هل المهرجانات السينمائية ملك للشعب أم للحكومة؟… إجابة إيرانية

هل المهرجانات السينمائية ملك للشعب أم للحكومة؟… إجابة إيرانية

رأي نحن والحرية

الجمعة 12 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

القسم الدولي لمهرجان فجر السينمائي في إيران، والذي ظل لسنوات أهم مهرجان سينمائي في إيران/طهران، كان من المقرر أن يُقام بشكل منفصل عن القسم الرئيسي في مدينة شيراز في تشرين الثاني/نوفمبر 2025. هذا القسم، الذي توقف لعدة سنوات، كان من المقرر أن يعود بحضور المخرج التركي الشهير والمحبوب، نوري بيلغه جيلان، الفائز بجائزة السعفة الذهبية في كان، كرئيس لجنة التحكيم. نوري بيلغه جيلان، الذي يحظى بشعبية واسعة بين عشاق السينما في إيران، تلقى دعوته بإيجاب، وهو ما أثار جدلاً واسعاً.

بعض الأشخاص، تحت مسمى "صانعو الأفلام الإيرانيون المستقلون"، الذين يقيم معظمهم خارج إيران وتشكّل أساس تنظيمهم في الخارج، بدأوا بمراسلة السيد جيلان مطالبيه بعدم المشاركة في مهرجان فجر، معتبرين أن حضور المهرجان يعني منح شرعية للنظام التوتاليتاري للجمهورية الإسلامية. في المقابل، شعر آخرون بالسعادة لوجود هذا المخرج الشهير.

القسم الدولي لمهرجان فجر، الذي استضاف في السنوات الماضية مخرجين كباراً مثل أوليفر ستون، فقد بريقه بشكل ملحوظ بعد تصاعد التوتر بين الجمهورية الإسلامية والعالم وبين الحكومة وشعبها، وكان هناك من يأمل أن يضيف حضور نوري بيلغه جيلان روحاً جديدة لجسد المهرجان الضعيف.

في بلدٍ تُقصَف فيه الأحلام، يصبح الإصرار على صناعة فيلمٍ فعلَ مقاومة، ويغدو مجرد البقاء على قيد الفن انتصاراً صغيراً لا يراه إلا أصحاب القلوب التي لم تتعب بعد

هذه القضية، إلى جانب مسائل أخرى، دفعتني إلى اتخاذ قرار بإعادة النظر في هذا الموضوع المهم، بل إنني شعرت بضرورة العودة إلى أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2019، المعروفة باسم "آبان الدامي" (آبان هو الشهر الثامن في التقويم الإيراني وتعادل أيامه تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر) إذ يمكن القول إن كل شيء بدأ منذ ذلك الحين.

في تشرين الأول/أكتوبر 2019، بعد زيادة أسعار البنزين بنسبة 200٪، خرج الناس في جميع أنحاء إيران إلى الشوارع للاحتجاج. فارتفاع أسعار البنزين يعني ارتفاع أسعار جميع السلع وتفاقم الفقر بين الناس. الشعب الإيراني، الذي ظل يعاني سنوات من ضغوط اقتصادية وسياسية واجتماعية متعددة، لم يحتمل هذا العبء الإضافي، فخرج للاحتجاج. خلال أيام قليلة، شارك الناس في 29 محافظة ومئات المدن. وكانت الحكومة على وشك أن تصل إلى حافة الأزمة، فقام النظام التوتاليتاري بما اعتاد عليه: القمع. هذه المرة، كان القمع أعنف وأشمل من أي وقت مضى.

تم قطع الإنترنت في جميع أنحاء إيران لمدة عشرة أيام متواصلة، دون أن يعود للحظة واحدة، وهکذا بدأ النظام في تنفيذ قتل جماعي دون أن تنتقل أخبار ذلك إلى الخارج. قُتل الكثير من الناس، وسُجنوا، واختفى آخرون. لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد القتلى، لكن بعض المصادر تشير إلى أن النظام قتل 1500 محتج خلال ثلاثة أيام، بينما يعتقد كثيرون أن العدد الحقيقي كان أكبر بكثير. وبسبب حجم القمع وغياب وسائل الاتصال، خفتت الاحتجاجات، ولُقبت تلك الفترة بـ"آبان الدامي".

في هذا الوقت، أصدر عدد من الفنانين الإيرانيين، نهاية تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019 (1398 في التقويم الإيراني)، بياناً بعنوان "صوت آبان 98" احتجاجاً على قتل المتظاهرين. جاء في البيان: "ماذا تفعلون بالشعب؟ أي نافذة تركتم لسماع صوت الناس؟ أي تجمع احتجاجي للشعب تحملتموه؟ أي حزب أو تنظيم يستطيع التعبير عن مطالب الناس تركتموه؟ هل ما زلتم تعتزمون حرمان الناس من أبسط حقوقهم الإنسانية وأبسط احتياجاتهم المدنية بالقوة؟ اعلموا أن صرخة مكبوتة في حناجر الناس ستظل خالدة في التاريخ".

