شكل آخر من الخفة... أنطولوجيا جز الشعر عند النساء

شكل آخر من الخفة... أنطولوجيا جز الشعر عند النساء

حياة نحن والنساء

الثلاثاء 11 نوفمبر 20259 دقائق للقراءة

في مشهد من فيلم "V for Vendetta"، يُجبر الثائر "V" رفيقته "إيفي" على حلق شعرها. تبكي أولاً وهي ترى خصلات شعرها تتساقط على الأرض، لكن مع انكشاف رأسها شيئاً فشيئاً، تبدأ ملامحها بالتحوّل، إذ لم تعد ضحية الخوف، بل امرأة تُخلق من جديد. 

وكأنّ المشهد جاء ليقول إنّ حلق "إيفي" لشعرها هو عبورٌ رمزي نحو ولادة سياسية أخرى، نحو ذات جديدة تنفصل عن ضعفها القديم وتتحرّر من سطوة المظهر، لتسير في طريقها نحو الثورة على النظام الشمولي.

استذكرت هذا المشهد بعد أن شاهدت مقابلة للممثلة ميس حمدان في مهرجان الجونة عام 2025، حيث ظهرت بشعر قصير جداً في قصة "بوي". 

في اللقاء، نفت ميس كل الافتراضات السائدة حول سبب فعلتها، وبيّنت أنّها لم تكن في علاقة عاطفية فاشلة، ولا تمرّ كذلك بحالة اكتئاب، وأوضحت ببساطة أنّها أرادت الخروج من نمطية شكلها المعتاد لتدخل في شكل جديد تجد نفسها فيه، شكل يعكس رغبتها في التجدّد والحرية الشخصية، وقد جاءت كلماتها لتدلّل على أنّها استخدمت حلق شعرها كوسيلة لإعادة تعريف نفسها.

كلام ميس يدفع للتفكير فيما يُعرف بـ"أنطولوجيا جزّ الشعر" عند النساء، ذلك الفعل الذي يظلّ يتأرجح بين الحرية والاضطرار، بين التمرّد والخضوع للظروف المختلفة. 

فكّرت في الدوافع التي تدفع النساء إلى ارتكاب هذا الفعل، وفي الأساطير الثقافية عن الجمال والأنوثة التي غالباً ما تُجبِر المرأة على اتخاذ شكل محدّد لجسدها ورأسها ومظهرها. 

وهنا بدأت الأسئلة تتوالى: لماذا تختار بعض النساء جزّ شعرهن؟ متى يكون الفعل اختيارياً؟ ومتى يتحوّل إلى استجابة للقيود الاجتماعية أو للحروب أو للألم الشخصي؟ هذه الأسئلة حملتني إلى رحلة استكشاف أعمق في أنطولوجيا الجزّ عند النساء، بين الخصوصي والسياسي، وبين الاضطرار والتمرّد.

أنطولوجيا جزّ الشعر عند النساء العربيات... بين الوجع والتمرّد

تعود جذور جزّ الشعر عند النساء العربيات إلى العصور القديمة، حيث تشير بعض المصادر الأدبية إلى أن النساء كن يقصصن شعورهن عند الحزن أو الفقد، كوسيلة صامتة للتعبير عن ألمهنّ، لا من طريق الكلام. 

الشعر يُعدّ علامة للجمال والأنوثة، لذلك كان التخلّي عنه في هذه المناسبات يكتسي دلالات رمزية قوية، فقد اعتبره البعض إشارة إلى الزهد أو إعلان صامت للحزن الشديد. ومن هذه الممارسة، يمكن رصد بداية الرمزية التي ربطت بين قصّ الشعر والتحوّل النفسي، وهو تفسير استخدمه الباحثون لاحقاً لقراءة الفعل في سياق التمرّد وإعادة تعريف الذات.

في كتابها "الكاتبات والوحدة" تشير نورا ناجي إلى أنّ إيمان مرسال هي التي وصفت هذا الفعل بـ"أنطولوجيا جزّ الشعر"، إذ كتبت مرسال عن عنايات الزيات في كتاب في "أثر عنايات الزيات"، وتحدّثت عن تلك اللحظة التي وقفت فيها عنايات أمام المرآة وقصّت شعرها في محاولتها الأخيرة للشفاء، كأنّها تحاول من خلال هذا الفعل أن تنسى كل الشرور التي لحقت بها؛ من رفض دار النشر لروايتها، ومن ذهاب حضانة ابنها إلى أبيه، ومن شعورها بالاغتراب، وكأنّها تريد أن تُعيد خلق ذاتها، لكنها انتحرت ولم تستطع النجاة.

