فتاوى أونلاين...  ماذا تفعل بحياتنا اليومية؟

فتاوى أونلاين... ماذا تفعل بحياتنا اليومية؟

ثقافة نحن والخطاب الديني

الأربعاء 12 نوفمبر 20258 دقائق للقراءة

في زمن يزدحم بالرسائل والإشعارات التي لا ينقطع وصولها على الهاتف المحمول، جلست هناء (اسم مستعار) وهي ممسكة بهاتفها وهي تشعر بالتردد والحيرة بخصوص مسألة دينية تتعلق بحياتها الخاصة لا تدري من تسأل، إلى أن ظهر اعلان لموقع فتاوى دينية اثناء تصفحها لحسابها الشخصي على الفيسبوك، فقررت أن تضغط على زر "اسأل-اتصل" وهي مرتابة، فأتاها صوت هادئ ممزوج بحكمة يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أختي الكريمة. تفضلي بسؤالك.

الفتوى في الفضاء الرقمي من المرجعية إلى السوق

لم تعد الفتوى في العالم العربي مجرد خطاب فقهي يصدر عن مؤسسة دينية رسمية أو عن شيخ يقبع في مسجده، فمنذ مطلع الألفية ومع انفتاح الفضاء الرقمي انتقلت الفتوى إلى منصات متعددة عبر شبكة مواقع الإنترنت، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي. فهذا الانتقال لم يكن قاصراً على التطور التقني والتكنولوجي فحسب، بل شكّل انعكاساً مباشراً لأوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية متشابكة. ويشير المؤشر العالمي للفتوى في تقاريره (2021، 2023) إلى أن أكثر من 60% من الفتاوى المتداولة عبر الإنترنت تأتي في سياق استهلاكي سريع، يغلب عليها الطابع الجدلي أو الرد على قضايا آنية، مثل الطلاق الشفهي والمهر والمساواة في الميراث ولباس المرأة. ويؤكد المؤشر أن تسليع الفتوى أحد أخطر التحولات، حيث أصبحت بعض الفتاوى تُستغل لجذب متابعين وإعلانات ما يحول الدين إلى سلعة رقمية.

لم تعد الفتوى اليوم تُصاغ في هدوء الزوايا والمساجد، بل في ضجيج المنصات وموجات الإنترنت

أما من الناحية السياسية تدرك الأنظمة العربية أن الفتوى الرقمية لم تعد تحت السيطرة الكاملة للمؤسسات الرسمية، كالجامع الأزهر أو دور الإفتاء. لذلك نشهد محاولات مستمرة لإعادة الهيمنة عبر الرقابة أو عبر إظهار أصوات محسوبة على المؤسسات التقليدية، خصوصاً في لحظات التوتر السياسي. فالفتوى هنا تتحول إلى أداة لضبط المجال العام، خصوصاً في قضايا النساء التي تمثل دائماً ساحة اختبار شرعية للخطاب الديني، واجتماعياً فإن ازدياد استخدام النساء للشبكات الرقمية جعلهن في قلب هذا الجدل، فلم يعد حضور المرأة مجرد مُتلقية للفتوى، بل صارت فاعلة عبر الترويج لرؤى نسوية بديلة. وعلى سبيل المثال لا الحصر فالباحثة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها "الحريم السياسي، النبي والنساء"، وصفت هذا التحول بأنه "تحرير للفضاء العمومي من احتكار الذكور"، بينما ترى المفكرة والطبيبة المصرية نوال السعداوي في مؤلفها "عن المرأة والدين والأخلاق" أن المعركة حول الجسد والحرية الجنسية هي المعركة السياسية الأولى في المجتمعات الأبوية.

السلفية والرؤى النسوية... صراع على المعنى داخل الفضاء الرقمي

هنا يظهر الاشتباك الأكثر وضوحاً من جهة الرؤية السلفية التي تصر على القراءة الحرفية للنصوص، والرؤى النسوية والإصلاحية التي تسعى لإعادة تأويل النص بما يتناسب مع متغيرات العصر من جهة أخرى، حيث إن الرؤية السلفية ترى أن الفتوى الرقمية فرصة لتوسيع نفوذها فمع بساطة أدوات النشر، يستطيع دعاة غير مؤهلين أكاديمياً تقديمَ خطاب متشدد يصل إلى ملايين المتابعين. وهذا ما رصده المؤشر العالمي للفتوى حين أكد أن "التيار السلفي هو الأكثر استغلالاً للفضاء الرقمي لنشر خطاب متشدد يعيد إنتاج ثنائية الحلال والحرام بشكل ضيق".

