأزمة في سوء الإدارة فقط، بل تتداخل معها ظروف سياسية وأمنية، ففي الجنوب، تؤكد مروى (اسم مستعار)، من بلدة مجدل سلم، أنّ العدوان الإسرائيلي الأخير أدّى إلى تدمير شبكات المياه التي تزوّد المنازل، ما تسبب في انقطاع تام للمياه عن عدد كبير من السكان. ونتيجة تأخّر أعمال الصيانة والترميم من قبل الجهات المحلية، اضطرت عائلات عدة إلى النزوح المؤقت إلى مناطق أخرى لتأمين حاجاتها الأساسية من المياه، في حين يستمر جزء من السكان في الاعتماد على شراء مياه الصهاريج بكلفة مرتفعة، تزيد من الأعباء الاقتصادية والمعيشية على الأسر المقيمة.
معاناة الناس مع الماء في لبنان لم تعد مجرّد أزمة خدمات، بل أصبحت معركةً يوميةً من أجل حق بسيط من حقوق الحياة، مرهون بالظروف الاقتصادية والسياسية، لكن، ما الذي يجعل إدارة المياه في لبنان عاجزةً إلى هذا الحدّ؟ ومن المسؤول عن هذا الخلل؟

خلل حوكمي وسياسي
في تعليقها على الإصلاحات القانونية الضرورية لضمان إدارة عادلة ومستدامة لقطاع المياه في لبنان، توضح النائب الدكتورة نجاة صليبا، أن القانون رقم 192 الصادر عام 2020، ينصّ بشكل واضح على إنشاء الهيئة الوطنية لإدارة المياه، وهي الجهة التي يُفترض أن تتولى التخطيط والإشراف على هذا القطاع بشكل مركزي ومنظّم. إلا أنّ وزير الطاقة والمياه، بحسب ما تذكر، رفض المضي في إنشاء هذه الهيئة عادّاً أنها تنتقص من صلاحيات وزارته.
يضطر الأهالي إلى شراء المياه على نفقتهم الخاصة وبصورة شبه أسبوعية، ما يشكّل عبئاً اقتصادياً إضافياً يثقل كاهل العائلات في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
وترى صليبا في حديثها إلى رصيف22، أنّ المشكلة الأساسية لا تكمن فقط في غياب الإرادة السياسية، بل أيضاً في غياب المراسيم التطبيقية التي تترجم القوانين إلى خطوات عملية وتحدد المسؤوليات وآليات التنفيذ والمتابعة. لذلك، تؤكّد على أنّ إقرار وإصدار هذه المراسيم هما الخطوة الأولى والملحّة على طريق الإصلاح القانوني. وتضيف أنّ من بين الإصلاحات الضرورية أيضاً، الالتزام بمبدأ أساسي ينصّ عليه القانون اللبناني، وهو أنّ المياه حق عام لكل المواطنين وليست سلعةً تجاريةً. وعليه، فإنّ بيع المياه عبر الصهاريج أو تحقيق أرباح غير شرعية من مصادر المياه العامة يُعدّان مخالفةً للقانون ويستوجبان المساءلة والمحاسبة، لأنّ المواطنين اليوم يدفعون ثمن سوء الإدارة من جيوبهم وحياتهم اليومية.
وفي ما يتعلّق بدور البرلمان الرقابي، تشدّد صليبا، على أنّ الرقابة الصارمة هي الوسيلة الأساسية لوقف الهدر والفساد في قطاع المياه. تقول: "لسنوات طويلة، شهد هذا القطاع هدراً كارثياً للمال العام، خصوصاً في ما يخص محطات تكرير المياه التي كلّفت الدولة نحو مليار دولار، من دون أن تُشغَّل فعلياً أو يستفيد منها المواطن. الأموال ذهبت هباءً، فيما بقيت الأزمة تتفاقم. لذلك فإنّ تفعيل الرقابة البرلمانية لم يعد خياراً، بل أصبح واجباً وطنياً لضمان عدم تكرار هذه الكارثة".

تواطؤ لأسباب سياسية وطائفية
وفي تعليق عن العوائق التي تواجه المؤسسات العامة في تطبيق القوانين وحماية الموارد المائية من التلوّث والاستغلال السياسي، يؤكد الدكتور سامي علوية، المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، في حديث إلى رصيف22، أنّ "العوائق ليست أبداً في ضعف القضاء أو ضعف القوى الأمنية كما يظنّ البعض، بل في التواطؤ الحاصل بين الإدارات العامة والمعتدين أنفسهم. التعدي العادي يمكن مواجهته بالإرادة وتطبيق القانون، ولكن ما يعطل تطبيق القوانين بعض التراخيص غير الشرعية أو المهل غير النظامية أو التدابير الإدارية المتحايلة التي تمنحها وزارات كثيرة لأسباب سياسية وحتى طائفية، فمثلاً المؤسسات الصناعية الملوّثة قد تلجأ إلى تراخيص دون التزام بالشروط البيئية تمنحها إياها وزارة الصناعة (ليس بالضرورة الوزير الحالي)، ولكنها ممنوحة منذ تسعينيات القرن الماضي وتكررت مع وزراء متعاقبين، والمعتدون على الأملاك النهرية مثلاً قد يتذرعون بتقديم طلبات أشغال إلى وزارة الطاقة (دائرة الحقوق على المياه في مديرية الموارد المائية)، للتحايل على قرارات الإزالة. وأصحاب المقالع والمرامل يتذرعون بطلبات استصلاح أراضٍ مقدمة إلى وزارة الزراعة أو طلبات نقل ناتج مقدمة إلى وزارتَي البيئة أو الداخلية، وكلّها حيل وتحايل تقوّض سلطة القانون وتهدر الموارد المائية وغيرها من الحقوق التي تمنح على المياه والأملاك العامة دون وجه حق".
العوائق ليست أبداً في ضعف القضاء أو ضعف القوى الأمنية كما يظنّ البعض، بل في التواطؤ الحاصل بين الإدارات العامة والمعتدين أنفسهم
كما يعلّق الدكتور علوية على أثّر غياب التمويل وتدخّل القوى النافذة على قدرة مؤسّسات المياه في تحسين البنى التحتية وتوفير الخدمة: "غياب التمويل ليس بالضرورة هو العائق الرئيسي لمؤسسات المياه، بل سوء الإدارة من قبله وانعدام الجباية والتغاضي عن المخالفات وعدم تطبيق قانون المياه وأنظمتها هي ما تضعها في إطار الأزمة المالية. أما عن التدخل السياسي أو ما يسمّى بالقوى النافذة فهو موجود، ولكن المسؤولية تبقى على المؤسسات التي تخضع أو تستجيب أو تتواطأ مع أفراد في تلك القوى، فلا يوجد مبرر أخلاقي أو قانوني يوجب الخضوع. في النهاية القوى النافذة مصلحتها يجب أن تكون تحقيق الخدمة العامة لسائر المشتركين. أما إذا كانت المؤسسات نفسها تميّز بين مشترك وآخر أو بين منطقة وأخرى أو بين مخالف وآخر، لأغراض تتعلق بالضعف أو الفساد، فإنها ستدخل بالتأكيد في دوامة الابتزاز السياسي. أما حين تعتمد وحدة المعايير، فلن تكون مضطرةً إلى الخضوع أو الرضوخ للتدخلات".
القانون وثغراته
يعيش اللبنانيون يومياً أزمة مياه تتراوح بين الانقطاع المستمر وضعف جودة المياه، ما يجعل إدارة هذا المورد معضلةً حياتيةً عاجلة. وفي ظل هذا الواقع، يبرز دور القوانين في تنظيم المسؤوليات وتوضيح كيفية إدارة المياه بشكل عادل ومستدام.