تعود جذور جزّ الشعر عند العربيات إلى العصور القديمة، حيث تشير بعض المصادر الأدبية إلى أن النساء كن يقصصن شعورهن عند الحزن أو الفقد، كوسيلة صامتة للتعبير عن ألمهنّ، لا من طريق الكلام. في تلك اللحظات... قد يصبح الشعر عبئاً يجب التخلّص منه، فيكون الجزّ بمثابة إعلان عن فقدان لا يُحتمل

تخيّلت مرسال كل الكاتبات يجززن شعورهنّ مع كل خذلان، وكل خيبة، وكل وجع، وحوّلت الفعل الفردي إلى سيرة جماعية، إلى أنطولوجيا أنثوية من الحزن واليأس. نورا نفسها اعترفت أنّها قصّت شعرها في لحظات انهيارها؛ بعد انهيار حبّها الأول، وبعد طلاقها، كما فعلت الفنانة شيرين عبد الوهاب حين حلقت رأسها على العلن، تعبيراً عن الألم الناتج عن طلاقها، وخيبة علاقتها العاطفية مع حسام حبيب. 

في تلك اللحظات، قد يصبح الشعر عبئاً يجب التخلّص منه، فيكون الجزّ بمثابة إعلان عن فقدان لا يُحتمل، عن خيبة تُقال بمظهر الشعر الحليق لا بالكلمات.

لكن في حالات أخرى، يتحوّل الجزّ من علامة على الفقد والحزن والوجع إلى إعلان عن الحرية والتمرّد، ففي إحدى مقالاته حول تبنّي النساء العاملات في السعودية للقصّات القصيرة، يذكر هيثم التابعي أنّ قصة الـ"بوي" انتشرت بين النساء العاملات في المملكة، وباتت جزءاً من ملامح التحوّل الاجتماعي بعد الإصلاحات الليبرالية الاجتماعية التي قادها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

يذكر التابعي أنّ كثيراً من النساء السعوديات رأين في قصّ الشعر وسيلة للتعبير عن استقلالهنّ في العمل والحياة، وعن قدرة الجسد الأنثوي على أن يختار شكله، لا أن يكون كما يريده المجتمع. وذلك في إطار مشابه لما فعلته لينا فياض بطلة رواية "أنا أحيا" لليلى بعلبكي، حين قصّت شعرها لتعلن أنّ التصرّف في جسدها حقّها الطبيعي، وأنّه ملكها وليس ملكاً لأحد. وفي كل هذه التجارب، يبدو جزّ الشعر كأنّه مرآةٌ مزدوجة، تعكس وجع الأنثى حيناً، وتعلن عصيانها حيناً آخر.

أسطورة الجمال العربي... الشعر كقيدٍ ذهبي

في المخيال العربي، ظلّ الشعر طوال قرون "تاجَ المرأة" ورمزًا لأنوثتها المكرّسة، بل معياراً ضمنياً لقيمتها الاجتماعية والجمالية. 

لعلّ جزّ الشعر الذي تلجأ إليه النساء يحمل رمزيةً مزدوجة، فحين يخترنَ وقته وأسلوبه يرمز إلى الحرية والسيطرة على الذات، أمّا حين يُجبرن عليه، فهو رمزٌ للاضطرار والقيود التي يفرضها الواقع

غير أنّ ما يبدو في ظاهره مديحاً يخفي في جوهره قيداً ذهبياً، إذ يحوّل ما هو اختياري وجمالي إلى واجب اجتماعي يُقيّد حرية المرأة ويحدّد موقعها في العالم. فالشعر الطويل واللامع والمصفوف بعناية لا يُحتفى به بوصفه اختياراً شخصياً، بل كدليل انضباط ضمن منظومةٍ ثقافيةٍ واجتماعية تُملِي على النساء كيف يَكُنّ محبوبات ومقبولات.

تُحيل هذه المنظومة إلى مفهوم "أسطورة الجمال" كما تصفه نعومي وولف في كتابها "أسطورة الجمال: كيف تُستخدم صور الجمال ضدّ النساء؟"، إذ تعرّفها كمنظومة اجتماعية دقيقة تصنع من الجمال معياراً لقيمة المرأة، وتحوّلها إلى ساحة منافسة مستمرة مع أخريات، وفق أحكام وقيم ذكورية تفرض على النساء قيوداً خفية.

شَعر المرأة جزء لا يتجزّأ من المنظومة التي ذكرتها وولف، فهو قيدٌ ذهبي وأداة رمزية لضبط جسدها وتطويعه. فوجوده بأشكال معيّنة على رأسها يغدو شرطاً وجودياً لقبولها الاجتماعي. لذلك، فإن إقدام المرأة على التمرّد على هذا القيد الذهبي عبر الذهاب طواعية نحو قصّه، لا يُعدّ مجرّد تغييرٍ شكلي، بل فعلاً رمزياً لتحرير الذات من هيمنة الصورة المثالية المفروضة، وولادة سياسية جديدة لأنوثة تدرك أنّ قيمتها الحقيقية ليست في طول خصلاتها، بل في قدرتها على اختيار شكلها ووجودها بحرّية.