لم تتقبل الحكومة هذا الاعتراض، وبدأت في استدعاء واستجواب الموقّعين على البيان. وكان الضغط على الفنانين الموقعين شديداً لدرجة أن بعضهم تراجع عن توقيعه.

لم تمض فترة طويلة على هذه المأساة التي أذابت روح الإيرانيين وجرحت قلوبهم حتى حدثت مأساة أخرى زادت من أوجاع الشعب الإيراني، وما تزال آثارها النفسية ملموسة في الروح الجمعية لنا جميعاً.

بعد مقتل القائد العسكري البارز قاسم سليماني على يد صواريخ أمريكية أطلقت بأمر دونالد ترامب، سعت الجمهورية الإسلامية للانتقام، وفي 8 كانون الثاني/يناير 2020 أطلقت صواريخ دون أن تعلن مسبقاً إغلاق الأجواء الجوية أو إلغاء الرحلات، فصدمت اثنان من تلك الصواريخ طائرة الخطوط الجوية الأوكرانية رقم 752، مما أدى إلى مقتل جميع 176 راكباً، باستثناء طاقم الطائرة. جميع الركاب من الإيرانيين، باستثناء الطاقم، كان معظمهم من المقيمين في كندا.

أنكر النظام الحادثة لمدة ثلاثة أيام وادعى أن الطائرة تحطمت بسبب عطل فني، لكن بعد تسريب بعض مقاطع الفيديو والأخبار من خارج إيران، لم يعد بالإمكان إنكار الحقيقة، فاعترف النظام بأنه أسقط الطائرة "عن طريق الخطأ".

لقد أثرت هذه الحادثة في وجدان الإيرانيين بشكل لم نشهد له مثيلاً من قبل. امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور وفيديوهات الركاب: وجوه مبتسمة ملؤها الأمل والحياة، أُطفئت فجأة بأيدي الداخلين للنظام.

خرج الناس مرة أخرى إلى الشوارع، هذه المرة لإقامة مراسم تأبينية. كانوا بحاجة للوقوف معاً لتحمل الألم، لتبادل الدعم، ولإشعال الشموع، لكن النظام اعتبر هذا العزاء عداءً له، فهاجم الناس في مواقع المراسم، فرّقهم واعتقل الكثيرين منهم.

لم يمض وقت طويل حتى بدأ مهرجان فجر السينمائي في شباط/فبراير 2020. قبل أسابيع من المهرجان، بدأت تكهنات بعدم مشاركة الفنانين احتجاجاً على أداء الحكومة خلال السنوات السابقة. كان مهرجان فجر تقيمه الجمهورية الإسلامية دائماً في ذكرى انتصار الثورة، وبعد أربعين عاماً من التكرار والمنافسة الشديدة على الجوائز، تغيرت الأمور فجأة في كانون الثاني/يناير 2020.

قرر العديد من الفنانين سحب أفلامهم التي تم اختيارها مسبقاً من لجنة المهرجان، والانسحاب من المشاركة. لكن الحكومة، لمواجهة هذا التمرد المفاجئ ومنع ظهور الاحتجاج، رفضت خروج الأفلام. وهكذا أُقيم المهرجان بحضور قليل من الجمهور والفنانين، وكانت جلسات الأفلام شبه خالية. المهرجان الذي كان يعج بالصفوف الطويلة والحضور النشط للفنانين أصبح فجأة خالياً وبارداً، وأدان الناس أولئك السينمائيين الذين حضروا، واعتبروهم موالين للنظام، فحدث شرخ عميق في المشهد السينمائي.

منذ ذلك الحين، قرر العديد من صانعي الأفلام والعاملين في السينما عدم التعاون مع الهيئات الحكومية، لا في المهرجانات التي تديرها الحكومة ولا في تلقي تمويل من مؤسسات تابعة لها.

مرت سبع سنوات، وهدأت بعض الأجواء. رغم أننا شهدنا ثورة مهسا، ثم جدل الفنانات اللواتي أزلن الحجاب ومُنعن مدى الحياة، والفنانات اللواتي استمررن بالحجاب واستمررن في العمل السينمائي، يمكن القول إن حالة الهدوء النسبي عادت، ويمكننا النظر إلى الماضي بعقلانية أكبر.

في هذه السنوات، كنا نحن الناس جميعاً نبحث عن طرق للمقاومة، بطرق لا تكلفنا حياتنا. هذه الرغبة في الفعل، جنباً إلى جنب مع استيائنا من النظام، دفعت الكثيرين إلى رفض المشاركة في المشاريع التي تشرف عليها الحكومة. قرر العديد من السينمائيين عدم العمل مع الهيئات الحكومية، ورفضت بعض الممثلات، سواءً الشهيرات أو الأقل شهرة منهن، الوقوف أمام الكاميرا بالحجاب. كان أملهن الوحيد أن يجدن مكاناً في الأفلام المستقلة الممولة بشكل مستقل.

