في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، لا تكاد توجد واقعة تلخص مأزق المثقف في مواجهة السلطة مثل لقاء المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون (ت. 808هـ/1406م) بالفاتح المغولي-التركماني تيمورلنك (ت. 807هـ/1405م). وقع ذلك اللقاء بالقرب من أسوار دمشق في شتاء سنة 803هـ/1400م ولم يكن مجرد حادثة بروتوكولية اعتيادية بين عالم وسلطان، بل كان، في حقيقته، صداماً رمزياً بين "النظرية" التي تصف قوانين العمران والدولة، و"القوة" التي تجسدها جيوش تيمور التي سحقت المدن الإسلامية المشرقية واحدة تلو الأخرى.
في كتابه المعنون بـ"التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً"، كتب ابن خلدون واصفاً أحداث هذا اللقاء فقال: "دخلت على السلطان -يعني تيمور- فاستدعاني وأجلسني إلى جانبه، وأطال الحديث معي، واستكثر من سؤالي عن أحوال المغرب وأخباره". على الرغم من بساطة العبارة السابقة، لكنها تحمل خلفها طبقات من المعاني العميقة: مؤرخ سبعيني أنهكته الأسفار، يجد نفسه أمام رجل ملأ الدنيا رعباً، يطلب منه أن يشرح له سرّ الممالك والدول في أقصى الغرب. ما هي تفاصيل هذا اللقاء؟ وكيف حمل أبعاداً رمزية لا تزال مؤثرة في واقعنا المُعاش؟
ابن خلدون... الفقيه والمؤرخ
ولد عبد الرحمن بن خلدون في تونس في سنة 732هـ/1332م، في بيت أندلسي عريق. درس العلوم الشرعية واللسانية، وانخرط مبكراً في مجال السياسة بالأندلس والمغرب. واُتيحت له الفرصة لدراسة تفاصيل ضعف الدولة الإسلامية في الأندلس، الأمر الذي قاده إلى صياغة نظريته الشهيرة التي طرحها في مقدمته، والتي تتمحور حول فكرة أن العمران البشري تحكمه قوانين، أهمها العصبية والدورة التاريخية للدول.
حين يقف المؤرخ أمام السلطان، تتقلص المسافة بين الحكمة والقوة، ويكشف التاريخ عن حقيقة أن المعرفة قد تُنصت للبطش حين يعجز السيف عن سماعها
على الرغم من صرامة هذه النظرية، ظل ابن خلدون رجلاً عملياً براغمتياً إلى حد بعيد، فاقترب من سلاطين عصره في المغرب والأندلس ومصر، وتنقل بين قصور بني مرين وبني الأحمر والمماليك. الأمر الذي جعله "مثقفاً عضوياً" بحسب تعريف المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، بما يعني أنه مثقف فاعل ومؤثر في الدوائر السياسية والمجتمعية المحيطة به، مما يعطي لأفكاره وممارساته أبعاداً عملية لا يمكن التغافل عنها. ومن هنا تكمن أهمية لحظة لقاء ابن خلدون بتيمورلنك، لأنها كانت لحظة امتحان حقيقي لقدرة المؤرخ المغاربي (التونسي) على المواءمة بين النظرية والممارسة.
تيمورلنك: الفاتح الأعظم
على الجانب المقابل، كان تيمورلنك هو الطرف الثاني للقاء. خرج تيمورلَنْك -والذي يعني اسمه تيمور الأعرج- من سمرقند في آسيا الوسطى. وجمع تحت رايته جموعاً غفيرة من الأتراك والمغول من كل حدب وصوب. وبحلول سنة 1400م، كان قد تمكن من اجتياح فارس والعراق وأجزاء من الهند، والأناضول، وبات على مرمى حجر من حدود السلطنة المملوكية في الشام ومصر.
تتباين الصور التي قدمتها المصادر التاريخية المعاصرة لتيمورلنك. ظهرت صورته في أكثر الكتابات بشكل دموي عنيف. على سبيل المثال، وصفه ابن عربشاه في كتابه "عجائب المقدور" بأنه كان "فتنة الله في أرضه، سيفه المسلول على عباده، لا يرحم صغيراً ولا يوقر كبيراً". ويقول في موضع آخر من كتابه: "كان إذا دخل مدينة أفسدها، وإذا استولى على قطر خربه".
