في كل عرض تقدمه المخرجة المصرية ليلى سليمان ثمّة رغبةٌ ملحة أو فكرة لجوجة تتوق للتعبير عنها وإيصالها إلى المتلقي. في عرضها الجديد "قصة..."، استمدّت سليمان حافزَها من تجربة شخصية قوامها الألم والخذلان فقررت أن تسحبَها من منطقة الظل لتتشاركها مع الجمهور، بعدما ضفرتها بقصصِ نساءٍ أخريات عشن تجاربَ مؤلمة في رحلة الأمومة: الفقد، الإجهاض، عدم الإنجاب.
القصص تُقدَّم عبر فيديو توثيقي يتخلل العرضَ المسرحي وترافقه رقصاتٌ تعبيرية لشيرين حجازي، التي تروي التجارب بإيماءات جسدها وخطواتها. الحكاياتُ التي يرويها الوثائقي سوف تنسج مع الرقصات والموسيقى وعناصر العرض، فُرجةً مسرحية لن تمرَّ من دون أن تترك أثرها لدى المتلقي.
ليلى سليمان مخرجة وكاتبة مسرحية مستقلة قدمت عبر 15 عاماً، عروضها على خشبات عديدة في مصر والعالم، عالجت فيها قضايا عابرة للجغرافيا والإنسانية.
بداية القصة
بدأت الفكرة في حصة للرقص الشرقي تنفذها ليلى سليمان، كمحاولة للخروج من الاكتئاب الذي تسبب به موتُ ابنها الأول بعد أيامٍ من ولادته. "خلال الحصة بدأت دموعي تنهمر دون توقف، ودون أن أوقف الحركة أمام المرآة، شعرتُ وكأن جسدي ينفصل عن محيطه ليعيشَ ألمه ويُخرج ما به من ثِقل". هذا ما تقوله ليلى لرصيف22، وهي تستحضر مشهداً لسعاد حسني من فيلم "خلي بالك من زوزو" لحسن الإمام، عندما تتعرضُ والدتُها الراقصة تحية كاريوكا للتنمر من الحاضرين بقولهم لها "يا فاشلة يا فاشلة يا شوية مرتديلا"، وهي التي جاءت لتحيي حفل زفاف كانت ابنتها من بين المدعوين، فألقت سعاد حسن "زوزو" ثوباً كان يغطي كتفها وحَزمت الشال على خصرها، ثم أجلست أمها وبدأت تتمايل برقصة تحكي قصصاً أبعدَ بكثير من الإغواء.
"في تجربتي مع الحمل والولادة والموت والحزن، كنت أشعر دائماً أن ثمةَ ما هو أكبر من الكلمات، وأن الكلمات قد تعجز في التعبير عمّا نشعر به ضمناً، بينما قد يصل الرقص إلى أماكن أبعدَ وأعمق في الروح"
تؤكد المخرجة، بأن للرقص لغة فريدة قادرة على التعبير وإيصال مشاعرَ قد يعجز عن إيصالها الكلام: "في تجربتي مع الحمل والولادة والموت والحزن، كنت أشعر دائماً أن ثمةَ ما هو أكبر من الكلمات، وأن الكلمات قد تعجز في التعبير عمّا نشعر به ضمناً، بينما قد يصل الرقص إلى أماكن أبعدَ وأعمق في الروح، ويوضح التعابيرَ التي تخوننا بها اللغة المحكية".
وتضيف: "يقال أيضاً إن للرقص الشرقي جذوراً إفريقية تعتبره نوعاً من أنواع التعبير عن الخصوبة، وكان الرقص لدى القبائل والشعوب هناك مرتبطاً بالمرأة، بينما حوضُها هو جوهر الخصوبة ومركز الحركة أيضاً".
وتكشف سليمان أنها ربطت بين هذه الفلسفة وبين قصتها التي كانت تعتبرُ أنها وحيدة فيها وفي حزنها، ثم لاحقاً تلاقت قصتها مع تجارب نساء أخريات أردن سرد حكاياتهنّ وإيصال أصواتهنّ للفضاء العام: "كان مهماً لي أن أجري هذه المقابلات والنقاشات، وأن تروى القصص وتصل، لعل هذا يخفف وحدةَ سيدات أخريات، أو على الأقل يُحدث تغييراً في شكل هذه التجارب المؤلمة، بألا تبقى في الظل ومسكوت عنها".
حمل العرض اسم "قصة..." مفردةٌ مفتوحة على احتمالاتٍ كثيرة، إذ هاتان النقطتان تحيلان إلى "قصة الولادة والموت، قصة النساء، وقد تكون قصة الحياة كاملة" كما تقول المخرجة.
خلال الفيديو التوثيقي الذي صممته السينوغراف السورية الفلسطينية بيسان الشريف، تظهر سيداتٌ من أعمار متباينة وجنسيات متنوعة، انشغلن بالعلاقة مع الجسد والخصوبة، برغباتهنّ بالإنجاب من عدمه، بقدرتهنّ أو في عدمها، يتحدثن عن آلام الحمل والولادة، وما تلاها من تعب أو فقد أو فجيعة. بعضهنّ تجاوز آلام التجربة وأخريات ما زلن يعشن الوجع أو يستحضرنه مع كل ذكرى.
تختلف الملامح والأصوات أيضاً لكن آثار التجارب باديةٌ على غالبية الوجوه، بخاصة من خلال العيونِ القادرة بنظراتها وخطوطها على إيصال الحكاية كاملةً، تُعزز ذلك اللقطات القريبة التي اتخذتها كاميرا ليلى سليمان، عن قصد، وتعلل بقولها: "أردتُ أن تكون اللقطات قريبة من أجزاء الوجه واليدين، العيون مرآة الروح، الفم من أهم الأجزاء الحسية في الجسم، اليدان قادرتان على إيصال ما لا نود التعبير عنه أحياناً جميعها مفرداتٌ ترسم مساراً موازياً للقصة".
هارموني الجسد والحكاية
إلى جانب الفيديو التوثيقي، يحتل المسرحَ جسدٌ أنثوي يستهلُّ حركته ببطء، ومع تطور العرض ينثني جسد الراقصة بحركات تعبيرية تُذيّلها ببعض الرقص الشرقي، مزيجٌ تواءمَ مع مضمون العرض، كانت صممته الراقصةُ برفقة المخرجة متكئةً على مفردات الرقص الأوليّة، الحوض والبطن واليدين، وتشحنها بعواطفها لتلتقي بثالوث الخلق والأمومة، القلب والحوض واليدين.
عبر حركاتها المكثفة وتمايلاتها المُحمّلة بالمشاعر والمعاني، تروي الراقصة شيرين حجازي حكايات الألم والفقد، تعبّر عن كل مرحلة بإيماءات الجسد المصدوم والحزين الذي يتوارى بعيداً من الحياة، وحيداً مع غضبه ورغبة عارمة في الانتقام، بينما ينهار ويستسلم، ثم يقرر النهوضَ ثانية، واستقبالَ الحياة مرة أخرى.
"لنا الحق في الانكشاف والانهيار وفي سرد حزننا بعيداً من الأقنعة ومحاولات التخفّي"
تركت شيرين حجازي مهنةَ الهندسة وذهبت مع أحاسيسها إلى التعبير الجسدي ولاقت في الرقص فضاءً آخر للحكي. في هذا العرض تقول إنها اشتغلت مع ليلى سليمان ساعاتٍ مستمرة من التجريب والتغيير لتترجم مقولة العرض وتتقنها، لدرجة أن حولت جسدها إلى ورقة كُتب عليها نص العرض. وأكدت لنا أن "حركات الرقص ليست تكميليةً، بل هي قطعة أساسية من لوحة البازل التي شكلت العرض، تكمّل الوثائقي وترفع من مستوى الموسيقى فترشقنا بمزيد من المشاعر".
تضيف لرصيف22: "جميع الحركات كانت قائمة على التجريب، أحدد بالمشاركة مع ليلى كيف أحرك جسدي بأجزائه وأدواته بالتناغم مع ما تقوله السيدات، مع أصواتهن، كلامهن، وسكوتهن أيضاً، مع الدموع والآلام التي تتجلى أيضاً في حركات يديَّ وبطني وخطواتي، فتشتعل الحركة باشتعال الصوت وتنطفئ عندما يخبو".
من خلال التعبير بالرقص عن قصتها، شرّعت شيرين حجازي الأبوابَ للحزن كي يخرج، للثقل وللخذلان أيضاً، فتكتشف كذلك أنها ليست وحيدة في حكايتها، وأن لها الحق في التعبير والعودة بالذاكرة وإخراج عمّا كان في الظلّ لسنوات إلى الضوء. وتتابع "لنا الحق في الانكشاف والانهيار وفي سرد حزننا بعيداً من الأقنعة ومحاولات التخفّي".
للموسيقى حكايةٌ أيضاً
يحملنا هذا العرض الموسيقي الراقص إلى عوالم من الخيال نتوه فيها مع النوتات ونتمايل مع الأجساد متخفّفين من قساوة الحكايات. بين السكون والحركة، بين الصمت والموسيقى، يتفوّق مزيج الأصوات الذي نسجته نانسي منير من الكمنجة والقولة والثيرمن مع خشخشة ألعاب وإيقاعات موسيقية أخرى. مزيجٌ يضعنا في النقطة الموسيقية التي أرادت نانسي أن نكون فيها، نقطة خيالية تربط بين الذاكرة وبين الحاضر.
يحملنا هذا العرض الموسيقي الراقص إلى عوالم من الخيال نتوه فيها مع النوتات ونتمايل مع الأجساد متخفّفين من قساوة الحكايات
نانسي منير موسيقية مصرية تعيش صحبةً متينة مع موسيقاها وآلاتها، الأمر الذي أثمر أعمالاً فريدة بتنوعها وجدتها، بين الجاز والميتال والموسيقى التصويرية، بينما تعتبر العمل مع ليلى سليمان الذي يعود لأكثر من عقد مضى، إضافة لرحلتها الفنية ودائماً ما يحمل لها المزيد من المفاجآت والشغف.
من الأسماء النسائية التي شاركت في صناعة عرض "قصة…" المنتجة مريم أكمل والمساعدة في تصوير الفيديو أبيجايل تشين. وللرجل حضور أيضاً، في حكايات النساء أولاً، وكذلك مشاركاً في التنفيذ، فالإضاءة صممها صابر السيد وهندسة الصوت كانت لمحمد صبري، والإدارة التقنية لأحمد عشماوي.
الجدير بالذكر أن المسرحية عُرضت يومي 21-22 تشرين الأول/ أكتوبر في القاهرة على مسرح روابط خلال مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة "دي كاف"، واستضافه أحد مسارح برلين في ألمانيا منذ أيام (29-30 نوفمبر) في حين ينتظر عرضه على أحد المسارح الإسبانية في الصيف المقبل بحسب قول المخرجة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