هذه الرؤية تقدم نفسها كحارس للنصوص، لكنها تُهمل أثر الزمن والسياق الاجتماعي، بل ترفض أي اجتهاد نسوي يطالب بإعادة النظر في قضايا، مثل الميراث أو شهادة المرأة. وعلى الضفة الأخرى تقدّم عالِمات من الأزهر مثل الدكتورة سعاد صالح ("مصراوي"، 25 تموز/يوليو 2025) قراءة أكثر انفتاحاً حين قالت بأنه ليس هناك مانع فقهي من أن تتولى المرأة جميع المناصب العامة بما فيها الرئاسة، فالفقهاء الذين منعوا ذلك عاشوا في سياقات سياسية مغايرة. كما تؤكد الدكتورة آمنة نصير في حوار صحافي أجرته صحيفة "الخليج" الإماراتية في آب/أغسطس 2013 أن فهم النصوص القرآنية لا ينفصل عن سياقها التاريخي والاجتماعي، معتبرة أن القرآن نزل لمصلحة الإنسان والمرأة إنسان كامل الأهلية.

كذلك الرؤى النسوية العربية تسعى إلى إعادة تعريف المرجعية، فالباحثة المصرية هبة رؤوف عزت في كتابها "المرأة والعمل السياسي: رؤية اسلامية"، تطرح منظوراً سياسياً نقدياً يربط بين تهميش المرأة واستبداد الدولة، معتبرة أن غياب النساء عن المجال السياسي ليس مسألة دينية، بل انعكاس لبنية استبدادية أوسع، بينما ترى المرنيسي أن إعادة تأويل التراث ضرورة لبناء مجتمع متوازن، مشيرة إلى أن أخطر ما فعله الفقه التقليدي هو مصادرة حق المرأة في الكلام باسم الدين، كما كشف هذا الاشتباك بين السلفية والرؤى النسوية، بجلاء، أن المعركة ليست فقهية فقط، بل سياسية واجتماعية، فالسلفية تقدم خطاباً يرسخ الطاعة للنظام الاجتماعي الأبوي، بينما الخطابات النسوية الإصلاحية تفتح المجال أمام مساءلة البنية نفسها، وهو ما يجعلها دائماً عرضة لهجوم مزدوج من المؤسسة الدينية الرسمية ومن القوى السياسية المحافظة.

المجتمع والسياسة... الفتوى كأداة صراع يومي

الفتوى الرقمية ليست مجرد اجتهاد ديني، بل هي ساحة صراع اجتماعي وسياسي يومي؛ ففي مصر مثلاً تبرز هذه الحقيقة في النقاشات حول الطلاق الشفهي، حين أعلن الرئيس المصری عبد الفتاح السيسي عام 2017 رغبتَه في إصدار قانون يشترط توثيق الطلاق رسمياً، بينما رفض الأزهر ذلك مؤكداً أن الطلاق الشفهي يقع شرعاً، وهذا الجدل لم يكن فقهياً بحتاً، بل صراعاً بين سلطة سياسية تريد ضبط المجال الاجتماعي على حد وصف الفيلسوف الفرنسي فوكو في مفهوم السلطة الانضباطية وسلطة دينية تخشى فقدان مرجعيتها.

وفي قضايا النساء يظهر الصراع أوضح حين تنتشر فتوى سلفية تعتبر عمل المرأة فتنة، فنجد ردوداً نسوية عبر السوشال ميديا مستخدمة لغة الحقوق الدستورية والمساواة، وهكذا تتحول الفتوى إلى مادة للنزاع بين رؤيتين: رؤية محافظة تعيد إنتاج الهيمنة الذكورية ورؤية نقدية تحاول توسيع فضاء الحرية. فقد أوضح المؤشر العالمي للفتوى أن الفتاوى الخاصة بالمرأة تمثل أكثر من 30% من مجمل الفتاوى الرقمية في المنطقة العربية، وهو ما يعكس أن قضايا المرأة هي "الملعب الأساسي" للصراع الرمزي بوصفها الطرف الأضعف والمقهور اجتماعياً.