في إيران، حيث تسيطر الحكومة على جميع المؤسسات، لا تختلف السينما عن ذلك. معظم الأموال الموجهة لصناعة السينما، سواءً في الصالات أو البث المنزلي، تأتي من مؤسسات تابعة للحكومة. لديهم أموال ضخمة ينفقونها على المشاريع المعتمدة، ومع وجود تضخم بنسبة 37٪ وفشل العديد من المشاريع المستقلة، تراجع الاستثمار المستقل تدريجياً.

في اقتصاد كهذا، إذا كنت ترغب في إنتاج فيلم مستقل، ففرصك ضئيلة جداً، إذ يمكنك تحقيق أرباح أكبر من مجرد شراء وبيع أوراق صغيرة بدلاً من المخاطرة بصناعة فيلم لا يحقق مردوداً.

سنوياً، يُنتج عدد قليل جداً من هذه الأعمال بميزانيات صغيرة. كثير من صانعي هذه الأفلام، وهم غالباً شباب حديثو العهد، رفضوا المشاركة في مهرجان فجر الحكومي. بالرغم من تشجيع البعض لهم، إلا أن معظم هذه الأفلام لم تُعرض في الخارج، ولم تحظَ بإقبال داخل إيران. مهما حاولنا، يظل مهرجان فجر هو الواجهة الرئيسية للسينما الإيرانية، وأي فيلم إيراني لا يُعرض فيه، لن يحصل على عرض عام.

تحت وطأة القمع والبطالة، يتكرر السؤال الذي يلاحق جيلاً كاملاً من الفنانين: هل يكفي الامتناع عن العمل مع الدولة لنحمي الفن، أم أننا نطفئ بأيدينا آخر ما تبقّى من نوره؟

بعد سبع سنوات من "آبان الدامي" وثلاث سنوات من حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، يمكننا رؤية تأثير رفض العمل مع الحكومة بشكل أوضح. أعرف ممثلة شابة وواعدة قررت بعد الحركة ألا تظهر أمام الكاميرا بالحجاب؛ ممثلة مليئة بالجنون الفني، أثارت إعجاب الجمهور بتقديماتها المسرحية وأفلامها القصيرة. صمدت ثلاث سنوات، لكن الضغط الاقتصادي والبطالة أجبرها على العودة إلى منزل عائلتها، وقد انتحرت مؤخراً. مثلها، الكثير من الشباب في السينما، الذين سمعنا مؤخراً عن حالات انتحار بينهم.

السؤال الآن: هل كان قرارنا صائباً؟ في دولة تسيطر فيها الحكومة الشمولية على كل أبعاد الفن، هل يجب التنازل لمجرد البقاء، أم يجب الاستمرار في العمل، والبحث عن طرق حتى لو صغيرة للحفاظ على الفن ونوره؟

ليس هذا السؤال جديداً. في ثمانينيات القرن الماضي، بعد الثورة الإسلامية، فرض النظام قيوداً صارمة على الفنانين، وحرم البعض من العمل، وسجن آخرين، وأجبر آخرين على الهجرة. لكن أولئك الذين صمدوا، مثل بهرام بيضايي وداريوش مهرجوي، حافظوا على شعلة الفن وثقافة السينما في إيران، على الرغم من القمع والرقابة.

الآن، بعد كل هذه السنوات، يجب أن نعيد تقييم الأمر. الأموال المستخدمة في مشاريع الحكومة هي أموال الشعب الإيراني. إذا لم نتمكن من الاستفادة من جزء من حصتنا، سيملأ الرأسماليون ووسائل الدعاية الحكومية الفراغَ، مما يضعف الثقافة ويزيد اليأس والفقر بين الناس.

على أي حال، جاء نوري بيلغه جيلان إلى إيران لحضور القسم الدولي لمهرجان فجر في شيراز، رغم كل الانتقادات والرسائل الاحتجاجية. ذهبتُ لأرى الأمور عن قرب. هل أعاد حضوره بريق المهرجان؟ لا. من خلال القاعات الفارغة والمراسم الخالية، كان واضحاً أن الشرخ العميق لم يُسد. الفنانون الكبار غابوا، أو هاجروا تحت الضغط، بينما حاول آخرون، بمالهم الكبير، ملء الفراغ، ولكن بلا فائدة.

الثقافة الغنية لدينا، التي حملها الفنانون في أصعب الظروف، بدأت تتحول إلى غلاف ضعيف، لا يوفّر ملاذاً للأجيال الجديدة ولا يثري عقولهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image