توضح المحامية بديعة معنية، في حديث إلى رصيف22، أنّ في لبنان قانوناً لتوزيع المسؤوليات في إدارة قطاع المياه بين وزارة الطاقة والمياه، مؤسسات المياه الإقليمية، والبلديات: "القانون رقم 77 الصادر عام 2018، ومرسومه رقم 221 الصادر عام 2000، والذي ينص على أنّ وضع الإستراتيجيات والسياسات يكون من مسؤولية وزارة الطاقة والمياه، ومؤسسات المياه الإقليمية تكون المسؤولة المباشرة على تطبيق تلك السياسات، لتكون البلديات الجهة المساندة لها فقط مع إمكانية القيام بمشاريع صغيرة". وعنذ سؤالنا عن مدى وضوحيه القانون وتطبيقه، تشدّد المحامية على أنّ القانون واضح، لكن فيه ثغرات تتعلق بتوزيع المسؤوليات بشكل دقيق، مما يشكل الذريعة لتطبيقه بما يتناسب مع مصالح الجهة التي تستند إليه كمرجع.
وعن سؤالنا عن مسار الشراكات السابقة بين الدولة والقطاع الخاص في إدارة قطاع المياه، تجيب القانونية مؤكدةً أنّ هذه الشراكة فشلت، بسبب غياب القوانين التنظيمية لتلك الشراكات، وغياب الرقابة من جهة، بالإضافة إلى ضعف الاستثمار والضخّ المالي، بسبب غياب ثقة المستثمرين بالدولة اللبنانية.
الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص فشلت لغياب القوانين التنظيمية والرقابة، وضعف الاستثمار والضخّ المالي بسبب غياب ثقة المستثمرين.
وعن الأطر القانونية اللازمة لضمان الشفافية وحماية المواطنين الأكثر ضعفاً من أي أعباء إضافية، تؤكد الخبيرة القانونية أهمية إصدار المراسيم التطبيقية التي تضمن تطبيق القانون رقم 221 بشكل كامل، وحتى دراسة إمكانية إقرار قوانين جديدة إذا اقتضت الحاجة. وتضيف أنّ من الضروري اعتماد تسعيرة ثابتة للمياه ترتبط بنسبة الاستهلاك، بحيث تضمن الدولة توفير المياه للمواطنين بأسعار عادلة، وتحمي الفئات الضعيفة من أي أعباء مالية إضافية، وتمنع أي استغلال أو تحويل للمياه إلى سلعة تجارية.
حلول عاجلة
يرى المهندس محمد زين الدين، المتخصص في هندسة مشاريع المياه، "أنه لا بد من اللجوء إلى الطاقة المتجددة لضمان استمرارية الخدمة في تأمين المياه، فألواح الطاقة الشمسية حلّ فعّال جداً، لتشغيل مضخات المياه، وتالياً تخفيف أعباء انقطاع الكهرباء والفيول. كما يمكن اعتماد نظم تخزين الطاقة لضمان تشغيل المنشآت خلال انقطاع الكهرباء.
ويؤكد زين الدين في حديثه إلى رصيف22، أيضاً على أهمية أن تكون لدى كل مؤسسة تعمل في مجال المياه، خرائط مفصلة لشبكات المياه الموجودة في المنطقة التي تعمل فيها، ولا سيما لكشف الشبكات الحديدية التي فيها تسرّب مياه، وتالياً تفادي الهدر".
أما عن الأولويات التقنية العاجلة لخفض الفاقد وتحسين شبكات المياه، فيشدد المهندس: "يوم توجد خرائط، يُعرف مصدر التسريب، مما يتيح فرص إصلاح شبكات توزيع المياه أو تجديدها. كما يؤكد على أهمية تركيب عدادات ذكية لمراقبة استهلاك المياه والكشف المبكر عن الفاقد، بالإضافة إلى ضرورة وجود فرق صيانة مدرّبة على صيانة الشبكات وإصلاحها في كل مؤسسة".
المياه ليست مجرد مورد، بل شريان للحياة، ومع استمرار الانقطاعات والهدر في الشبكات، يواجه اللبنانيون تحديات تمسّ حياتهم وأعمالهم. الحلول الهندسية والقوانين قد تساعد في حل تلك الأزمة، ولكن يبقى السؤال: "هل لدى لبنان الإرادة السياسية الحقيقية والقدرة على التعاون لإنقاذ هذا المورد الحيوي قبل أن تصل الأزمة إلى نقطةٍ لا رجعة فيها؟
*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع فريريش إيبرت - مكتب لبنان FES".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.