على النقيض من ذلك، قدم ابن خلدون صورة أكثر توازناً للفاتح التركماني المغولي، فوصفه بالمدمّر، وأنه "قد ملأ الدنيا ولا رادّ له إلا الله". ولكنه في الوقت ذاته أثنى على حبه للعلم والمعرفة، فوصفه بقوله: "كان محباً للعلماء، مقبلاً على الحديث معهم".
دمشق المحاصرة: مكان اللقاء
في سنة 803هـ/1400م، نجح تيمورلنك في غزو حلب وحماة، ونزلت جيوشه بالقرب من دمشق، فيما كانت جيوش المماليك بقيادة السلطان الناصر فرج قد حُشدت هي الأخرى استعداداً للدفاع عن العاصمة الجنوبية لسوريا. يتحدث المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" عن الظروف العصيبة التي عاش فيها أهل دمشق في تلك الفترة، فيقول: "امتلأت دمشق بالخلق من كل مكان، وضاقت بهم الأزقة، وأرهقهم الغلاء والخوف".
في تلك الأجواء المُلبدة بالرعب، وبسبب المؤامرات المستمرة بين أمراء المماليك، انسحبت الجيوش المملوكية بعد فترة من المناوشات مع المغول. وبدأ العديد من أهل دمشق في الهروب من المدينة خوفًا من المصير الدامي الذي ينتظرهم عقب دخول جيش تيمورلنك. في تلك الأثناء، سعى ابن خلدون لمقابلة تيمورلنك للحصول على عهد أمان لأهالي دمشق. بحسب ما ذكر ابن خلدون في كتابه "التعريف" فإنه لمّا خرج من دمشق قابل بعض القادة المغول وعرفهم بنفسه، فقادوه إلى خيمة تيمورلنك "فدخلت على السلطان في خيمته، فرفعني وأجلسني إلى جانبه، وقرّبني، وأخذ يسألني عن المغرب، وعن دوله، وعن مسالكه".
بحسب شهادة ابن خلدون، فإن تيمورلنك طرح العديد من الأسئلة عن بلاد المغرب ومدنه وجغرافيته، وطلب من ابن خلدون أن يكتب له كتاباً مخصوصاً عن أهم المدن المغربية. الأمر الذي استجاب له المؤرخ الأندلسي من فوره، واتخذ منه وسيلة لطلب الأمان لأهل دمشق. وفي هذا يقول: "كتبت له -أي تيمورلنك- عهد الأمان لأهل دمشق، بخطي، فأمضاه بخاتمه". للحظة، بدا أن الكلمة قد انتصرت على السيف. لكن الوقائع جاءت معاكسة: بعد أيام دخلت الجيوش ونُهبت البيوت، وأُحرقت الأسواق، وسُبي العديد من الأهالي. يعلق المقريزي على تلك الأحداث المؤسفة، فيقول: "لم يلتزم تيمور بما كتب، بل أخذ من الأموال ما لا يحصى". أما ابن عربشاه فقد هون من شأن عهد ابن خلدون إذ قال: "كتب لهم عهداً لم يغن عنهم شيئاً، وكان خطه أهون عليهم من رماد في مهب الريح".
في حضرة تيمور أدرك ابن خلدون أن نظريته عن العمران ليست مجرد كلام في الكتب، بل امتحان يتكرر كلما التقى العقل بجبروت القوة
بعيداً عن عهد الأمان، حظي ابن خلدون بضيافة ممتازة في بلاط السلطان المغولي، إذ يذكر المؤرخ التونسي أن تيمورلنك قد أجلسه بالقرب من مجلسه، وأنه أمر أتباعه بحسن معاملته، وبالغ في إكرام وفادته، حتى أنه أمر بإطعامه بعض أنواع الطعام المعروفة في الأوساط المغولية. من جهته، حاول ابن خلدون أن يبين حسن نواياه وصدق مشاعره تجاه السلطان، فأهداه بعض علب الحلوى التي كان قد اشتراها من القاهرة قُبيل سفره إلى دمشق. كما أهدى السلطان جزءاً من قصيدة البوصيري الشهيرة في مدح النبي محمد. بعد أن رحل تيمور عن الشام، مخلفاً وراءه مدينة منكوبة، عاد ابن خلدون إلى القاهرة. هناك قضى سنواته الأخيرة في القضاء والتدريس. لكن ذكرى اللقاء لم تفارقه: سجّلها في التعريف بتفاصيل دقيقة، وكأنه أراد أن يترك للأجيال شهادة على ما رآه.