وعندما ننظر إلى الأبعاد الاجتماعية نجد أن هذه الفتاوى غالباً ما تبرر استمرار أنماط التمييز والتهميش، مثل حرمان المرأة من بعض المهن أو تقييد حضورها في المجال العام، في حين أن الخطابات النسوية الإصلاحية تحاول فتح أفق أوسع للحرية سياسياً واجتماعياً. لذا تسهم الفتاوى الرقمية في إنتاج شرعية للسلطة أو نقدها -نقد السلطة بالطبع في أندر الحالات-. فالتيارات السلفية تستخدم الفتوى لدعم خطاب الطاعة السياسية ورفض الاحتجاج وقمع الحريات الشخصية والاجتماعية بشكل عام، والتحريض ضد حرية المرأة وحقوقها بشكل خاص، بينما تستعملها الحركات الإصلاحية لتقديم خطاب مشروع عن العدالة الاجتماعية والمطالبة بحقوق النساء المهمشات، وهكذا يصبح الجدل الفقهي أداة ضمن صراع أوسع على شكل الدولة والمجتمع.

أي مستقبل للفتوى الرقمية في العالم العربي ينتظرنا؟

إذا كان الماضي قد أثبت أن الفتوى أداة لتوجيه المجتمع والسياسة، فإن المستقبل يشير إلى أن الفضاء الرقمي سيضاعف من هذا الدور لكن بطريقة أكثر تعقيداً،. ومع تزايد حضور الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفتاوى كما بدأت بعض المؤسسات الرسمية في تجريبه، سيطرح سؤالاً ملحاً: من يملك شرعية الكلام باسم الدين؟ هل ستظل المؤسسات التقليدية كالأزهر ودار الإفتاء هي المرجع أم ستظهر منصات رقمية مستقلة تتحدى هذا الاحتكار؟

في فضاءٍ يتقاطع فيه الصوت النسوي مع الصوت السلفي، لم يعد الصراع حول النص فحسب، بل حول من يملك حق تفسيره

إلا أنه من المؤكد أن التيار السلفي سيحاول الاستفادة من هذه الفوضى التقنية من أجل توسيع نفوذه مستخدماً بساطةَ خطابه وقابليته للتداول السريع، وفي المقابل ستزداد قوة الرؤى النسوية الإصلاحية التي وجدت في الفضاء الرقمي سلاحاً لم يكن متاحاً من قبل. ومن المرجح أن تصبح النساء أكثر فاعلية في إنتاج خطاب بديل، ليس فقط بالرد على الفتاوى التقليدية، بل بالمشاركة في صياغة اجتهادات جديدة تعكس واقعهن وتطلعاتهن.

أما سياسياً فسوف يظل الصراع قائماً حول ضبط المجال العام عموماً، والديني خصوصاً. فالأنظمة ستسعى دائماً لتقييد أي خطاب ديني يهدد استقرارها من أجل ضمان استمرار هيمنتها القوية على المجتمع، خاصةً الطبقات الوسطى والدنيا اللتان من الممكن أن تنتفضا في وجه السلطة حالما تزداد الأوضاع المعيشية تردياً وتصل إلى ذروة التناقض الطبقي.

لكن الفضاء الرقمي سيجعل السيطرة أصعب وستنتقل الفتوى من كونها قراراً مركزياً إلى أن تكون فضاءً مفتوحاً يتنازع عليه الفاعلون المختلفون في الدولة، المؤسسة الدينية، الحركات السلفية، والناشطات النسويات.

واجتماعياً يمكن أن نتوقع أن الفتوى الرقمية ستفقد تدريجياً نمطها التقليدي، لتتحول إلى خطاب أقرب إلى رأي فقهي، خصوصاً مع تصاعد وعي الشباب والنساء وهذا ما قد يفتح الباب أمام شكل جديد من التدين الفردي القائم على الانتقاء والنقد، وهو ما قد يضعف مركزية المؤسسة التقليدية. وبناءً عليه، فمستقبل الفتوى الرقمية إذاً مرهون بقدرة المجتمع العربي على إعادة تعريف العلاقة بين الدين والسياسة والحقوق القانونية الدستورية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image