برغم كثرة تعرجاتها والتواءاتها وتضاريسها الوعرة، غير أن الوافدين إليها لم يتوقفوا يوماً عن زيارتها والإقامة فيها، من علماء ومؤرخين وهواة سفر وترحال، عن طريق البرّ، مستأنسين بشغب القرود وحيويتهم وظل الأشجار وعلوها، أو على ظهر السفن التي كانت تشق عباب البحر وأمواجه، والغاية كانت دائماً واحدةً: الوصول إليها وإن طال المسير أو الإبحار، لشمّ روائح غابتها الخضراء والوقوف على شموخ جبلها الأشم المعروف بـ"يمّا قوارية". فما قصة هذه المدينة الجاذبة والناضجة، وما العقد القوي الذي ربطها بالتاريخ والجغرافيا حتى حُفر اسمها في سجّل الخلود والبقاء؟
تعددت الأسماء وسحر المدينة واحد
"صالدي"، "الناصرية"، "بوجي"، و"بجاية"، والتسمية الأخيرة تعني "الشمعة"، لأنها أنارت طرق العديد من العلماء والطلاب، خاصةً الذين كانوا يقصدونها من أوروبا للتعلم، وكلها أسماء وصفات لبستها مع كل حضارة مرت عليها أو مستعمر سيطر عليها، ليستقر التاريخ على تسمية "بجاية"، وهي مدينة ساحلية ساحرة يحيط بها البحر الأبيض المتوسط من جهات عدة، ما يجعلها قبلةً سياحيةً بامتياز، بما تحتويه من غابات وشواطئ وآثار مهمة تغطي حقباً زمنيةً مختلفةً.
كانت بجاية إحدى عواصم دولة بني حماد الأمازيغية وأهمها، وقد حكمت هذه الدولة الكثير من أجزاء الجزائر بين 1014 و1152 م، بالإضافة إلى أن المدينة شهدت على النواة الأولى لدولة الموحدين
كان الوصول إليها صعباً قبل سنوات قليلة فقط، بسبب طرقاتها المتعرجة والمتداخلة، وتضاريسها الوعرة، وبعد تشييد العديد من الجسور والمنشآت الفنية والطرق السريعة، بات الوصول إليها يسيراً ومختصراً، ومن كل الجهات تقريباً، إذ توافر النقل إليها عن طريق الطائرات والقطارات والسيارات وحتى السفن.
هي عاصمة القبائل الصغرى، وتستحوذ على موقع جغرافي إستراتيجي مهم، إذ تقع شرق العاصمة، وتبعد عنها 250 كيلومتراً، تحاذيها وتبعد عنها مدينة تيزي وزو بـ93 كيلومتراً شرقاً، وولاية سطيف بـ70 كيلومتراً وتقع في شمال غربها، وجيجل بـ61 كيلومتراً، وهو المعطى الذي جعلها محل أطماع العديد من الحضارات القديمة، كالفينيقيين والرومان والوندال والبيزنطيين وحتى الإسبان في القرن الخامس عشر، الذين أحاطوها بالعديد من القلاع والتحصينات بعد أن استعمروها، لكن تم تخليصها منهم من طرف العثمانيين.
كما كانت إحدى عواصم دولة بني حماد الأمازيغية وأهمها، وقد حكمت هذه الدولة الكثير من أجزاء الجزائر بين 1014 و1152 ميلادي، بالإضافة إلى أن المدينة شهدت على النواة الأولى لدولة الموحدين التي حكمت العديد من الدول المغاربية. كما أن فكرة الدولة تأسست فيها وانطلقت منها، على يد كل من عبد المؤمن بن علي الكومي الندرومي الجزائري، والمهدي ابن تومرت المصمودي، مؤسسَي الدولة الموحدية، وهذا بعد الاجتماع الشهير الذي تم عقده في مسجد ملالة في أحد ضواحي بجاية القريبة.
زيارة أولى... قلب مثقل بالذكريات
برغم أن مدينة بجاية تستحوذ على جزء واسع من المرجعيات الثقافية والفنية التي كوّنت ثقافتي الشخصية، غير أن الأقدار لم تقدني إليها في السنوات الماضية، لهذا عقدت العزم هذه السنة على أن أشدّ إليها الرحال، تلبيةً لدعوة صديقي السينمائي حكيم عبد الفتاح، المدير الفني لـ"لقاءات بجاية السينمائية"، لحضور دورتها الثامنة عشرة التي عُقدت خلال الفترة من 23 إلى 28 أيلول/سبتمبر 2023.
وقد كانت الفرصة مواتيةً للوقوف على العديد من الأفلام المهمة، خاصةً الأعمال الناطقة باللغة الأمازيغية التي يتحدث بها سكان المنطقة، لأنها كانت النافذة المشرعة على هوية المنطقة، وعادات أهلها وتقاليدهم وثقافتهم وفضاءاتهم. كما استغللت هذا الحضور الأول لأقف على العديد من المعالم الأثرية والتاريخية التي صنعت أمجاد المنطقة، ومن بينها المدينة القديمة التي شيّدها الحماديون، وأقام فيها العلامة الشهير ابن خلدون طوال فترتين زمنيتين مختلفتين، الأولى دامت ثلاث سنوات في الفترة ما بين 1352 و1354، والثانية بين عامي 1365 و1366، وقد وصفها بقوله: "استبحرت في العمارة واتسعت في التمدن، ورحل إليها من الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها".