أنطولوجيا الجزّ في زمن الحرب... غزة كذاكرة مفتوحة

في ظلّ حرب الإبادة والتهجير التي استمرّت في غزة لمدة عامين، اضطرت بعض النساء الغزّاويات إلى قصّ شعورهنّ كاستجابة ضرورية للظروف القاسية التي تحيط بهنّ، حيث أصبح شعرهنّ الطويل عبئاً يصعب المحافظة عليه في ظلّ تلوّث المياه وغياب مستلزمات النظافة ونقص الخصوصية في أماكن النزوح المكتظّة.

في مثل هذه الحالة، لا يُنظر إلى الجزّ كاختيار جمالي أو رمزي تمرّدي، بل كحلٍّ عملي للتكيّف مع واقع الحياة القاسية، فهو فعلٌ يحمي النساء من المخاطر الصحية ويخفّف عنهنّ عبء الانتباه المستمرّ لمظهر الجسد، فالجزّ هنا فعل بقاءٍ ومحاولةٌ لمواجهة ظروف قهرية فُرضت من الخارج.

من زاوية أنطولوجيا الجزّ، يمكن قراءة هذا الفعل كإعادة ترتيبٍ للعلاقة بين المرأة وواقعها، إذ تلجأ المرأة إلى التخلّي عن جزءٍ من رموز أنوثتها التقليدية حتى تستطيع التكيّف ومواجهة الظروف غير الإنسانية المحيطة بها في أزمنة الحرب.

بين الحرية والاضطرار... مَن تمسك بالمقصّ؟

في عام 2021، قرأتُ لمارغريت دوراس عبارة في رواية "العاشق" تصف فيها صورةً لها أيام شبابها بأنّها "الصورة الوحيدة التي أتعرّف فيها إلى نفسي، والتي تسحرني"، وشعرتُ كأنّها تتحدّث عني. بعد أن قرأتُها، ذهبتُ ووقفتُ أمام المرآة أراقب وجهي بعدما قصصتُ شعري على الطريقة الفرنسية، كانت تلك لحظة تعرّفٍ صافٍ بيني وبين صورتي، لحظة بدا فيها وجهي كما تخيّلته منذ الأزل. 

في كتابها "أسطورة الجمال: كيف تُستخدم صور الجمال ضدّ النساء؟"، تشير نعومي وولف إلى منظومة اجتماعية دقيقة تصنع من الجمال معياراً لقيمة المرأة، وتحوّلها إلى ساحة منافسة مستمرة مع أخريات، وفق أحكام وقيم ذكورية تفرض على النساء قيوداً خفية

لم يكن قصّي لشعري تمرّداً ولا رغبةً في لفت الانتباه، بل كان استعادةً لصورة داخلية ظننتها ضائعة. هناك، أمام الزجاج، همستُ لنفسي بدهشة طفلة: "يا إلهي، كم أشبه نفسي" ولعلّ ما أسرني في صورتي في تلك القصة التي ما زلتُ أصرّ عليها، أنّني مارستُ عبرها فعلاً حرّاً بالكامل، يخصّني وحدي، خارج منطق التعويض أو الفقد أو الخيبة أو التمرّد، كأنّه اقترانٌ وتماهٍ مع صورة متوقّعةٍ للذات طالما تطلّعتُ إليها.

لكنّ الحرية الشخصية في التمسّك بالمقصّ لا تلغي حقيقة أنّ العديد من النساء يُجبرن على الفعل ذاته من دون اختيارٍ حقيقي، بل استجابة للواقع القاسي. ففي زمن الحرب، تضطرّ بعض النساء إلى قصّ شعورهنّ حفاظًا على النظافة أو لتسهيل حياتهنّ اليومية، فتتحوّل عملية القصّ من فعلٍ جمالي إلى فعلٍ تكيّفي بحت، مرتبط بالبقاء. وفي الوقت ذاته، تلجأ الكثير من النساء إلى هذا الفعل للتعبير عن خيباتٍ عاطفية أو مراحل انتقالية في حياتهنّ، فكلّ خصلةٍ مقصوصةٍ قد تحكي فقدًا أو نهاية علاقة، أو بداية فصلٍ جديدٍ من رحلة الحياة.

لعلّ جزّ الشعر الذي تلجأ إليه النساء يحمل رمزيةً مزدوجة، فحين يخترنَ وقته وأسلوبه يرمز إلى الحرية والسيطرة على الذات، أمّا حين يُجبرن عليه، فهو رمزٌ للاضطرار والقيود التي يفرضها الواقع. 

وما بين تجربتي الشخصية وتجارب هؤلاء النساء، يتّضح أنّ الشعر ليس مجرّد رمزٍ للأنوثة، بل مسرحٌ تتداخل فيه الحرية والاضطرار، ويعكس صراع المرأة الدائم بين ما تريد لنفسها وما يفرضه عليها العالم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image