اختبار النظرية
مثّل اللقاء بين ابن خلدون وتيمورلنك فرصة عظيمة لاختبار العديد من النظريات التي طرحها المؤرخ التونسي في كتابه الشهير "المقدمة"، وهو الكتاب الذي اعتاد الباحثون المحدثون على النظر إليه باعتباره باكورة الكتابات المؤسسة لعلم الاجتماع.
على سبيل المثال، طرح ابن خلدون في كتابه نظريته عن سقوط وقيام الدول، فربطها بمفهوم العصبية والقبلية. يقول ابن خلدون في ذلك المعنى: "إنما تنهزم الدول إذا ذهبت عنها عصبيتها". هذا بالضبط ما رآه مؤرخنا في دمشق: المماليك فقدوا عصبيتهم، ففقدوا قوتهم وبأسهم بالتبعية، وبدأت دولتهم في الضعف والسقوط شيئاً فشيئاً، فيما نجح تيمورلنك في جمع العديد من الشعوب تحت رايته، وخلق لهم هدفاً مشتركاً ليحاربوا من أجله، مما قوى من عصبيته. كان المشهد إذاً "درساً عملياً" على صدق القاعدة التاريخية التي صاغها المؤرخ التونسي.
ولعل هذا ما دفع بعض الباحثين المحدثين، مثل المفكر المغربي محمد عابد الجابري، إلى القول إن: لقاء دمشق مثّل لابن خلدون "التجربة التطبيقية" لنظريته. يقول الجابري في كتابه العقل السياسي العربي: "لقد وجد -أي ابن خلدون-في تيمور برهاناً حياً على أن الدولة تقوم بالعصبية، وأن الممالك إذا ترهلت فإنها تؤول إلى زوال".
من جهة أخرى، عكس اللقاء المعضلة الدائمة لحدود العلاقة القلقة بين المثقف والسلطة. هل يواجه الطغيان بالمواجهة، أم يساوم لينقذ ما يمكن إنقاذه؟ وما هو دور المفكر في الأزمات السياسية؟ اختار ابن خلدون الطريق الثاني. وآثر أن يساوم تيمورلنك للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، ولذلك نراه وقد كتب العهد، وشارك في المفاوضات، وسعى إلى كسب ثقة الغازي. في هذا المعنى كتب المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه "العرب والفكر التاريخي" لافتًا النظر لحالة العجز التي لطالما أصابت قلم المثقف العربي أما سيف السلطان عبر التاريخ "لقد كان ابن خلدون في حضرة تيمور شاهدًا على حدود المعرفة: معرفة تصف التاريخ، لكنها عاجزة عن تغييره".
في سياق آخر، تحمل بعض تفاصيل اللقاء الذي وقع بين السلطان المغولي والمؤرخ المغاربي رتوشاً مغايرة للصورة النمطية التي اعتدنا أن نرسمها لابن خلدون في العصر الحديث. درج الباحثون المعاصرون على النظر لابن خلدون باعتباره المؤرخ الاجتماعي الذي وضع قواعد صارمة للحكم على صحة ودقة الأحداث التاريخية. كما اعتمدوه -أي ابن خلدون- مؤرخاً ناقداً فاحصاً، لا يقبل الروايات الخرافية أو الأسطورية.
على النقيض من تلك الصورة الإيجابية، ذكر ابن خلدون أثناء اللقاء أنه قد سمع أثناء وجوده في بلاد المغرب والأندلس من بعض الصوفية واليهود عن قرب ظهور ملك عظيم الشأن في المشرق. أخبر ابن خلدون تيمورلنك أنه هو المقصود من تلك الأخبار، وبشره بأنه الفاتح المنتظر الذي سيفتح العالم ويملك الدنيا.
في الواقع، لا نعرف مدى دقة تلك الأخبار التي ادعى ابن خلدون أنه قد سمعها بنفسه؛ تُرى هل أخترع المؤرخ المغاربي تلك الأخبار لخطب ودّ السلطان الدموي؟ أم أنه قد سمعها بالفعل من بعض المتصوفة، وأوَّلَها -هو- بالشكل الذي يتفق مع مصالحه وأهدافه؟ للأسف، لا يمكن الوصول إلى إجابات حاسمة على تلك الأسئلة الإشكالية، ولكن من المؤكد أن ابن خلدون، مع ألمعيته ونبوغه وتفوقه في مضمار البحث التاريخي، كان مفكراً خاضعاً لمعايير القرون الوسطى، بما فيها من ميل للغموض واستحباب لمعرفة الغيب وربط الواقع بالإشارات الرمزية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