كما خبرت من قرب رهبة الفضاءات التاريخية والطبيعية المنتشرة في هذه المدينة، خاصةً أن إدارة لقاءات بجاية السينمائية، اختارت متحف برج موسى، وهي قلعة إسبانية قديمة تم بناؤها في القرن الخامس عشر، وأقيمت فيه العديد من الورشات والنشاطات السينمائية خلال فترة الفعاليات، وهي خطوة ذكية زرعت في الضيوف الحاضرين ذكريات قويةً من الصعب نسيانها.
أمام البحر وتحت ظل أشجار الفيكيس
ساحة "أول نوفمبر"، أو "بلاص غيدون"، كما كانت تُعرف سابقاً وتسمّى، هي من بين ساحات بجاية المهمة، اذ تمتاز بمعمار كولونيالي موروث من الحقبة الاستعمارية الفرنسية، ولا يزال محافظاً على هويته ورونقه وجمالياته. لديها إطلالة بانورامية مهمة جداً، تغطي ميناء بجاية العامر بالسفن وضجيج الآليات، والمميز في كل هذا أن الساحة تقع على مرتفع، وتقع أسفلها "سينيماتيك بجاية"، وهي قاعة عرض سينمائية من ثلاثة طوابق في الأسفل، جرت فيها فعاليات لقاءات بجاية السينمائية.
وتنتشر فيها طاولات المقاهي العامرة بالزبائن، سواء من سكان المدينة، أو من السياح والعابرين أمثالي، الذين يستظلون تحت أشجار الفيكيس التي لا تذبل أوراقها ولا تصفرّ، وتحافظ بشكل دائم على نضارتها وخضرتها وسحرها، وتعكس بشكل واضح جمال المدينة وتاريخها وكل من مرّ عليها وترك أثراً عميقاً، مثل فندق "نجمة" الذي يغطي جزءاً منها (هو حالياً قيد الترميم وقريباً يفتح أبوابه). ولقد تم بناء هذا الصرح السياحي ذي الإطلالة الاستثنائية في العهد الفرنسي، وقد أقامت فيه وجوه فنية وأدبية وسياسية عديدة عبر التاريخ، لكن أهم شخصية مرت عليه وأقامت فيه فترةً زمنيةً ليس بالقصيرة، الرئيس البرتغالي السابق "مانويل تيكسيرا غوميز" (1862-1941).
الغرفة رقم 13... الإقامة المحجوزة دائماً
ترجع أهمية الغرفة رقم 13 في فندق "نجمة" التاريخي الواقع في ساحة "أول نوفمبر"، إلى كونها الفضاء الذي اختاره الرئيس البرتغالي السابق "مانويل تيكسيرا غوميز"، الذي حكم البرتغال بين 1923 و1925، لتكون بيته ومنفاه الاختياري، لهذا ما زالت الغرفة كما تركها سنة 1941، بعد وفاته فيها، بأثاثها وسريرها وديكورها المعتاد. ولهذا باتت الغرفة محجوزةً بشكل دائم، حفاظاً عليها وعلى ذكرى هذا الرئيس الأديب.
ترجع أهمية الغرفة رقم 13 في فندق "نجمة" التاريخي الواقع في ساحة "أول نوفمبر" في بجاية، إلى كونها الفضاء الذي اختاره الرئيس البرتغالي السابق "مانويل تيكسيرا غوميز"، لتكون بيته ومنفاه الاختياري
كان "مانويل تيكسيرا غوميز"، مناضلاً شرساً في البرتغال، وهب كل وقته وجهده في الكتابة الصحافية التي دعا من خلالها إلى إسقاط النظام الملكي في بلاده، والتأسيس لدولة جمهورية، وعندما حدث هذا وتحققت أمنيته، تم اختياره ليكون سفيراً لبلاده في المملكة المتحدة، وبعدها سفيراً في عصبة الأمم المتحدة، ثم انتُخب رئيساً للبرتغال سنة 1923.
لكن بعد سنتين من الحكم، وقعت محاولة انقلاب ضده، لهذا سلّم السلطة وفرّ من البلاد، بعد أن أيقن أن هناك من سيصفّيه، فركب السفينة "زيوس" وانطلق بها، ليوصله القدر إلى مدينة بجاية.
الرئيس الذي اختبأ في ثوب أديب
عندما نزل الرئيس غوميز، أول مرة في الفندق، كان يعتقد بأن بجاية ستكون محطةً أوليةً يقرر بعدها منفاه، لهذا حجز الغرفة رقم 13 ليومين، وبعدها لأسبوع، ثم تحولت إلى مقر إقامة دائمة له وفي الغرفة نفسها.
اعتقد عمال الفندق بأنه كاتب فرنسي استهوته المدينة، لأنه كان يكتب بشكل مستمر، كما نشر العديد من الكتب والروايات، إلى أن جاء في أحد الأيام صحافي برتغالي ونقل لعمال الفندق هويته الحقيقية. وقد بقي على تلك الحالة، يكتب ويستمتع بأجواء المدينة، إلى أن توفي سنة 1941، وتم نقل رفاته في ما بعد من قبل دولته، ودُفن في البرتغال. كما تعاونت دولة البرتغال سنة 2006 مع الجزائر، لتدشين تمثال نصفي له في إحدى الساحات القريبة من الفندق. وقبل سنوات قليلة، أُنتج فيلم روائي مشترك بين الدولتين يحمل عنوان "زيوس"، وهو اسم السفينة التي حملته إلى الجزائر، وقد أخرج الفيلم باولو فيليب مونتيرو، سنة 2017.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه